الشيخ محمد رفعت... الملقب بقيثارة السماء
كأن حنجرته قد اختزلت الشجن والزمن فى حبالها. بالذبذبة وحدها ينقلك إلى مراد الله منك. يأخذك الشيخ، دون تكلف، من حالة لنقيضها، يترك صوته يخدم المعاني ويحولها إلى تضاريس، يعلو ويهبط كأنه يرتقي بك جبالاً وأنت فى مكانك لا تحس سوى بهدهدة الصوت النازل، مع المطر، من السماء. إن حياته صوت، وصوته حياة. لقد تألف صوته، كما تألفت حياته، من الحزن والألم. هو، بالأحرى، صوت الحياة. فقد ارتبط فى وجداننا بفرحة الإفطار، ما إن يؤذن لصلاة المغرب حتى تهتز الأرض الهامدة وتربو. لقد استمد هذا الصوت طبيعته من جذور الأرض.. من أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين.. فخرج مشحوناً بالأمل والألم، عنيفاً عنف المعارك التى خاضها الشعب، عريضاً عرض الحياة التى يتمناها، ذاك هو الشيخ محمد رفعت رحمه الله.
ولد قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت بحي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة عام ١٨٨٢م، واسمه محمد رفعت محمود رفعت، وهو اسم مركب، وكان والده مأمور قسم الخليفة، وفى سن الثانية أصيب الشيخ رفعت بمرض في عينيه، فنذره والده لخدمة القرآن الكريم، وألحقه بكُتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بحي السيدة زينب؛ ليحفظ آيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فأتم حفظ كتاب الله قبل سن العاشرة.
جلس الشيخ الصغير للتلاوة في مسجد "فاضل باشا" ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وما انقضى العام حتى منحه شيخه إجازة في تلاوة القرآن الكريم مرتلًا ومجودًا، وأصبح الفتى محمد رفعت مسئولًا عن قراءة القرآن الكريم يوم الجمعة، وسرعان ما استقطب صوته الشجي الجميل جموع المصلين، حتى ضجت ساحة مسجد فاضل باشا والطرقات المحيطة به بعشاق صوت الشيخ رفعت.
امتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات الموسيقية للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله عز وجل، فقد أوتي مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فكان صوته قويًا لدرجة يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من ثلاثة آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.
غير الشيخ مفهوم الصوت تماماً، كان الصوت العظيم قبل الإذاعة «هو الصيّيت الذي يستطيع أن يسمع آلاف الأشخاص فى صيوان كبير. بهذا المقياس لم يكن لصوت الشيخ محمد رفعت الخافت الدقيق.. مكان فى سوق الأصوات. فلما دخل الراديو.. أضحى ذلك الصوت الخافت.. أجمل الأصوات».
ومع بدء بث الإذاعة المصرية الرسمية سنة ١٩٣٤م، كان صوت رفعت الصوت الأول الذي خرج منها، بعد أن تم الحصول على فتوى من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فافتتحها "الشيخ رفعت" بالآية الأولى من سورة الفتح "إنا فتحنا لك فتحا مبينا".
وتحول الشيخ محمد رفعت إلى أسطورة، وارتبطت به عدة روايات شعبية، يصعب التأكد تماما من صحتها، لكنها ظلت لصيقة بسيرته؛ يحكى أن طيارًا كنديًا، سمع الشيخ فاهتز كيانه وطلب نسخة مترجمة من القرآن. بعدها لم يكن يفعل شيئاً سوى أن يحلق.. مرة مع البريطانيين فى الصحراء الغربية، خلال الحرب العالمية الثانية، ومرات مع صوت الشيخ فى فضاء الله. الصوت، بطاقته الكامنة، قادر على أن يقول صاحبه دون حاجة إلى ترجمة. للصوت ما للجمال من هيبة ونفوذ. الشاهد أن الطيار أعلن إسلامه على يد الشيخ رفعت. قال، بعد أن أجهش بالبكاء عقب رؤيته: «لم أكن أعلم أنه أعمى، والآن عرفت سر الألم العظيم الذي يفيض به صوته».
