ياسر أبو معيلق يكتب: شمال أفريقيا .. وفرص "ثورة خضراء"

ياسر أبو معيلق يكتب: شمال أفريقيا .. وفرص "ثورة خضراء"
هنالك تهافت ثانٍ على أفريقيا، يعقب بأكثر من قرن ما سُمي بـ"التهافت على أفريقيا" من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية آنذاك، التي قسمت القارة السمراء فيما بينها ونهبت ثرواتها واستعبدت شعوبها.
لكن التهافت الجديد أكثر نعومة، وبعيد كل البعد عن الاستعمار العسكري المباشر: تهافت ظاهره التنمية الاقتصادية، وباطنه السيطرة على الموارد الهامة والنادرة التي تزخر بها القارة الأفريقية.
في هذه اللعبة الكبيرة، بدأنا نتعرف على جانبين: الصين، والتي أدركت كنوز أفريقيا واحتمالات استغلالها مبكراً، واستغلت تاريخها "النظيف" مع الأفارقة، حتى باتت استثماراتها هناك أكثر وضوحاً وجرأة من ذي قبل، والاتحاد الأوروبي، الذي استيقظ من سباته قبل سنوات قليلة فقط وأصبح يسابق الزمن لمواجهة تعاظم نفوذ بكين في القارة الجارة.
لكن .. وحتى الآن، لا تبدو دول شمال أفريقيا (مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا) هدفاً أساسياً لهذا التهافت. نعم، بكين تقيم علاقات تجارية ودبلوماسية قوية مع عدة دول شمال أفريقية، ولكن استثماراتها المباشرة فيها لا تقارن باستثماراتها في العمق الأفريقي، خاصة في الدول التي تمتلك معادن نادرة وهامة، كالبوكسايت والماس واليورانيوم، أو لها موانئ على الساحل الأفريقي أقرب للموانئ الصينية...
مؤخراً، زارت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، المغرب، وأعلنت عن استثمارات في "التقنيات الرقمية والخضراء" بقيمة ١٫٦ مليار يورو، وهو مبلغ متواضع مقارنة بالاستثمارات الصينية.
هذه الاستثمارات جزء من خطة "البوابة الدولية" (Global Gateway)، التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي لمواجهة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية العملاقة، بقيمة إجمالية تصل إلى ٣٠٠ مليار يورو، نصفها (حوالي ١٥٠ مليار يورو) سيذهب لدعم التحول التكنولوجي والأخضر في الدول المستفيدة، وهو هدف غير مطروق بقوة من الصين، وعبرت عنه فون دير لاين بشكل صريح خلالها خطابها حول حال الاتحاد في سبتمبر ٢٠٢١، إذ قالت:
"نحن الأفضل في تمويل مشاريع بناء الطرق، ولكن من غير المنطقي على الإطلاق لأوروبا أن تمول طريقاً جديداً ليربط بالنهاية بين منجم نحاس مملوك للصين وميناء تديره الصين؟!"
إذن، نحن الآن أمام تنافس دولي محموم في أفريقيا، ودول شمال أفريقيا الناطقة بالعربية (لأن هناك من يشعر بالحساسية من تسميتها بالدول العربية) تبدو مستثناة من كل هذه الأموال - ما عدا المغرب بمبلغ متواضع.
فما العمل؟
* لو نظرنا إلى دول عربية تتمتع بنفوذ إقليمي أو دولي محترم، كالسعودية، مثلاً، سنجد أن نفوذها ليس حصيلة ثروتها النفطية والمالية فقط، بل أيضاً لأنها تقود تكتلاً كبيراً يحتكر مورداً طبيعياً ضرورياً لكل الدول الصناعية، ألا وهو البترول: كلمة السعودية في هذا التكتل (أوبك وأوبك بلس) هي العليا منذ عقود، وذلك يعتبر أهم أوراق الضغط في أيدي صانعي قرار المملكة لمواجهة التدخلات في شؤونها.
* قياساً على ذلك، هنالك نافذة استراتيجية لدول شمال أفريقيا من أجل التركيز - بشرياً ومواردياً - على استخراج وتصنيع الهيدروجين الأخضر "وقود المستقبل":
- دول شمال أفريقيا تمتلك آلاف الكيلومترات من السواحل المطلة على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي - سواحل تتميز بأنها مشمسة طوال العام تقريباً، ويسود جزءً كبيراً منها رياح قوية.
- هذه الظروف مواتية للغاية من أجل بناء محطات توليد الهيدروجين الأخضر من مياه البحر، وباستخدام طاقات خضراء كالطاقة الشمسية أو طاقة الرياح.
