ذات يوم .. مظاهرات الملايين في شوارع مصر والعالم العربي تجبر عبدالناصر على العدول عن قراره بالتنحي

ذات يوم .. مظاهرات الملايين في شوارع مصر والعالم العربي تجبر عبدالناصر على العدول عن قراره بالتنحي
بقلم الأستاذ/ سعيد الشحات
ينقل هيكل ردود الفعل الشعبية والرسمية محليًا وعربيًا وعالميًا، يذكر أن زكريا اتصل به، وكانت دهشته بالغة، متسائلا عن «هذا الذي فعلناه به، وهل هذا معقول؟»، مضيفًا: «أنه عرف أن مظاهرات في الشوارع تهتف ضده وتطالبه بألا يقبل ما كلف به، وإلا فهو أمام الناس خائن»، وطلب زكريا إذاعة بيان اعتذار منه، فنصحه هيكل بالانتظار حتى الصباح، فخرج عن هدوئه الطبيعي: «بهذا الشكل لن يطلع صباح»، ثم تحدث عما يجرى في الشوارع، يضيف هيكل: «بدأت التقارير ترد من كافة أنحاء مصر بأن جماهير لا تحصى ولا تعد أوقفت قطارات السكك الحديدية، واستولت على أكثر من مائة وعشرين قطارًا، وعلى كل سيارة عثرت عليها، وكل هذا متجها إلى القاهرة».
 
على الصعيد العربي والعالمي يذكر هيكل: «كانت هناك برقية من وكالة يونايتدبرس» تنقل مشاعر الصدمة التى أصابت وفود دول آسيا وإفريقيا في الأمم المتحدة عندما وصلها النبأ وكيف أن بعض المندوبين العرب والأفارقة راحوا يجهشون بالبكاء علنًا في أروقة الأمم المتحدة وقاعاتها عندما وصلها النبأ، وكان هناك فيض من برقيات وكالات الأنباء يحكي عن الجماهير الصارخة الباكية في كل مدن وقرى العالم العربي، وكان بينها برقية تصف حالة الرئيس اللبنانى شارل الحلو عندما تلقى النبأ وأجهش بالبكاء في وسط مكتبه بالقصر الجمهوري فى بعبدا، واتصل «إسماعيل الأزهري» رئيس السودان بالتليفون هو ورئيس وزرائه محمد أحمد محجوب يبلغان أن الخرطوم ستحترق، وبعث الرئيس الفرنسي شارل ديجول برسالة قال فيها: «إن النصر والهزيمة فى المعارك عوارض عابرة في تاريخ الأمم، وما يهم هو الإرادة، وفرنسا في وقت من الأوقات كما تتذكر كان نصفها تحت الاحتلال المباشر للنازي، ونصفها الآخر خاضعًا لحكومة عميلة، ولكن فرنسا لم تفقد إرادتها وظلت طوال الوقت تسير واثقة وراء قيادتها المعبرة عن إرادتها، إن الشجاعة الحقيقية في مواجهة المحن، وأما الأوقات السعيدة فإنها لاتستدعي هذه الشجاعة.
إن سلام العالم العربي يقتضي جهودك، وأنا أول من يتفق معك على أن الأمر الواقع الذي عندكم الآن لايعطى أساسًا صحيحًا لمثل هذا السلام».
 
تعجب عبدالناصر من المشهد، وحسب هيكل فإنه اتصل به يسأله عما يجري، ولما روى له صورة ما يحدث كان سؤاله المتكرر: «ليه؟، وراح يرددها مستغربًا»، ويضيف هيكل أنه أمام هذه التطورات أصدر عبدالناصر بيانًا بأنه سيذهب إلى مجلس الأمة ليناقش معه ومع جماهير شعبنا قراره الذي أعلنه، وناشد الجماهير الانتظار حتى الصباح.
 
عندما قاربت الساعة العاشرة صباح 10 يونيو «مثل هذا اليوم 1967» كانت الطرق إلى مجلس الأمة مغلقة ولا سيطرة عليها لأحد، مما تأكد معه استحالة ذهاب عبدالناصر إليه، فأرسل رسالة إلى المجلس يتلوها رئيسه أنور السادات على النواب، وكانوا متحصنين في داخله منذ قرار التنحى.
نصت الرسالة: «كنت أتمنى لو ساعدتني الأمة على تنفيذ القرار الذي اتخذته بأن أتنحى، ويعلم الله أنني لم أصدر في اتخاذ هذا القرار عن أي سبب غير تقديري للمسؤولية وتجاوبًا مع ضميري وما أتصور أنه واجبي، وإنى لأعطي هذا الوطن راضيًا وفخورًا كل ما لدي حتى الحياة إلى آخر نفس فيها، إن أحد لا يستطيع ولا يقدر أن يتصور مشاعري في هذه الظروف إزاء الموقف المذهل الذى اتخذته جماهير شعبنا وشعوب الأمة العربية العظيمة كلها بإصرارها على رفض قراري بالتنحي منذ أعلنته وحتى الآن، ولا أعرف كيف أعبر عن عرفاني تجاهه.
 
إن الكمات تضيع منى وسط زحام من المشاعر يملك على كل جوارحي، وأقول لكم بأمانة وأرجوكم تبليغ مجلس الأمة الموقر أنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قرارى، وفي نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد، ولذلك استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب مني  أن أبقى فيه حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعًا من أن نزيل آثار العدوان على أن الأمر كله بعد هذه الفترة يجب الرجوع فيه إلى الشعب في استفتاء عام، وإني لا أشعر أن النكسة لا بد أن تضيف إلى تجربتنا عمقًا جديدًا، ولا بد أن تدفعنا إلى نظرة شاملة فاحصة وأمينة على عملنا، وأول ما ينبغي أن نؤكده بفهم واعتزاز وهو واضح من الآن أمام عيوننا، أن الشعب وحده هو القائد وهو المعلم وهو الخالد إلى الأبد».