الفريق عزيز المصري

الفريق عزيز المصري

 ولد عبد العزيز زكريا علي عام ١٨٨٠م، وهو جركسي الأصل من عائلة ترجع أصولها إلى القفقاس وتعرف بعائلة شاهلبة، سكنت العراق لفترة ثم انتقلت إلى مصر، توفي والده وهو في العاشرة من عمره، وكانت والدته تحنو علية بشدة، ولكنها فارقت الحياة بعد أبيه بخمس سنوات، فكفلته اخته حرم علي باشا ذو الفقار محافظ القاهرة.

أتم عزيز دراسة المرحلة الابتدائية بالمدرسة التوفيقية وحصل على البكالوريا عام ١٨٩٨م، وكان اسمه فيها عبد العزيز زكي، فلما كان في الآستانة اتخذ لنفسه اسم عبد العزيز علي، وكان الأتراك يطلقون عليه اسم «قاهرة - لي - عزيز - علي» أي «عزيز علي المصري» وهو الاسم الذي اشتهر به.

كان عزيز يريد أن يلتحق بالكلية الحربية ودخل (المهندس خانة) المصرية لدراسة الرياضيات، وعلم المثلثات، والعلوم الحديثة، وتعلم التركية استعدادا للالتحاق بالكلية الحربية في اسطنبول، تفوق المصري في الدراسة وكان من أوائل الدارسين بالكلية مما ساعده على الالتحاق بكلية أركان حرب التي تخرج فيها عام ١٩٠٥م.

وأثناء سنوات الدراسة أعجب بالضباط الألمان، الذين كانوا يقومون بالتدريس، واحترم فيهم العقلية الجادة والتفكير السليم واحترام الإنسان وتقديس العمل. وكان قد التقى خلال وجوده في الكلية الحربية بعدد من الشباب العربي والأتراك الساخطين على الحكم العثماني من بينهم نوري السعيد، جعفر العسكري، مصطفى كمال أتاتورك، وكان أتاتورك قد كوّن (جمعية الوطن) عام ١٩٠٦م، ثم انضمت هذه الجمعية إلى جمعية (الاتحاد والترقي) التي كانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد، وإقامة دولة تركية ديمقراطية وهي الجمعية التي كان عزيز المصري عضوا فيها وانتهت جهود الجمعية بثورة شاملة عام ١٩٠٩م، أسفرت عن عزل ونفى السلطان عبد الحميد وتعيين السلطان محمد الخامس بدلا منه.

وبعد استيلاء الاتحاديين الأتراك على امور البلاد، دب الخلاف بينهم وبين الضباط العرب الذين كانوا يأملون في الحصول على نوع من الحكم الذاتي لبلدانهم، فلما لم يتحقق ذلك بدأت الدعوة إلى العروبة يشتدّ عُودها وكان لعزيز المصري دور كبير في هذه الدعوة، فاختاره الضباط العرب لقيادتهم. انفصلت العناصر العربية عن جمعية (الاتحاد والترقي) وكوّن عزيز المصري جمعية (القحطانية) إلا أن ثورة اليمن ضد الحكم العثماني قامت عام ١٩١١م، وذهب عزيز المصري على راس الجيش التركي لقمع الثورة وتمكن من حقن دماء الطرفين بعقد صلح مع يحيى حميد الدين إمام اليمن، ثم سافر عزيز المصري بعد ذلك إلى ليبيا لمحاربة الإيطاليين.

عاد المصري إلى الآستانة عام ١٩١٣م، في وقت بلغ العداء والاضطهاد التركي للعرب ذروته، فاستقال من الجيش وتفرغ للعمل ضمن صفوف الحركة العربية وأسس في العام ذاته بالتعاون مع مجموعة من الضباط العرب (جمعية العهد) التي ضمت في عضويتها ٣١٥ ضابطاً عربيا وكان برنامج (جمعية العهد) يقوم على إنشاء اتحاد فدرالي يضم كل الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية، بما في ذلك مصر والسودان وطرابلس والمغرب وتونس على أن تنشئ كل قومية فيها كيان إداريا مستقلاً ويكون السلطان العثماني رئيساً رمزياً لا فعلياً للاتحاد.

