قراءة في اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر في حرب فلسطين

قراءة في اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر في حرب فلسطين
بقلم / عمرو صابح
اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر خلال مشاركته في القتال في حرب فلسطين هى أول وثيقة بخط يد جمال عبد الناصر تعبر عن مشاعره وانطباعاته كضابط مصري يقاتل ضد العدو الصهيوني في فلسطين، وتنبع أهميتها من كونها مكتوبة وجمال عبد الناصر خارج السلطة.
بدأ جمال عبد الناصر تدوين يومياته الشخصية في يوم 3 يونيو 1948 وانتهى تدوينه لها في يوم 30 ديسمبر 1948، فقد توقف جمال عبد الناصر عن الكتابة وهو في منتصف جملة كان يكتبها بسبب تجدد الهجمات الإسرائيلية على موقع كتيبته .
في عام 1978 قام الأستاذ محمد حسنين هيكل بنشر الطبعة الأولى لكتاب "يوميات جمال عبد الناصر عن حرب فلسطين" وقد احتوى على 3 أجزاء:
الجزء الأول ويضم يوميات جمال عبد الناصر عن حرب فلسطين التي صاغها الأستاذ هيكل ونشرها في مجلة آخر ساعة عام 1955 .
الجزء الثانى ويحتوي على اليوميات الرسمية لجمال عبد الناصر والتي تنشر كاملة لأول مرة.
الجزء الثالث ويحتوي على اليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر التي سجلها بنفسه في دفتره الشخصي، والتي نشرت لأول مرة ضمن الكتاب.
كما قام الأستاذ هيكل بكتابة مقدمة وخاتمة عن يوميات عبد الناصر في حرب فلسطين وعن رؤية عبد الناصر لقضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي.
في أول أيام التدوين في الجزء الخاص باليوميات الشخصية لجمال عبد الناصر التي سجلها بنفسه في دفتره الشخصي وهي أكثر ما يعنيني في الكتاب، سنجد أن جمال عبد الناصر ذهب لمعسكر المتطوعين لمقابلة الصاغ محمود لبيب وعندما لم يجده وأثناء طريقه إلى غزة يقابله بصحبة الشيخ محمد فرغلي ويتفق جمال عبد الناصر معهما على أداء صلاة الجمعة سويًا في  معسكر المتطوعين.
الصاغ محمود لبيب واحد من أهم رموز جماعة الإخوان المسلمين وهو من مؤسسي الجهاز الخاص الجناح العسكري للجماعة وكان القائد العام لمتطوعي الإخوان المسلمين في فلسطين، والشيخ محمد فرغلي هو قائد كتائب الإخوان المسلمين في حرب فلسطين عام 1948 وعضو مكتب الإرشاد ورئيس منطقة الإسماعيلية والقناة وأحد مؤسسي الجهاز الخاص للجماعة أيضًا.
يبدو حرص جمال عبد الناصر على لقاءهما مدعاة للتساؤل حول العلاقة التي كانت تربط بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين قبل الثورة، وفي نفس الوقت يرد بقوة على ما أثارته الجماعة من أكاذيب عن صلة ربطت بين جمال عبد الناصر والإسرائيليين أثناء حرب فلسطين في إطار محاولتهم لتشويه سمعته إثر احتدام الصراع السياسي بين الضباط الأحرار والجماعة بعد الثورة، كان جمال عبد الناصر من أشد المتحمسين للاشتراك في حرب فلسطين وقبل أن تقرر الحكومة المصرية دخول الحرب كان يفكر في التطوع للقتال في فلسطين، وهناك واقعة شهيرة عن التحقيق الذي تعرض له جمال عبد الناصر بعد حرب فلسطين عندما تم اكتشاف كتاب أصدره الجيش عن صنع القنابل اليدوية عليه توقيعه أثناء تفتيش إحدى شعب جماعة الإخوان إبان حملة اعتقالهم عام 1948، وقد قام إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس الوزراء المصرى وقتها باستدعاء جمال عبد الناصر في مايو 1949 بعد عودته من ميدان القتال للتحقيق معه عن صلته بجماعة الإخوان المسلمين بحضور الفريق عثمان المهدي رئيس هيئة أركان الجيش، وقد نفي جمال عبد الناصر صلته بالجماعة وقال لرئيس الوزراء أنه أعطى الكتاب لزميله الضابط أنور الصيحي، وعندما سأله إبراهيم عبد الهادي: أين أنور الصيحي؟ أجابه جمال عبد الناصر: أنه استشهد في حرب فلسطين، فصرفه رئيس الوزراء بعد أن حذره وهدده .
