المسرح القومي بين الأمس واليوم
صرح عظيم شاهد على تاريخ المسرح في مصر، مازالت خشبته تحمل آثار أقدام عمالقة الفن.
على مقربة من حديقة الأزبكية تلك البقعة التي أنشأ فيها المسرح القومي والتي كانت تعرف باسم بركة الأزبكية نسبة إلى الأمير أزبك اليوسفي المملوكي والذي أنشأ قصره على ضفافها وتبعه العديد من الامراء في بناء قصورهم الفاخرة والزاهرة مستمتعين بالمنظر الجذاب للبحيرة وما يحيطها من خضرة وفي عصر الدولة العثمانية كثرت أماكن عرض خيال الظل على ضفاف البحيرة وكانت من الاماكن المميزة التي ينشدها المصريون ليلا. وفي العام ١٧٩٩م كانت مصر تقع تحت الاحتلال الفرنسي؛ فأنشأ الفرنسيون ادارتهم خارج القاهرة على ضفاف هذه البركة بعد ثوره القاهرة وتبع ذلك انشاء العديد من المسارح منها مسرح لنابليون انشأه للترفيه عن الجنود، ولكن تم حرقه وتدميره ابان ثورة القاهرة وأعاد بناء المسرح الجنرال (مينو) وأطلق عليه مسرح (الجمهورية والفن) وكان موقعه بغيط النوبي قرب مركز البركة وتم ازالته وهدمه بعد جلاء الفرنسيين.
وفي العام ١٨٧٠م؛ أمر الخديوى إسماعيل حاكم مصر بتحويل هذه البركة إلى حديقة غناء على غرار حديقة لوكسمبورج بباريس حتى أنه استورد نفس أنواع وأعداد الأشجار الموجودة بالحديقة الباريسية وأسند المهمة إلى مسيو لشفياري مفتش المزارع الخديوية والأميرية آنذاك. وتم افتتاحها رسميا عام ١٨٧٢م وكانت على مساحة ١٨ فدانا، وعلى مقربة من منها أنشأ اسماعيل المسرح الكوميدي (مبنى المطافئ حالياً) ودار الأوبرا الملكية عام ١٨٦٩م؛ وأعدها لاستقبال ضيوف قناة السويس كما أنشأ في الحديقة مسرحا صغيراً والذي شغله مسرح يعقوب صنوع رائد المسرح المصري وكان بمثابة أول مسرح وطني ليقابل ويواجه مسرح الطبقة الأرستقراطية كما كان هذا المسرح مقصد الفرق الأوربية التي تفد على مصر لتقدم عروضها للأجانب المقيمين في مصر، كما تم به عرض للفانوس السحري عام ١٨٨١م، والعديد من العروض المسرحية والسحرية.
وفى العام ١٩١٧م، أسست شركة ترقية التمثيل العربي (جوق عبد الله عكاشة وأخوته وشركاهم) وذلك باتفاق كل من عبد الخالق باشا مدكور وطلعت حرب وزكي وعبد الله عكاشة وأسسوا الشركة المساهمة لتقوم بالإنفاق على فرقة عكاشة وتمويلها، فقامت الشركة بتأجير مسرح الازبكية لمدة ٥٠ عاماً بإيجار سنوي وقدره ١٢ جنيها بموجب عقد يسمح للفرقة بتجديد بناء المسرح وتم طرح أسهم الشركة للاكتتاب حتى وصل رأس المال إلى ٨٠٠٠ جنيه لتغطي تكلفة البناء الجديد.
قام بتصميم المسرح وتنفيذه المهندس فيروتشي الايطالي الجنسية والذي كان يشغل منصب مدير عام المباني السلطانية في ذلك الوقت وقد صمم المسرح من الداخل على التصميم المعماري الذي كان سائدا في ذلك العصر من ناحية الصالة البيضاوية على هيئة حدوة فرس وكان تصغيراً لتصميم مسرح الاوبرا الملكية المصرية وقد تم تصميم العديد من المسارح على غرار هذا المسرح مثل مسرح وسينما محمد على بالإسكندرية عام ١٩٢٢م ( مسرح سيد درويش)، ومسرح طنطا ومسرح ريتس عام ١٩٢٣م، ومسرح دمنهور ١٩٢٥م، ومسرح الريحاني عام ١٩٢٦م، ومسرح معهد الموسيقى العربية عام ١٩٢٨م، ويرجع فضل اختيار الطراز العربي للتصميم المعماري للمبنى الي طلعت حرب والذي أنشأ في نفس العام بنك مصر على نفس الطراز والزخرفة المعمارية العربية.
لم ترق فرقة عكاشة للمستوى المرجو منها في دعم المسرح الجاد فلقت خسائر مادية عالية فلم يقدم زكي عكاشة المهارة الفنية المرجوة وذلك أدى لتراجع الاقبال على عروض المسرح والذي تم تأجيره في معظم الاوقات للفرق الاجنبية لتقديم عروضها.