تزايد النشاط القومي لعزيز المصري مما دفع السلطات التركية لاعتقاله في فبراير عام ١٩١٤م وقدمته للمحاكمة ناسبة إليه عدداً من الاتهامات الباطلة وحكمت علية المحكمة العسكرية التركية بالإعدام، وهو ما أثار حركة معارضة قومية في كافة الأقاليم العربية ووصلت البرقيات والخطابات من جميع أنحاء العالم العربي، تطلب من السلطان محمد رشاد محاكمة أنور باشا الذي كان وراء المحاكمة وان يطلق سراح البطل (عزيز المصري). وكتب أمير الشعراء احمد شوقي قصيدة إلى السلطان يشيد فيها بعزيز المصري بطل اليمن وليبيا، ومنها قوله: بالله، بالإسلام، بالجرح الذي - ما انفك في جنب الهلال يسيل ألا حللت عن الأسير وثاقه - إن الوثاق على الأسود ثقيل واضطر السلطان محمد رشاد إلى الإفراج عن (عزيز المصري) الذي عاد إلى مصر إلا أن الثائر لا يهدأ، فالمصري لا همّ ولا تفكير له إلا وحدة العرب واستقلالهم.

سافر المصري إلى الحجاز للإسهام في تنظيم الجيش العربي، وذلك بعد إعلان الأميران (على وفيصل) نجلا الشريف حسين في الخامس من يونيو عام ١٩١٦م استقلال العرب من الحكم التركي، واشتعلت شرارة الثورة العربية في الحجاز، وهناك عينه الشريف حسين وكيلاً لوزارة الحربية، وقائدا لجيش العرب، فحقق إنجازات كبيرة في بناء الجيش وقيادته نحو النصر.

عانى عزيز المصري من الوشايات، التي كان من السهل عليها أن تستغل طبيعة وملامح شخصيته الجبارة في تصويره على نحو ساع للتمرد، ذلك أن إمكانات عزيز المصري كانت تؤهله لأن يكون رجل الدولة الأول لا مجرد وزير دفاع ورئيس أركان. تسبب تلك الوشايات في حدوث الخلاف بين (عزيز المصري) والشريف حسين، لأن المصري رفض مراراً عروض الإنجليز بالتعاون معهم، لأنه كان يعرف حقيقة أطماعهم في البلاد العربية وهكذا وجد عزيز المصري أن من الأفضل له أن يعود إلى مسقط رأسه (القاهرة) في مارس ١٩١٧م، حيث بقي طيلة ٢٠ عاما بعيدا عن العمل العسكري والسياسي المباشر، وإن لم يبتعد عما هو أهم من هذا، وهو تربية أجيال عظيمة تشربت منه الوطنية والثورة والعمل العام. ولذلك ما أن وصل إلى القاهرة حتى بدأت مضايقاتهم له خاصة بعد أن رفض التعاون معهم في العراق، واليمن التي عرضوا عليه أن يكون ملكاً عليها، فرد عليهم بقوله:" كيف اجلس على عرش اليمن، وهو ملك لأهله وليس ملكا لكم". وسافر إلى إسبانيا منفياً وكان هذا الإجراء متوقع بعد أن فشلت محاولاتهم لإقناعه بالانضمام إليهم

 ومن إسبانيا سافر عزيز المصري إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وفى ألمانيا عمل (عزيز المصري) مدرساً في كلية أركان الحرب، حيث كان يدرس تجربته في حربه ضد البلغار، وأسلوب حرب العصابات الذي ابتدعه وسط المناطق الجبلية ووسط الصحراء والغابات في ليبيا ضد الإيطاليين. ظل البطل (عزيز المصري) منفياً عن بلاده حتى عاد إلى مصر سنة ١٩٢٤م، بعد أن وصل حزب الوفد إلى الحكم وبعد شهور قليلة من عودته تلقى رسالة من صديقه وزميله في الجيش العراقي الضابط ياسين الهاشمي الذي أصبح رئيسا لوزراء العراق ن يطلب منه سرعة التوجه إليه فلبّى الدعوة، حيث التقى بالعديد من رجال (جمعية العهد) الذين كانوا ضباطاً عراقيين في الجيش العثماني ثم جاءوا للعمل في الجيش العراقي.

