الأستاذ خيري حسن يكتب: ووحدك انتصرت!

الأستاذ خيري حسن يكتب: ووحدك انتصرت!

 

” لماذا ذهب؟..والتقديرات كلها بعد معارك يوم السبت تشير إلى أن العدو سوف يحاول في الغد (الأحد ٩ مارس - ١٩٦٩) أن يثأر لخسائره ” كان هذا هو السؤال الذي دار في ذهن الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل - وربما في عقل غيره من الجماهير المصرية والعربية - وهو جالس في مكتبه بصحيفة الأهرام بعدما علم بنبأ استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية (من ١١ يونيو/ حزيران ـ ١٩٦٧ ـ وحتى ٩ مارس / آذارـ ١٩٦٩) على الجبهة في أكثر المواقع تقدما بين الجنود!

هيكل ترك سؤاله، والورقة، والقلم، وسيجاره الشهير، وفنجان قهوته السادة، وحزن يعتصر قلبه - حسب قوله - ووقف في صمت ودهشة”! بعد لحظات تحرك بعصبية ـ تبدو طبيعية في مثل هذه الأوقات ـ واضحة على ملامحه حتى اقترب من زجاج النافذة، ووقف بجوارها ليلقي نظرة عابرة، ونافذة، وعابثة على شارع الجلاء/ بوسط العاصمة.

والذي بدأ يتسرب إليه من ناحية محطة سكة حديد مصر (منطقة رمسيس)! المئات من البشر في طريقهم إلى ميدان التحرير استعدادا لوصول (ووداع) جثمان الشهيد عبد المنعم رياض من مستشفى المعادي العسكري بعدما استشهد وفارق الحياة.

من وراء النافذة عاد هيكل ووقف بجوار المقعد الذي كان قد جلس عليه عبد المنعم رياض عندما زاره قبل شهر من الآن وجلسا معاً يتبادلان الحديث حول تطورات الموقف في ظل حرب الاستنزاف التي يقودها بجدارة، وجسارة، وذكاء، وفداء.

وقتها لم يكن يعرف ـ ولا هيكل بالطبع ـ أن هذا سيكون آخر لقاء، وآخر فنجان قهوة له معه!

(الجبهة – ١٩٦٩)

وجاء صباح الأحد ٩ مارس الذي ركب فيه طائرة هليكوبتر في طريقه إلى أحد المطارات الأمامية. من المطار ركب سيارة عسكرية يرافقه فيها مرافق واحد بخلاف السائق. بدأت السيارة تتجول في المواقع الأمامية. وبالقرب من أحد المواقع توقفت، واقترب منه ضابط شاب، ووقف يتبادل معه الحديث. بعد دقائق قال له الضابط بحماس الشباب وتصميم المقاتل: “سيادة الفريق.. هل تجئ لترى بقية جنودك في الموقع؟ ثم أردف قائلاً:” سيسعدهم وجودك بينهم”! رد الفريق بسعادة: ” نعم…نعم.. هذا يسعدني” وبالفعل تحرك الضابط أمامه إلى الموقع.. الآن ذهب…”لماذا..لماذا ذهب”؟

( الموقع – بعد ثلاث دقائق)

كان الموقع عبارة عن حفرة كبيرة ( معروف برقم ٦ بالاسماعيلية) يدور حوله الضرب على فترات متتابعة في تبادل للضرب، والضرب المضاد بيننا وبين مدفعية العدو. فجأة توقف الضرب ( أثناء حديث القائد والضابط) وفجأة عاد الضرب يقترب وبقوة. حتى أن النيران غطت المنطقة كلها. أمام كثافة النيران كان على الجميع الهبوط إلى حُفر الجنود بالموقع، وكانت الحفرة التي نزل إليها عبد المنعم رياض تتسع لشخصين أو ثلاثة بصعوبة. بعد لحظات انفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع. وأحدث انفجارها تفريغاً للهواء مفاجئاً وعنيفاً. الحفرة لا تبعد عن مرمى المدفعية الإسرائيلية سوى ٢٥٠ مترا فقط!