وفي العام ١٩٣٤م، وعلى أثر تدهور حالة المسرح وقلة الحضور استأجرت شركة مصر للتمثيل والسينما المسرح لتقدم عروضها السينمائية به وسعت لتصفية شركة التمثيل العربي ونقلت حقوق الامتياز لها في مقابل ٣٥٠٠٠ جنيهاً وتم اعداد الحديقة الأمامية لتكون سينما صيفية وتم تجهيزها بالمعدات الحديثة لذلك.
وفي العام ١٩٣٥م، أسست وزارة المعارف الفرقة القومية برئاسة الشاعر خليل مطران وقد سمي المسرح على اسم الفرقة سنة ١٩٥٨م، وفي بداية تأسيسها اتخذت الفرقة من مسرح دار الأوبرا مكانا لعروضها وذلك حتى العام ١٩٤١م، والتي تم الاتفاق فيه مع شركة مصر للتمثيل والسينما على أن تقدم الفرقة عروضها على مسرح حديقة الأزبكية وذلك بعد ضمها لوزارة المعارف والتي كانت تتبعها شركة مصر للتمثيل والسينما في نفس الوقت.
ومنذ بداية عهدها وضعت الفرقة القومية أسس المسرح الجاد الهادف والذي تعاقب على قيادتها العديد من عمالقة فن المسرح في مصر والذين قدموا لنا ليس فقط مسرحيات عالمية، بل ملاحم مصرية لا تقل عن مثيلتها الأوربية حبكة أو مضمون هادف بناء. وبعد قيام ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م، تحول اسمه إلى «المسرح القومي».
مر على مبنى المسرح القومي عدد من مراحل التطوير بدأت في عام ١٩٤٠م؛ عندما قررت الفرقة القومية أن تشغله وفيها تم تعديل خشبة المسرح وتغيير الأثاث بالصالة بالكامل وفرش الأرضية بالسجاد وإصلاح المداخل وبعدها هناك نقطتان هامتان في مسار حياته المعمارية، حيث أُجريت تعديلات جوهرية في مبنى المسرح العام ١٩٦٠م، وفي العام ١٩٨٣م تمت تجديدات للمسرح والتي وصلتنا صورتها المعمارية حاليا وتلك المرة شملت تجديدات في شكل المسرح خارجيا وتعديلات داخلية في المسقط الأفقي.
وفي مساء يوم السابع والعشرين من سبتمبر العام ٢٠٠٨م؛ تعرضت خشبة المسرح وصالة العرض لحريق هائل الحق اضرارا بالغة بجميع عناصر مبنى المسرح وبعد رفع مخلفات الحريق قررت وزارة الثقافة اجراء مشروع ترميم وتطوير متكامل للمسرح القومي ليعود وبقوة لأداء دورة في الحياة الفنية وبتجهيزات وامكانات القرن الحادي والعشرين وكان اكبر ضرر للحريق على المسرح تأثيره البالغ على جميع العناصر الإنشائية بالمبنى و تم اسناد أعمال الدراسات والتصميم لمجموعة من الخبراء في هذا المجال وأجريت الدراسات الفنية و التحاليل لتحديد مدى سلامة العناصر الإنشائية لمبنى المسرح وتقدير حجم الأضرار الناجمة على العناصر الحاملة للتوصية بالإجراءات الواجب أتباعها لإمكان استخدام المبنى من عدمه. وقد جاءت الدراسات بناء على التحليل الإنشائي للمبنى ورصد العيوب والمشاكل وقد تبين ثبوت تحرك جميع العناصر من ركائزها أو تصدعها أو فقد أتزانها أو تجاوز تشكيلاتها الدور المسموح به.
وبناء على جميع أنواع الدراسات الهندسية والاختبارات المعملية التي اجريت على الخرسانات القديمة فقد اجمع الاستشاريون على عدم صلاحية كل من قبة المسرح وسقف خشبة المسرح الذي انهار جراء الحريق من الناحية الإنشائية لتفتت وشروخ الخرسانة وعدم صلاحية حديد التسليح جراء التأثير الشديد للنيران على هذه الخرسانات القديمة ولعدم مطابقتها للكود المصري الحالي لأعمال الخرسانات.
سبق البدء في أعمال ترميم وتطوير المسرح القومي مجموعة من الدراسات والتصورات لأسلوب وفلسفة مشروع التطوير طبقا لاحتياجات تشغيل المسرح وبما لا يتعارض مع كون المبنى القديم مسجلا في عداد الآثار وتم التوافق عليها من جميع الهيئات ذات الصلة بالمسرح.