 

أخبره الهاشمي  أنه يفكر في القيام بانقلاب عسكري في العراق وتحقيق حلمه القديم بجعل بغداد نقطة الانطلاق كبلد عربي مستقل تكون البداية لتحرير البلاد الأخرى وطلب منه مساعدته على وضع الخطة المناسبة ولم يسترح الإنجليز لوجود ( عزيز المصري في العراق فاستدعاه المندوب السامي البريطاني وسأله عن سر وجوده فردّ عليه عزيز عما يفعله هو في العراق وهو الانجليزي الأجنبي، بينما عزيز يعتبر وجوده في العراق، وطنه العربي ، أمراً طبيعياً لا يسأل عنه .وعرضوا عليه تعيينه رئيساً لشركة نفط العراق براتب قدره خمسة آلاف جنيه ، وبيت أنيق في لندن ، ولكنه رفض ، فصدرت الأوامر بإبعاده عن العراق.

وفي عام ١٩٢٦م، عاد عزيز المصري إلى القاهرة، وتقديراً لدوره الوطني والقومي واعترافاً بعبقريته العسكرية اختاره محمد محمود باشا رئيس الوزراء المصري عام ١٩٢٨م، مديراً لكلية الشرطة فاستحدث فيها أساليب جديدة في التعليم والتربية واختار أعضاء هيئة التدريس من بين الضباط الأكفاء في مصر وأصبح لهذه الكلية صيت واسع نظراً لما بذله (عزيز المصري) من جهد واضح وما عرف عنه من الحزم والجدية وعبقرية التنظيم والإدارة والمعرفة الموسوعية مما أثار إعجاب الملك فؤاد ملك مصر بما أحدثه في كلية الشرطة فاختاره أن يكون الرائد الأول للأمير فاروق ولى العهد.

رقى إلى درجة الفريق وعين مفتشاً عاماً للجيش المصري ليكون أول مصري يشغل هذا المنصب لكن قدر عزيز المصري أن يكون ثائراً باستمرار بعد أن عزله الإنجليز من منصبه الذي لم يقض فيه أكثر من سنة.

وفي ١٦ مايو عام ١٩٤١م، استقل عزيز المصري طائرة مؤن من المطار العسكري بألماظة ومعه حسين ذو الفقار صبري وعبدالمنعم عبدالرؤوف وتعطل المحرك وهبطت الطائرة في مزرعة بجوار قليوب.. وفي الرابعة بعد منتصف الليل دق عزيز باب ضابط البوليس المصري الذي عرفه فأدي له التحية العسكرية.. فلم يكن يعرف بأمر الهروب، ووضع سيارة نقطة الشرطة تحت تصرفه أقلته إلي ميدان الأوبرا، كان ذلك في عهد وزارة حسين سري باشا.

وبعدها أذيع الخبر ولم يتوصل البوليس لمكان عزيز المصري، إلي أن أسفرت تحريات البوليس عن أن محمد حسين (والد أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة) الهارب والمطلوب اعتقاله، يتردد كثيراً علي منزل معين في إمبابة، فداهم الضابط (إبراهيم إمام) مسؤول البوليس السياسي شقة «عبدالقادر رزق» المدرس بالفنون الجميلة، وإذا بالبوليس وجهاً لوجه مع عزيز المصري باشا، الذي أودع السجن في ٤ يونيو عام ١٩٤١م، إلي أن أفرجت عنه حكومة النحاس باشا العام التالي وأعيد اعتقاله في ١٣ أغسطس عام ١٩٤٢م، واتهامه بالاتصال بالألمان، حسب رواية أنور السادات، ليفرج عنه في ٢٠ نوفمبر العام ١٩٤٤م.

ثم كانت حرب فلسطين ١٩٤٨م، بمثابة المعركة قبل الأخيرة، التي حظيت بنشاط عزيز المصري وتشجيعه وتخطيطه، حيث بذل جهدا بارزا في تنظيم كتائب المتطوعين في هذه الحرب، وكان معظم هؤلاء المتطوعين من تلاميذه المقربين، الذين اختارهم بنفسه، وشجعهم على الاستقالة من القوات المسلحة النظامية، والانضمام إلى قوات المتطوعين المصريين التي كان لها الفضل في الحفاظ على جزء كبير من أرض فلسطين، والحيلولة دون التهام إسرائيل لأكثر مما التهمته بالفعل.