- لا توجد استثمارات وطنية (باستثناء مشاريع برستيج هنا وهناك) في مجال الهيدروجين الأخضر في دول شمال أفريقيا، بعكس دول أفريقية مثل ناميبيا أو جنوب أفريقيا، والتي قطعت شوطاً هاماً في هذا المجال.
- لا يتضح من التصريحات الحكومية في دول شمال أفريقيا أي رغبة حقيقية في التركيز على رفع المستوى العلمي والأكاديمي لشباب تلك الدول في المجالات المتصلة بالهيدروجين الأخضر: المساقات والشهادات العلمية والتأهيل الفني والمهني في تشغيل المنشآت أو صيانة وتصنيع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح. غالبية الشباب ما زال يبحث عن شهادات البرستيج القديم، كأن يكون مهندساً أو محامياً أو طبيباً، أو يلهث وراء وهم "لا تكن عبداً" وإنشاء "إمبراطورية الأعمال"، بدل التفكير ببراغماتية وبما يحتاجه الزمن الآن ولاحقاً...
* الإشكالية الأهم التي تواجه دول شمال أفريقيا هي عدم وجودها ضمن إطار موحد لها تحديداً، رغم امتلاك قواسم جغرافية ولغوية ودينية كثيرة تضمن حالة معقولة ومقبولة من الانسجام السياسي. سبب عدم حدوث ذلك هو الصراعات السياسية المتأصلة في فكر الدول (لاسيما بين الجزائر والمغرب)، ورغبة كل دولة في المنطقة في تزعم أي تكتل!
* يتوجب على تلك الدول التعامل مع إرث الماضي والنزاعات المتجذرة بحزم وسرعة إذا ما أرادت استغلال هذه النافذة قبل أن تغلق: الفكر البراغماتي هنا سيفيد حكام المنطقة على المدى المتوسط والطويل، لاسيما فيما يتعلق بالمناورة على الساحة الدولية ضمن تكتل موحد يصعّب على الأقطاب الدولية التلاعب بها مما لو كانت منفردة. أعتقد أن التأسي بتجربة السعودية ضمن "أوبك"، أو دول الخليج ضمن مجلس التعاون، سيكون مهماً في عملية البحث عن الإطار المناسب لجمع الفرقاء.
* تحليلي الشخصي هو أن نافذة الهيدروجين الأخضر ستظل مفتوحة حتى نهاية العقد الحالي (أي حتى ٢٠٣٠). بعد ذلك، ستكون دول بعينها قد فرضت هيمنتها وأقامت البنى التحتية اللازمة لتوليد ونقل وإبرام عقود بيع إنتاجها من الهيدروجين الأخضر.
* فيما تبقى من هذه النافذة (ست أو سبع سنوات)، أعتقد أن دول شمال أفريقيا ستكون قادرة على إعادة صقل اهتمامات الجيل المقبل على الجامعات وتوجيهه نحو مساقات أكاديمية متعلقة بالهيدروجين الأخضر، وإبرام اتفاقات التعاون العلمي والأكاديمي لرفع الكفاءة المحلية، وحتى التأهيل المهني في التخصصات الرديفة، مثل صيانة المنشآت وتشغيلها، وبناء الألواح الشمسية أو توربينات الرياح.
* بالتوازي، يمكن لتلك الدول البدء بإقامة علاقات عابرة للحدود والتنسيق سياسياً واقتصادياً بين الإدارات الوطنية لمشاريع الهيدروجين الأخضر، والاتفاق على إطار زمني (وسعري) مناسب لكل شعوب المنطقة.
* يتوجب على دول شمال أفريقيا تجاوز الحساسيات التاريخية وإدراك أن كونها ضمن كتلة مشتركة سيضاعف من أرباحها وفي ذات الوقت، سيقلل من خسائرها بتوزيعها على بقية الأعضاء، وسيمنح كلاً منها أوراق ضغط للمستقبل، من خلال التحكم بمورد طاقة يتفق الجميع على كونه "محرك المستقبل".
* أخيراً، وكشخص يعمل في المجال الإعلامي، أرى أن الإعلام لعب دوراً مفصلياً تأجيج النعرات القومية والقبائلية على حساب المصالح الإقليمية، إلا أنه أيضاً قادر على إخماد هذه النعرات وتوجيه الطاقة الكامنة بداخلها فيما هو نافع لجميع الأطراف.
(الصورة: مشروع توليد الهيدروجين الأخضر في بورت نولوث بجنوب أفريقيا. الحقوق: Construction Review Online).