توفي الصاغ محمود لبيب يوم 18 ديسمبر 1951 قبل الثورة، بينما قاد صراع جماعة الإخوان المسلمين مع ثورة يوليو الشيخ محمد فرغلي إلى حبل المشنقة بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954 والتي كان الشيخ محمد فرغلى واحد من الضالعين في التخطيط لها .
يظهر عبدالحكيم عامر مبكرًا في دفتر يوميات جمال عبد الناصر فهو يقابله يوم 4 يونيو 1948 ويلحظان معًا مدى هشاشة التحصينات الدفاعية للقوات المصرية وعدم وجود عمق وغياب الاحتياطي الاستراتيجي للجيش المصري، وعلى امتداد اليوميات سنجد عبد الحكيم عامر موجودًا بها ولكن برغم وجود أسماء أخرى لشخصيات لعبت دورًا هامًا في الثورة عام 1952 مثل صلاح سالم، كمال الدين حسين، زكريا محيي الدين.
يمكننا ملاحظة أن صلة جمال عبد الناصر بعبد الحكيم عامر مختلفة فالعلاقة بينهما أعمق وأوثق وصداقتهما ليست مجرد صداقة شخصية بل تبدو عائلية أيضًا فعبد الحكيم عامر هو الذى يقوم خلال حصار جمال عبد الناصر في الفالوجة بالاتصال بأسرته ومعرفة أحوالهم ثم يطمئن جمال عبد الناصر على زوجته وابنتيه (هدى، منى) لم يكن جمال عبد الناصر وقتها أنجب أبناءه الذكور الثلاثة (خالد، عبد الحميد، عبد الحكيم).
وعلى امتداد اليوميات يمكننا رصد مدى ارتباط جمال عبد الناصر بأسرته الصغيرة زوجته تحية وطفلتيه (هدى، منى ) فهو مشغول البال دوما بأحوالهن وبمستقبلهن ودائم السؤال عنهن والاتصال بهن كلما سنحت له الفرصة، بل أنه فور إصابته برصاصة فوق قلبه يفكر فيهن على الفور.
ولكن ليس هذا هو المهم فارتباط جمال عبد الناصر بزوجته وأبنائه بوجه عام وتعلقه بأسرته الصغيرة معروف، ولكن اللافت للنظر هو عمق صلته بوالده فهو حريص على الاتصال به والاطمئنان عليه وإرسال الخطابات له واستلام خطابات منه أيضًا، يبدو هذا ملفتًا فقد أثيرت أقاويل كثيرة وسال حبر أسود كثيف على الورق عن سوء علاقة جمال عبد الناصر بوالده واتسامها بالتوتر الدائم وتأثير ذلك على تكوين جمال عبد الناصر النفسي والشخصي منذ تزوج والده من سيدة أخرى السيدة "عنايات الصحن"، عقب وفاة زوجته الأولى السيدة "فهيمة محمد حماد" والدة جمال عبد الناصر، وأشاع خصوم جمال عبد الناصر أنه كان مصابًا بعقدة أوديب يحب أمه ويكره والده، بينما يتضح من اليوميات التي خطها الضابط جمال عبد الناصر وقد تجاوز الثلاثين من عمره بقليل أن ذلك غير صحيح فعلاقته بوالده تبدو طبيعية وحميمة وليس والده فقط بل بعمه أيضا، وإن كان لم يذكر اسم هذا العم وأرجح أنه عمه خليل، وكذلك أخيه عز العرب عبد الناصر فهو على اتصال به عبر الخطابات، وكذلك نجد اتصال من جمال عبد الناصر لشخص يدعى "عبد الحميد" يوم 9 سبتمبر 1948 يبلغه أن إجازته تأجلت ويطلب منه إعلام الأسرة، واعتقد أنه عبدالحميد كاظم الشقيق الأكبر للسيدة "تحية" زوجة جمال عبدالناصر وكانت علاقته بجمال عبدالناصر وطيدة رغم أنه كان رافضًا في البداية لزواج أخته تحية منه، وقد توفي عبدالحميد كاظم مبكرًا بسبب مرض الدرن، وسمى جمال عبدالناصر ثاني أبناءه الذكور عبد الحميد على اسمه، كما يرد اسم "السيد يوسف" عديل جمال عبد الناصر في دفتر اليوميات والذي كان ناظرًا لمدرستي المنيا الثانوية والمنصورة الثانوية وبعد ذلك أصبح رئيسًا لديوان الموظفين ثم وزيرًا للتربية والتعليم كصلة اتصال مع أسرته، وهكذا فعلاقات جمال عبد الناصر بأسرته تبدو طبيعية للغاية بدون عقد نفسية توهمها خصوم جمال عبدالناصر.