وراعى التصميم المقترح العلاقات مع المبنى الآثري القديم ومن أهداف المشروع إعادة إحياء مبنى المسرح القومي بعد تعرضه للدمار بعد الحريق ،إزالة التعديات التي طالت مبنى المسرح على مدار عقود طويلة وإعادة المبنى لأصله الأثري ،توفير كافة الخدمات للجمهور طبقًا للمعايير الدولية ،توفير التقنيات اللازمة للحفاظ على قيمة المبنى وسلامة الجمهور ،تجهيز المسرح بأحدث تقنيات العرض المسرحي العالمية ليواكب تطور العصر ،إعادة إحياء عناصر المبنى من زخارف جصية وملونة بعد الحريق ،و شمل مشروع ترميم وتطوير المسرح القومي محاور عدة هي : أعمال الترميم الإنشائي ،أعمال الترميم المعماري ،أعمال التجهيزات الفنية للمسرح ،توفير الخدمات الأساسية لمبنى المسرح ،اعداد متحف لتاريخ ورواد المسرح القومي، انقسم العمل في بداية أعمال الترميم الدقيق للمسرح الى قسمين رئيسيين اولهما أعمال ترميم الزخارف الجصية التي لم تصلها النيران او اثرت عليها تأثيرا بسيطا يمكن علاجه وترميمه وتقويته وتمثل هذا النوع في زخارف قاعة عبد الرحيم الزرقاني بالمدخل وكذلك اسقف القاعات الملحقة بها حيث تمت مراعاة الحفظ الكامل لتلك الزخارف وعدم استبدال او استكمال أي جزء منها وتلخصت الأعمال في ازالة بقايا السناج ( تأثيرات دخان الحريق ) وأعمال التنظيف اليدوي والكيمائي لتلك الزخارف ثم أعمال تقوية وعزل نهائي لها مع اجراء بعض الرتوش اللونية لها لإظهار وحداتها الزخرفية وتمثل ايضا في سقف قاعات الدور العلوى للمسرح . وكانت أعمال الترميم والحفاظ على الواجهة الأثرية القديمة والوحيدة الباقية من عصر انشاء المسرح بمثابة عودة الروح لهذه الواجهة التي عانت كثيرا من الإهمال وعدم اجراء أي نوع من أنواع الحفظ والصيانة لها وذلك لموقعها المعزول بعد بناء مسرحي الطليعة والعرائس في نهاية الخمسينات من القرن الماضي.
وفي ديسمبر العام ٢٠١٤م، تم إعادة افتتاح المسرح وشارك في حفل إعادة الافتتاح، رئيس الوزراء إبراهيم محلب ووزير الثقافة جابر عصفور و كرم رئيس الوزراء خلال الحفل عددا من الممثلين والممثلات. كان الشاعر خليل مطران أول مدير للمسرح وتلاه عدد كبير من الأساتذة على رأسهم جورج أبيض ويوسف وهبي، وفى فترة الثورة تولى رئاسة المسرح أحمد حمروش وآمال المرصفي وكانا من أهم المديرين رغم كونهما من الضباط الأحرار ولكن قدما خدمات مهمة للمسرح، ثم جاء بعد ذلك مخرجو الستينات الكبار منهم نبيل الألفي، وسيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب، وحمدي غيث، وسعد أردش، وكرم مطاوع، بالإضافة إلى الفنان محمود ياسين الذي قدم مجهوداً مميزاً، وكان من أبرز المديرين في تاريخ المسرح».
وعلى مدار عمر المسرح تم تقديم مجموعة من أعمال المؤلفين العالميين والعرب، وحتى المؤلفين المحليين، فتم تقديم أفضل عروض لـموليير وشكسبير، بجانب وجود عدد من الممثلين المهمين في تاريخ المسرح قد لا يكونون معروفين بهذا القدر في السينما مثل عفاف شاكر شقيقة الفنانة شادية، ومن نجوم المسرح أيضاً نادية السبع، وملك الجمل ونعيمة وصفى.
وهناك خمسة مخرجين أجانب قدموا عروضاً على خشبة المسرح منها (أنطونيو وكليوباترا) لمخرج إنجليزي.
ومن أبرز الأعمال:
(أهل الكهف) لنص الكاتب توفيق الحكيم مع إخراج زكى طليمات، وأوبريتات مهمة حققت نجاحاً مثل (يوم القيامة، وشهرزاد)، فضلاً عن عروض ثورية قدمت لتعبر عن روح ثورة يوليو. وتألق عمالقة تمثيل المسرح على خشبته.
ويظلّ المسرح القومي مستمرًا في تقديم عروضه المسرحية المُميَّزة، التي لا تنطفأ أضوائه منذُ أن أصبح ركيزةً أساسية في عالم المسارح المصرية،
المصادر
- كتاب (حكاية المسرح القومي.. منارة الفكر والإبداع) للباحث المسرحي عمرو دوارة.
- مجلة مسرح أنا، تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
- الصفحة الرسمية لوزارة الثقافة المصرية.
- موقع الهيئة العامة الاستعلامات.
- موقع بوابة الأهرام.