كتب الأستاذ/ عبده فايد
رجل يتحدث الإسبانية ويسير في شوارع باريس، فجأة ينقّض عليه بعض رجال الشرطة، ويقتادونه إلي مخفر جيرمان دي بري ويقومون باستجوابه قبل إيداعه في الحجز..جريمة الرجل الوحيدة، أنه كان يحمل ملامح غير أوروبية، شرق أوسطية تحديدًا، وبالأدق جزائرية، ورغم حديثه بالإسبانية، إلا أن رجال الشرطة اعتقدوا أنها مجرد مناورة لإخفاء هويته..سُيطلق سراحه لاحقًا، وبعد عشرين عامًا من الواقعة سيعود ليحكي قصة اعتقاله، في مقال Desde París, con amor في صحيفة الباييس الإسبانية، مُذيلًا باسمه الذي بات معروفًا للعالم بأسره ‘‘جابرييل جارسيا ماركيز‘‘، لكن حظّ الجزائريين كان أسوأ، كان التأكد من هويتك أثناء التفتيش، يعني ركلك وصفعك وإجبارك علي أكل سجائرك، فصول التنكيل لن تتوقف عند ذلك الحد.
في ليلة كهذه ( 17 أكتوبر 1961 ) قرّر 30 ألف جزائري النزول للتظاهر في وسط العاصمة الفرنسية احتجاجًا علي قرار حظر التجوال، الذي أصدره قائد الشرطة الباريسية ‘‘موريس بابون‘‘..كانت جبهة التحرير الوطنية تُشرف علي جمع ‘‘الضرائب الثورية‘‘ من الجزائريين في فرنسا، كل شخص كان مُلزمًا بدفع 3 آلاف فرنك شهريًا، لتبلغ الحصيلة الإجمالية قرابة 6 مليارات فرنك..أرادت السلطات الفرنسية وقف تلك التدفقات المالية، فما كان منها إلا أن أصدرت قرار حظر التجوال..خرج الجزائريون في مظاهرة سلمية بالمطلق، كانوا يعلمون مقدار الحنق الذي تحمله الشرطة تجاههم، وأنه لو بادر أحدهم بإطلاق النار، باستخدام مجرد موس حلاقة، ستكون النتيجة وقوع مجزرة.
كان ظنًا خاطئًا..رجال موريس بابون عزموا علي سحق الجزائريين، بادروا بإطلاق الرصاص..هناك صورة شهيرة لأحد الرجال وهو يتألم من رصاصة اخترقت كتفه..جورج إزنستارك كان هو المصور الفرنسي الذي التقط الصورة، كما معظم مشاهد المجزرة، وسيروي بعضًا من التفاصيل المروعة الأخري في فيلم الجزيرة الوثائقية ‘‘دماء علي نهر السين‘‘..كان رجال الشرطة يقتادون الجزائريين المقبوض عليهم إلي نهر السين، ثم يسألونهم، من يستطيع السباحة؟ من يجيب ب ‘‘لا‘‘ يلقونه في النهر، ومن يجيب ب‘‘نعم‘‘، يقومون بربط يديه وقدميه، حتي لا يستطيع مقاومة الغرق..فاطمة بدّار فتاة يافعة كانت في طريقها إلي معهد في سان دوني في نهار ذلك اليوم، وحينما حلّ المساء ولم تعد، ذهب والدها إلي المخفر لتقديم بلاغ اختفاء، فتعرّض للضرب المُبّرح، قبل أن ينجح أخيرًا في إتمام البلاغ..أسبوعان أمضتهما الأم في الصراخ في الشوارع بحثًا عن ابنتها، وفي الأخير سيأتيها مرسال يحمل نبأ إيجادها، إذ طفت جثة فاطمة أخيرًا في مصرف سان دوني، ووجدوها عالقة في إحدي التوربينات.
باريس لن تكتفي بأعمال القتل الليلية..كلّف بابون رجاله بالقبض علي كل من تقع عليه أبصارهم في الشوراع، فتم الزج ب أحد عشر ألف جزائري في قصر الرياضة، كان بعضهم يعاني من إصابات بالرصاص أو الضرب بالهراوات، لكنهم تُركوا إلي الموت دون تقديم الإسعافات اللازمة..حقد الشرطة لن يتوقّف ها هنا، فجري اصطحاب بعض المتظاهرين إلي الحمامات، أين أطلق الرصاص علي رؤوسهم من الخلف، أما إذا نجوت من الإغراق في السين ومن الموت إهمالًا أو بالرصاص في معتقل قصر الرياضة، فسوف تقوم الداخلية الفرنسية بإنتاج شريط دعائي، تُوضح خلاله عملية إعادتك إلي الجزائر علي متن إير فرانس، وهناك سيتم احتجازك وتعذيبك من جديد..كم بلغ حجم ضحايا مجزرة باريس؟..الرقم مُختلف عليه إلي اللحظة في ظل إحجام باريس عن الإفراج عن الوثائق السرية..لكن الترجيحات تدور حول 200 قتيل.