(الموقع – بعد الانفجار)

القتال بدأ عند الساعة الثانية والربع بعد ظهر اليوم. والانفجارات تتوالى، وخسائر العدو خلال الساعات الماضية، وصلت إلى ٢٣ دبابة و٢٦ بطارية مدفعية و١٠٠ قتيل وجريح. في الموقع أكثر من ضابط وجندي والفريق عبد المنعم رياض يتابع الموقف معهم.. العدو يكثف من إطلاقه للنيران. الآن الساعة اقتربت من الخامسة مساء…عندما سقطت قنبلة مباشرة على الموقع، ولم يصب أي جندي أو ضابط بأكثر من حرق سطحي من الشظايا. إلا أن القدر يتدخل عندما بلغ فيها القصف مداه حول القائد، فحدث له شبه انفجار في جهازه التنفسي..” لماذا…لماذا ذهب؟!

( الموقع- بعد مرور ساعة)

الآن استشهد البطل الذي ترك كلية الطب من أجل الالتحاق بالكلية الحربية التي تخرج فيها عام ١٩٣٨ كملازم ثان في سلاح المدفعية ثم خاض المعارك في العلمين عام ١٩٤١ وفلسطين ١٩٤٨ والعدوان الثلاثي ١٩٥٦ ويونيو ١٩٦٧ وحرب الاستنزاف التي كبد فيها العدو خسائر وهزائم فادحة. بعدما سقط جسده بهدوء وسكينة تقدم الجنود والضباط وحملوه على صدورهم هادئاً، مستسلماً للموت الذي ما خافه يوماَ.. ثم تقدموا بسرعة إلى سيارته التي جاء بها، وانطلقت السيارة في صراع ما بين الموت والحياة إلى أقرب مستشفى (مستشفى الاسماعلية العام). وهناك حاول الأطباء قدر استطاعتهم لكنه – هذه المرة – كان قد استسلم للموت شهيداً، وسعيداً بالشهادة في سبيل الوطن، بعدما “عاش قائداً.. ومات معلماً” في موقعه ووسط جنوده وزملائه الذين واصلوا المعارك من بعده حتى إن البطل إبراهيم الرفاعي (انتقاما لمقتله) قد قاد هجوما كاسحاً بعد أيام على الموقع الذي انطلقت منه النيران على عبد المنعم رياض ونجح – ومعه 43 ضابطا وعسكريا- في تدميره وقتل ٢٦ جندياً إسرائيليا كانوا فيه في عملية انتقامية، فدائية، باهرة!

( القاهرة – مسجد عمر مكرم)

اليوم ١١ مارس والساعة اقتربت من الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم الحزين عندما وصل جثمانه إلى المسجد من مستشفى المعادي العسكري الذي نقل إليه بطائرة هيليكوبتر.

هيكل في مكتبه الآن ترك مقعده، وذكرياته، وأحزانه، وفنجان قهوة لم يشربه، وبقايا سجائر متناثرة، وترك - أيضا - سؤاله (لماذا ذهب؟!)

 وترجل من مبنى الصحيفة حتى وصل إلى المتحف المصري في طريقه للمسجد. بصعوبة حاول الوصول لكنه فشل من شدة تزاحم الجماهير الباكية، الغاضبة (وصل عددها إلى مليون تقريباً) والتي جاءت مهرولة لوداع البطل الشهيد في مشهد جنائزي مهيب غير مسبوق يتقدمها الرئيس جمال عبد الناصر. ووسط هتافات، ونداءت وصرخات صادقة، وثائرة، وهادرة، تتغنى وتهتف باسم البطل عبد المنعم رياض .

وعند هذه اللحظة ( لحظة النداء والتضحية والفداء)

 وهذه الصرخة (صرخة الحزن والثأر والانتقام)

وهذا المشهد ( مشهد البكاء والوداع والدعاء)

عرف هيكل - ومَن معه منْ جماهير الأمة المصرية والعربية - لماذا عبد المنعم رياض في هذا اليوم - يوم ٩ مارس١٩٦٩- بالتحديد ذهب إلى جبهة القتال؟!

عرف بعدما استمع - وهو يقف بين الحشود - إلى صوت امرأة تحمل طفلها الصغير ( وتشير إليه) قائلة:

            " بكرة يكبر.. ويجيلك..يا غالى"!