كما يروى أنه رفض طلباً للمهراجا الهندي عثمان حيدر آباد بأن يحضر إلى الهند، مع حاشيته، بأجر ١٠٠جنيها يومياً مع التكفل بنفقات الرحلة والإقامة! والحقيقة أن هذا الرفض هو الشيء الوحيد الذي يشفيه من إخلاصه. إنه يرفض، ليتأكد من أنه ما زال مخلصاً. إن إحياء ليالي الفقراء بالقرآن، مجاناً، هو ما يجعله متصالحاً مع إخلاصه. ولا يعنى هذا أنه كان يقرأ مجاناً على طول الخط، بل يعنى أنه يرفض أن تكون النقود هي الوجهة.
وكان الشيخ قد أغلق باب بيته وآوى إلى فراشه، لكنه بعد نصف ساعة تأبط ذراع ابنه وخرج يدب فى الليل كأن شيئاً يسوقه إلى سرادق أقيم منذ قليل. وكانت مفاجأة لابن المتوفاة، لأن الشيخ عاتبه: لماذا لم تأت بالشيخ محمد رفعت، ليقرأ على روح والدتك، تنفيذاً لوصيتها؟ غير أن الابن اعتذر بضيق ذات اليد، قال له، ولم يكن يعرف هيئته: كيف نأتي بالشيخ رفعت وليس معنا نقود.
فعرّفه الشيخ بنفسه وطلب منه الاستئذان من القارئ، وراح يقرأ مجاناً على روح لم يعرفها. هو خاطر هتف بالشيخ على حين غرة، وألهمه العنوان. لا تستخفوا بما يمكن أن تفعله الخواطر. أحياناً تتنكر فيها الكرامات. رفعت هو ابن الناس الذين أحبوه. أغلب تسجيلاته وصلت إلينا لأن مريديه تكفلوا بهذه المهمة، دون أن يكون لهم صلة به. حتى إن أحدهم، زكريا باشا مهران، استقدم من ألمانيا جرامافون ووثق به هذا الصوت.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، تنافست إذاعات القوى العظمى على اختلافها بين الحلفاء مثل إذاعتي لندن وباريس، والمحور مثل إذاعة برلين على أن يُسجل لها الشيخ محمد رفعت لتجذب المستمعين خلال افتتاحية برامجها باللغة العربية، فرفض الشيخ محمد رفعت لأمرين، أولهما أنه لا يحب التكسب بقراءة القرآن الكريم، وخوفًا من أن يستمع الناس إلى القرآن الكريم في الملاهي والحانات، وبعد مراجعة الإمام المراغي شيخ الأزهر آنذاك، وافق الشيخ رفعت على تسجيل سورة مريم لإذاعة "بي بي سي البريطانية".
وعلى الرغم من الشهرة التي حققها؛ فإنه استمر في قراءة القرآن في مسجد الأمير مصطفى فاضل حتى اعتزاله، من باب الوفاء للمسجد الذي شهد ميلاده في عالم القراءة منذ الصغر.
واستفاد الشيخ "رفعت" من معرفته الدقيقة بفنون التلاوة، إلى جانب دراسة المقامات الموسيقية، فضلا عن التوسع في دراسة الموسيقى الغربية، لدرجة أنه ترك ثروة كاملة من أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية، ضمت أعمالا لموتسارت، وبرامز، وبيتهوفن، وفرانز ليست، وباخ.
وقال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب: "كنت صديقًا للشيخ محمد رفعت، فإذا ما قرأ القرآن الكريم انقلب الصديق إلى خادم، فأجلس تحت قدميه، لأنه يُشعرك حين يقرأ القرآن الكريم بأنه يخاطب الله بين يديه، فلا تدري إن كان صوته قد اختلط بالإيمان أم أن الإيمان قد اختلط بصوته".