أسهم عزيز المصري في معارك الفدائيين المصريين في القناة عام ١٩٥١م، وقد بذل عزيز المصري جهدا جبارا في تنظيم الكتائب المصرية في هذه المقاومة، وكالعهد به في مغامراته المحسوبة الذكية، فقد استغل علاقته بمحافظ القاهرة في ذلك الوقت فؤاد شيرين باشا، واختفى في منزله، وهو المكان الذي لم يكن يدور بخلد السلطات أن تبحث عنه فيه.

كانت المحطة الأخيرة في حياة عزيز المصري العسكرية والسياسية هي ارتباطه بالضباط الأحرار وكان أنور السادات أول من التقاه من الضباط الأحرار حيث كان يزوره في بيته ضمن غيرة من شباب مصر الذين كانوا يناقشونه في أمور البلاد السياسية وكان تنامى إلى علمه وجود تنظيم شاب في الجيش يعمل على تخليص البلاد من الملك والإنجليز وأن السادات ضمن هذا التنظيم.

وأصبح أنور السادات ضابط الاتصال بين عزيز المصري والضباط الأحرار وقرر أن يكون الأب الروحي لهم، ونصح جمال عبد الناصر بعد نجاح الثورة بعدم محاكمة فاروق والاكتفاء بتنازله عن العرش.

 يكشف السادات، في كتابه "أسرار الثورة المصرية"، سر إعجابه وزملائه بالمصري، قائلاً: "كنا نعرف ما أراده لجيش مصر من قوة ومنعة، وبدأنا ننتعش بالنهضة الفعلية التي بعثها في الجيش، وكنا نسمع كثيراً عن القصص التي تُروى عن محاولاته الإصلاحية، والمشاكل والعقبات التي توضع أمامه".

ويضيف السادات "عندما خانه اللواءات وكان قائدهم وأسرّوا بما في نفسه للإنكليز، صدر قرار بالإقامة الجبرية له، والتي جاءت كناقوس كبير يدوي في آذاننا كي نبدأ العمل، وطال الحديث عنه، ولاح مني شدة اهتمامي بهذا الموضوع، وأبديت رغبة شديدة في ضرورة لقاء هذا الرجل الذي كان موقفه محور تفكيرنا".

حدثت المقابلة بين المصري والسادات بعد ذلك في إحدى العيادات الخاصة لطبيب، ومن هنا كانت الانطلاقة الفعلية والتفكير الجاد في الثورة على النظام الملكي، بحسب السادات الذي يقول: "عندما خرجت من عنده كانت رسالتنا قد تحددت كهدف بعيد نستطيع أن نراه بأعيننا، وإن كنا لا نتبيّن. الطريق إليه".

يروي المصري بنفسه تفاصيل الواقعة، كما نقل عنه كتاب "أبو الثائرين عزيز المصري"، فيقول: "كانت بداية اللقاء بجمال عبد الناصر مثيرة وغريبة، عرفته بشخصيته المناضلة من خلال موقف طريف، يبعث على الدهشة والضحك في آن واحد. ذات مساء كنت أجلس في حجرتي في منزلي في عزبة النخل في منطقة عين شمس، وجاءت إلي خادمتي زينب خير الله تطرق الباب في هدوء وتستأذن بالدخول، وأخبرتني أن هناك مجموعة من الشباب يرتدون الملابس المدنية يرغبون في لقائي والجلوس معي".

ويستمر الفريق في سرد تفاصيل الواقعة: "في هذا المساء كنت متعباً وأحس بالإرهاق، ومن هنا كان قراري أن أجلس وحدي ولا أقابل أي زائر، إلا إذا كانوا رجال البوليس، ومعهم أمر بالقبض علي والذهاب بي إلى السجن للتحقيق في أي شيء، فقلت لزينب وهي تنتظر الإجابة مني على مقابلتهم: إنني متعب، أرجو أن تقدمي لهم على الفور اعتذاري لتوعكي، وخرجت وأغلقت الباب وراءها، وبعد دقيقة وربما أكثر سمعت صوتاً عالياً، صوت زينب الهادئ كان قوياً هادراً يطلب من الزائرين الانصراف والحضور في وقت آخر، لأن حالتي الصحية غير جيدة".