فرنسا أمعنت في التضليل..في البدء أوفد بابون رجاله إلي مقار الصحف، لتنقيح أي مواد منشورة عن المجزرة، بل أن بعض الجرائد مارست رقابة ذاتية وأصدرت صفحتها الأولي، متضمنة مربعًا أبيضًا في إشارة إلي مادة تم حجب نشرها مثل صحيفة ‘‘لومانيتيه‘‘ كما يروي المصوّر في ذات الفيلم، أسوأ من ذلك أن بابون أنتج رواية تُفيد بمقتل 3 جزائريين فحسب في اشتباكات داخلية، مع إصابة 10 من رجال الشرطة..لكن بابون سيلقي عقابه عام 1998 في محكمة فرنسية، قضت بسجنه 10 سنوات..لا..ليس بتهمة قتل الجزائريين بالطبع..بابون الذي استدعته فرنسا لسحقهم، كان عميلًا نازيًا إبان احتلال ألمانيا لفرنسا ابتداءً من 1941، وعندما كان يشغل منصب أمين عام دائرة الشرطة في بوردو، قام بجمع اليهود في مخيمات ونقلهم للنازيين، الذين أبادوهم في أفران الغاز، أما الجزائريين فلم يستحق بابون بالطبع أن يُعاقب علي قتلهم.
فرنسا الإستعمارية ارتكبت جرائم ومذابح شتي يصعب حصرها..قتل 2000 من سكان مدغشقر في مذبجة مورامانجا عام 1947..أو في هايتي التي أرسل إليها الجنرال روشامبو سرية من 150 رجلًا مدعومة بكلاب البولدوج، وحظر علي الجنود إطعامها إلا من لحم الزنوج، وذلك ردًا علي ثورة العبيد التي انتهت بانتصارهم المظفّر علي جيش نابليون الأول، وهو ما لم تنسه باريس، التي أجبرت هايتي علي دفع تعويضات عن استقلالها حتي العام 1947 بما تُعادل قيمته اليوم 21 مليار $..أو قتل المزارعين في إفريقيا الوسطي ممن رفضوا جمع المطاط لصالح شركة غابات سانجا-أوبنجي، أو تدبير 4 انقلابات في جزر القمر، أو اغتيال أبطال التحرر الوطني مثل الكاميروني فيلكس موميي بسم الثاليوم علي يد العميل ويليام بشتال في جنيف، أو تزويد الحكومة الرواندية المتطرفة من الهوتو بالسلاح طيلة السنوات الثلاث السابقة علي وقوع الإبادة ضد التوتسي عام 1994، رغم علم باريس بحتمية وقوع المجزرة، وتواطؤها الأسوأ في قصف قوات الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة بول كاجامي، أثناء تقدمها للإطاحة بمنفذي الإبادة، بل وتوفير ممرات آمنة لميشيات الهوتو ‘‘الإنتراهاموي‘‘ للهرب إلي الكونجو..وأضعاف ذلك ستجده في 234 صفحة هي حصيلة كتاب ‘‘جاك موريل‘‘ تحت عنوان ‘‘روزنامة جرائم فرنسا في ما وراء البحار‘‘.
رغم الحصيلة الدموية للماضي الإستعماري الفرنسي، إلا أن مجزرة باريس التي تحل ذكراها ال 61 الليلة، تبقي مميزة في عنفيتها، لأنها لم تقع في المستعمرات، بل في قلب عاصمة النور والحرية والإخاء والمساواة، حيث كان من السهل قتل 200 جزائري بدم بارد في الشوارع، بل والرقص علي جثثهم، عندما طالبت شركة منظمة لحفل المطرب الأميركي ‘‘راي تشارلز‘‘ بإخلاء قصر الرياضة، أين اعتقل 11 ألف جزائري، فاستجابت السلطات ونقلت المعتقلين وبعض من قتلوا من التعذيب إلي مكان مجاور علي بعد مئات الأمتار، وجلس الجمهور الفرنسي في نفس المكان أين امتزج عرق ودماء الجزائريين بالجدران، يغنون ‘‘فلنترك الأوقات السعيدة تغمرنا‘‘..وليس هناك ثمة مشهد أكثر تعبيرًا عن تاريخ الجمهورية الفرنسية المنحطة من ذلك.