كما قال الإذاعيُّ محمد فتحي الذي كان يلقب بكروان الإذاعة واصفا صوت الشيخ محمد رفعت: “.. تبلغ بك النشوةُ الفنية غايتَها وأنت محلّق مع المرتل في السماوات العلىٰ مع أحداث الرواية الإلهية.. يا له وهو يصور الإنسان تحت ضغط الغريزة الجامحة التي تكاد تجرف حتى النبيَّ “.
حين سُئل الشيخ محمد متولي الشعراوي عن الشيخ محمد رفعت قال: “إذا أردت أحكام التلاوة فعليك بالشيخ محمود الحصري، وإذا أردت حلاوة الصوت فعليك بالشيخ عبد الباسط عبدالصمد، وإذا أردت النفس الطويل فعليك بالشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا أردتهم جميعًا فعليك بالشيخ محمد رفعت”.. هكذا لخّص الشعراوي تفرُّد الشيخ محمد رفعت علم دولة التلاوة، وأحد أعمدة الإذاعة.
إن صوته جميل، ثم إن نبضاته تخفق بإيمان عميق يجعل الحياة تدب فى الكلمات. إن كل آية قرأها الشيخ كانت تسوقه إلى معناها مجوداً، وهو فقط ينطقها، وكان اهتمامه بمخارج الحروف كبيراً فكان يعطي كل حرف حقه ليس كي لا يختلف المعنى فقط، بل لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقاً جميلاً رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، لكن المفارقة أن يُؤتى الشيخ من حنجرته، أن يكون العطاء عين البلاء أصيب الشيخ، في عام ١٩٤٣م بـ «فواق» فى حنجرته كان يقطع عليه تلاوته، ولما تم تشخيص المرض على أنه ورم خبيث، جمعت مصر، في اكتتاب عام، ٥٠ ألف جنيه لعلاجه بالخارج، غير أنه رفض، وقال مقولته الخالدة «قارئ القرآن لا يهان».
رحل الشيخ محمد رفعت في التاسع من مايو عام ١٩٥٠م، عن عمر يناهز ٦٨ عامًا.
وقامت مكتبة الاسكندرية بالتعاون مع حفيدة الشيخ محمد رفعت، في تسلم وتوثيق تاريخ وحياة الشيخ رفعت الملقب بقيثارة السماء.
تضم المجموعة الوثائقية للشيخ العديد من الصور خلال حفلاته، وبعض الصور الشخصية والعائلية وبعض الصور للشيخ في مرضه وخطابات معجبيه ومتابعيه وبعض المقالات التي نشرت عنه وعقد التعاون بينه وبين الإذاعة المصرية، وعقد الاتفاق معه على افتتاح الإذاعة خلال الحفل الذي أقيم بهذه المناسبة في دار الأوبرا، وتوالي المكتبة البحث في أرشيف الشيخ عن الكنوز والدرر التي طواها عنا الزمن لتكشف بحق عن أروع من قرأ آيات الذكر الحكيم في القرن العشرين، فقد استطاع بصوته العذب أن يغزو القلوب والوجدان في قراءة عذبه خاشعة، صوته يشرح الآيات، ويجمع بين الخشوع وقوة التأثير، فكان أسلوباً فريداً في التلاوة.
كانت مصر ومازالت من أهم المنابع التى حافظت على الإسلام الدين والعقيدة، ومصر هى التى حافظت على القرآن الكريم ومازال قراء القرآن ينتشرون فى كل بلاد العالم، ومنهم من كان سببا فى إسلام أعداد كبيرة. ويبقى الشيخ محمد رفعت علامة فى تاريخ قراء مصر.
المصادر
- كتاب " ألحان السماء" محمود السعدنى.
- كتاب "الإذاعة المصرية فى نصف قرن" محمد فتحى.
- جريدة الأهرام المصرية.