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد.

يقول المصري: "ساد الصمت بعض الوقت، وبعدها سمعت صوتها مرتفعاً تنادي الطباخ لإحضار عصا غليظة (شومة)، وزادت الضوضاء في ردهة المنزل، وأقدام كثيرة تتحرك، وتصطدم بأرضية الصالة، فخرجت لاستطلاع الأمر، وعندما فتحت باب حجرتي، وتقدمت بضع خطوات داخل الصالة، وجدت زينب تمسك بالعصا وتتجه نحو شاب طويل أسمر تنوي الاعتداء عليه بشراسة عند مقدمة ظهره وكتفه، وطلبت منها في دهشة تفسيراً لما أراه أمامي، فتقدم الشاب خطوة إلى الأمام، ثم خطا أخرى، وكان الخجل بادياً على وجهه، وهو يقول: "نأسف لما حدث، نحن أولادك يا باشا، نحن تلاميذك يا سيادة الفريق، نأسف لما حدث مرة أخرى، نحن نعرف تاريخك ومواقفك جئنا لنجلس معك، بل نحن في شوق لأن نجلس معك، نحن ضباط الجيش كان من المفروض أن يسبقنا إليك أنور السادات حتى يعرفك بقدومنا، ولكن للأسف لم نجده هنا ليقدمنا إليك... وأجزم أنه في الطريق إلينا الآن".

وعلى الرغم من أن الرجل كان متعباً ولا يريد مقابلة أحد منذ لحظات قليلة، إلا أنه تجاهل كل شيء عند رؤية الشباب. هكذا وصف الأمر بالقول: "أمام هذه الكلمات سقطت مني أي حجة للاعتذار وعدم الجلوس معهم، ونسيت تعبي كله، وتقلصت بداخلي جميع همومي وشعرت بالانتعاش... أحسست بالحيوية تسري في جسدي كله، ونسيت كل شيء وأنا أدعوهم إلى الجلوس. تأسفت لهم لسوء التفاهم، وضحكت من أعماقي، لأن زينب كانت جادة وحاسمة في القرار الذي اتخذته بضرب الشاب الأسمر الطويل الذي كان يسطع من عينيه بريق يدل على الذكاء والفطنة، وهذا الشاب الأسمر لم يكن سوى جمال عبد الناصر، ولا أذكر من الأسماء سوى عبد الحكيم عامر وجمال سالم، وربما حسن إبراهيم.

شعر المصري بالسعادة بعد لقاء الضباط، كما يؤكد قائلاً في كتاب "أبو الثائرين عزيز المصري": "كان الجلوس معهم يعطيني الإحساس بالدفء العاطفي والراحة العقلية واسترخاء النفس المصحوب بالإعجاب، فكنت أحس بامتزاج ثورتي داخل ثورتهم، وتأكدت أن التغيير قادم لا محالة ما دام أمامي أمثال هؤلاء الرجال".

"لم أكن أريد أن أسلب القيادة منهم، ولقد أثبتت الأيام بعد ذلك حكمة قراري، عندما جاء محمد نجيب ليقود الثورة في بدايتها باعتباره صاحب رتبة كبيرة، ثم كيف حدث الخلاف الذي أدى إلى حجبه عن أداء وظيفته كرئيس للجمهورية، ثم إقالته وتحديد إقامته"... عزيز المصري الذي ساعد الضباط الأحرار بخبرته ونصائحه".

بعد هذا اللقاء الأول، جاء الآخر مع عبد الناصر. "كنت أنا وأنور السادات وعبد المنعم عبد الرؤوف في انتظاره، وأذكر أن الحديث استمر قرابة ٣ ساعات، وكان المتحدث الوحيد في هذه الجلسة"، حسب المصري الذي روى عن ذلك الاجتماع قائلاً: "لاحظت بعد ذلك في أحاديثهم أنهم يرددون كلمة انقلاب أكثر من الثورة، وكنت أقول لهم إن الانقلاب يمكن أن يعقبه آخر، كما كان يحدث في سوريا آنذاك، وطلبت منهم رفع شعار الثورة، لأن الثورة أقوى وأشمل، والشعب المصري عندما يقوم بتأييد ثورة الجيش، فهي بالنسبة له ثورة من داخله، لأنه رافض للملك والأحزاب والاحتلال، ويرغب في التغيير الشامل".