في يوم 23 أغسطس 1948 يكتب جمال عبدالناصر معبرًا عن صدمته البالغة لمقتل الضابط أحمد عبدالعزيز قائد المتطوعين في حرب فلسطين برصاصة خاطئة – نيران صديقة كما يقال الآن - فقد أطلقت عليه رصاصات خاطئة من القوات المصرية لاعتقادهم أنه من الجانب الإسرائيلى.
كتب جمال عبدالناصر " لقد تألمت جدًا فإن أحمد عبد العزيز كان يحب أبناءه، وكان في عز مجده الذي لم يجاز عليه، ولم يره الشعب، ولم يستقبله، مات أحمد عبد العزيز وكله أمال في الحياة، لقد تألمت جدًا لهذه الآمال التي انهارت كان آخر ما قاله لصلاح سالم".
تبدو هذه الكلمات صادقة ومعبرة عن حزن جمال عبد الناصر على البطل الراحل وهي تهمنا على وجه الخصوص لكونها أبلغ رد على بعض الكتب المشبوهة التي أصدرها خصوم جمال عبد الناصر فيما بعد واتهموا فيها جمال عبد الناصر بقتل أحمد عبد العزيز !!
إلى هذا الحد بلغ الاستخفاف بالبعض أن يستبيحوا التاريخ لإلصاق فرية قذرة كتلك بجمال عبد الناصر في إطار سعيهم لاغتيال شخصيته وتشويه سيرته.
وعبر صفحات دفتر اليوميات سنجد اللقاء بالإسرائيليين وسنلحظ أن جمال عبد الناصر يصفهم دومًا باليهود أو بالعدو وليس بالإسرائيليين.
يطلب العدو تحديد لقاء مع قيادة القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة يتم إرسال جمال عبد الناصر من قبل القيادة المحاصرة لتحديد مكان اللقاء وبالفعل يتم اللقاء في مستعمرة جات اليهودية حيث توجه من الجانب المصرى السيد طه، ورزق الله الفسخانى، وجمال عبدالناصر، وإبراهيم بغدادى، وخليل إبراهيم إلى مستعمرة الجات، وتنتهي المفاوضات بينهما بالفشل لرفض الجانب المصري الاستسلام، ورفض اليهود إخلاء الجرحى إلى غزة .
وهكذا لم يكن اللقاء منفردًا بين جمال عبدالناصر والضباط الإسرائيليون ولم يتفق معهم على شيء ولم يخطط معهم لثورته كما كتب الإخوان بغزارة في أدبياتهم عن صلات ولقاءات جمعت جمال عبدالناصر بالإسرائيليين خلال حرب فلسطين عام 1948 .
كان جمال عبدالناصر ضابطًا ضمن وفد تفاوضي وقد فشل التفاوض.
يرصد جمال عبدالناصر خلال زيارته لمستعمرة الجات الفوارق الحضارية بين اليهود والعرب والمدنية والرخاء الذي يتمتع به اليهود خلال حياتهم بالمستعمرة مقارنة بأوضاع العرب البائسة.
على امتداد صفحات اليوميات يبدو جمال عبد الناصر غاضبًا وساخطًا على الأوضاع التي يعاني منها الجيش المصرى في الحرب، واتهاماته دائمة للقيادة العسكرية بالتخبط والجهل بل أنه يتهمها بأنها سبب كل المصائب وأنه لا توجد قيادة للجيش المصري في فلسطين من الأساس فهي قيادة عاجزة لا تملك خطة ولا احتياطي همها الوحيد هو الهرب والنجاة بعيدًا عن المعركة وإطلاق تصريحات وبيانات كاذبة عن انتصارات وهمية لم تحدث .
تبدو تلك الكلمات مريرة وتحتاج لتعمق في قراءتها فالضابط جمال عبدالناصر عانى من ذلك هو وكل القوات المصرية المحاربة في فلسطين ولكن لسوء الحظ تكررت مثل تلك الأخطاء بحذافيرها تقريبا بعد 19 عاما أثناء حرب 5 يونيو 1967 وكأننا لم نتعلم شئ، وربما كان هذا أكثر ما حز فى نفس جمال عبدالناصر بعد هزيمة 1967 أن يشهد نفس المأساة مرتين مؤكدًا أن ذلك كان دافعه بعد أن قضى على محاولة انقلاب المشير عبد الحكيم عامر بعد النكسة للقيام بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية من الصفر وخوض حرب الاستنزاف بها في ظروف بالغة الصعوبة حتى تمكن بعد ثلاث سنوات من الهزيمة أن يحقق المعجزة ويقيم بسواعد الأبطال من المصريين أكبر حائط صواريخ في العالم وقتها ويبني جيش المليون من الجامعيين ويصدق على خطط العبور والتحرير ولكن شاءت الأقدار ألا يشهد جمال عبدالناصر بعينيه النصر الذي صنع كل مقوماته، فقد خانه قلبه وتوقف عن النبض في يوم 28 سبتمبر 1970 هذا اليوم الأسود في تاريخنا.