كانت الخطوة الأهم بعد هذه اللقاءات اختيار قائد لمجموعة الضباط. نظراً لما رأوه وما عرفوه عن المصري، أرادوا أن يكون هو القائد، إلا أنه رفض ذلك، واكتفى بكونه "أباً روحياً لهم".

يقول عبد المجيد في كتابه "أبو الثائرين عزيز المصري": "بعد ذلك كان هناك لقاء حاسم في منزل عزيز المصري، أبطاله جمال عبد الناصر وأنور السادات وصلاح سالم وعبد الحكيم عامر، بادره جمال بالقول: ′أنت تعرف عنا الكثير، وعرفت هوايتنا وكل خططنا وأهدافنا، وما عزمنا عليه من أجل مصر، وأننا في مجملنا أصحاب رتب متوسطة تقف عند البكباشي، وقليل جداً من يحمل رتبة القائم مقام، لذلك قررنا أن يكون لنا كبير، وأن يكون لنا قائد له قدره وقيمته وأهميته وتاريخه المعروف حتى يرضى عنه الشعب، لذلك قررنا اختيارك قائداً لثورتنا′".

تفاجأ المصري الذي كان عمره في ذلك التوقيت يقترب من الـ٧٠ عاماً، ورد قائلًا: "أنا لا أريد هذه القيادة هروباً منها، ولكنني عازف عنها ورافض لها، ربما لأنني لست الشخص المناسب، أو أنني غير صالح لهذه المهمة، ابحثوا عن غيري، ولكن إن شئتم أن أكون صاحب رأي ومشورة، أو مساعداً في اتخاذ أي قرار، هذا أرحب به ويسعدني أن أقوم بهذه المهمة كأب روحي لكم".


ويؤكد المصري عدم ندمه على هذا الرفض القاطع، مبرراً ذلك بقوله: "لم أكن أريد أن أسلب القيادة منهم، ولقد أثبتت الأيام بعد ذلك حكمة قراري، عندما جاء محمد نجيب ليقود الثورة في بدايتها باعتباره صاحب رتبة كبيرة، ثم كيف حدث الخلاف الذي أدى إلى حجبه عن أداء وظيفته كرئيس للجمهورية، ثم إقالته وتحديد إقامته، ولم أكن أريد لنفسي أن أكون مكانه".

بعدما نجحت ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢م، وعُيّن عبد الناصر رئيساً للوزراء، قابل زينب، خادمة المصري، مرة أخرى. يروي الرئيس ناصر ما حدث في ذلك اللقاء بالقول: "أذكر أنه قال لزينب في إحدى زياراته بعد الثورة وكان ما زال رئيساً للوزراء: ′يا ترى يا ست زينب ماذا كان سيُقال ويسجله التاريخ لو أنك قمت فعلاً بضربي بالعصا، كانوا سيقولون: ضربت زينب عبد الناصر بالعصا في بيت عزيز المصري′، يومها ضحكنا حتى نفرت عروق وجوهنا، وكان من الحاضرين محمد نجيب وأنور السادات وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم".

وعرفاناً بجميله وأبوته الروحية لها اختارت الثورة الفريق (عزيز المصري) ليكون أول سفير لها في الاتحاد السوفيتي ليعمل على إعادة تسليح الجيش المصري.


وفي عام ١٩٦٠م، منحه الرئيس جمال عبدالناصر قلادة النيل تقديرا لخدماته الجليلة وتاريخه الحافل بالوطنية والكفاح من أجل الوطن.

وظل رغم تقدم العمر به متابعاً أحوال الوطن حتى وافاه الأجل في الخامس عشر من يونيو عام ١٩٦٥م.

المصادر

كتاب «عزيز المصري باشا»، فؤاد نصحي.

كتاب «أبو الثائرين عزيز المصري»، محمد عبد الحميد.

كتاب «أسرار الثورة المصرية»، محمد أنور السادات.

موقع الهيئة العامة للاستعلامات.