تظهر بوادر الصمود والتحدي الكامنة في شخصية جمال عبد الناصر والتي ستكون من علامات عهده فيما بعد على صفحات اليوميات وتحديدًا يوم 28 أكتوبر 1948، فالطائرات الإسرائيلية تمطر القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة بالمنشورات التي تطالبها بالاستسلام يكتب الضابط جمال عبدالناصر معلقًا على ذلك " كلام فارغ قابله الجميع بالسخرية، فبالرغم من أننا محاصرون من يوم 16، وبالرغم من طلبنا تعيينات وذخيرة بواسطة الطيران، وبالرغم من أن طلباتنا لم تجب، ولم يلتفت إليها، فسنقاوم إلى آخر رجل "
أنها روح التحدي والمقاومة المطبوعة في شخصيته والتي قاد بها أمته طيلة 18 عامًا مجيدة في تاريخها ولم تفارقه في لحظات الهزيمة.
كما تبدأ فكرة الثورة تنبت في عقله، فما يعانيه الجيش المصري هو من صنع القيادة العسكرية الفاشلة وقيادة البلاد العاجزة فيكتب " لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش وقيادة البلاد، هؤلاء المضللون الممثلون، ماذا عملوا بعد أن دخلنا الحرب؟ لا شئ "
أنها بذور الثورة التي أينعت بعد أقل من أربع سنوات من الهزيمة في حرب فلسطين عام 1948 .
يبدو الضابط جمال عبدالناصر في يومياته الشخصية مدركًا لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني مدركًا لقوة العدو وتفوقه وكونه جزء من الغرب مزروع في الوطن العربي، كما نلحظه حزينًا على مستقبل الفلسطينيين ومتأثرًا لما سيحيق بهم من جراء الهزيمة وانسحاب الجيوش العربية من فلسطين، وقد ظل هذا الإدراك يحكم سياساته طيلة عهده فقد رفض أي حل جزئي منفرد لا يرجع للشعب الفلسطيني حقه في أرضه المسلوبة .
تمثل هذه اليوميات الشخصية للضابط جمال عبدالناصر في حرب فلسطين وثيقة تاريخية نادرة تلقى أضواء كاشفة على شخصية أهم عربي في التاريخ الحديث، وفضلًا عن أهميتها لكون جمال عبدالناصر كاتبها، فإن صدقها هو الأهم نحن أمام ضابط شاب يخوض حربًا في ظروف غير مواتية ثم يحاصر وهو خلال كل ذلك حريص على تدوين يوميات شخصية له، يعبر فيها عن حقيقة مشاعره وما يشغل باله وهو لا يدري إن كان سيقرؤها أحد غيره بل ولا يدري إن كان هو ذاته سينجو من الحرب أم لا ؟!
لقد كان جمال عبدالناصر أحد أبطال حرب فلسطين عام 1948، فقد دخلت الكتيبة السادسة من الجيش المصري التي كان يشغل منصب رئيس أركانها فلسطين يوم 15 مايو 1948، وقد أصيب بالرصاص مرة قبل حصار الفالوجة، وقد حصل على نجمة فؤاد العسكرية لشجاعته، وكان بين أفراد القوات المصرية التي حوصرت في الفالوجة بدء من 21 أكتوبر 1948، وأصيب خلال الحصار مرتين وكاد أن يفقد حياته.
كانت حرب فلسطين وفساد الإدارة السياسية والعسكرية المصرية وحصار القوات المصرية في الفالوجة هى الأسباب الرئيسية التي دعت جمال عبدالناصر للبدء فى الإعداد للقيام بالثورة، فقد رأى جمال عبد الناصر أن الحل لمأساة مصر يتلخص في الإطاحة بنظام الحكم الفاسد الذى قاد البلاد إلى الهزيمة، وكذلك التخلص من الاحتلال البريطانى، ومن هنا فإن الجيش الذي فشل في الاستيلاء على فلسطين قرر الاستيلاء على القاهرة .
ستظل تلك اليوميات الشخصية لجمال عبدالناصر وثيقة بالغة الأهمية عن شخصيته وتكوينه وهى تمثل خطوة على الطريق لفك مفاتيح شخصيته.