حقيقة الزهد

حقيقة الزهد

بقلم/ عدنان حسان


إن الانسان في هذه الحياة لا تقف مطالبه وتطالعته عند حد، فاذا تحقق له مطلب نظر الي ما بعده ، واذا وصل الي مستوي تطلع الي ما فوقه.

وهناك من الأمور ما يحمد معه الطموح والاستزادة، مثل طلب العلم وزيادة الانتاج، وما يعود على الفرد والمجتمع بالخير.

ومن الامور ما يمكون التجاوز فيه عن الحد، اسرافاً وترفاً يصيب الفرد والمجتمع بالمفاسد والشرور، ويؤدي الي الانحلال والدمار. مثل اسراف الفرد في المأكل والمشرب وما يؤدي اليه ذلك من العلل والأمراض، واسرافه في ألوان الترف والزينة وما يؤدي اليه ذلك من العلل والأمراض، واسرافه في الوان الترف والزينة وما يؤدي اليه ذلك من ضعف وانحلال ، وشراهته في جمع المال وحيازة الأرض وما يؤدي اليه ذلك من احتكار واستغلال. ثم تكون عاقبة ذلك كله أن يعود الانسان أسيراً، تستعبده شهوة الطعام والشراب والمال ...

فكيف يستطيع الانسان أن يعصم نفسه من الوقوع في هذا الأسر، وأن يجنب نفسه العبودية وقد خلق ليكون سيداً لا عبداً للحياة ؟ . .

هل يكون ذلك بما ذهب اليه البعض باسم الزهد وهو من القيم الدينية، من الانصراف عن الحياة والاعراض عما فيها من متاع ، وتعطيل أسباب السعي والعمل ، وعدم المشاركة في بناء المجتمع ، والانطواء والسلبية في معترك الحياة ؟ . .

ان الأصل في الزهد، أن تزهد فيما تملك، فان لم تكن تملك شيئاً ففي أي شيء تكون الزهادة؟ . .

فالزهد عملية ايجابية فيها ممارسة ومجاهدة. وقبل أن تبدأ هذه العملية لابد من أن يستكمل الانسان مقومات حياته بالعمل والكسب والقدرة على الاستمتاع بمباهج الحياة. فاذا تم له استكمال هذه المقومات وملك أسبابها تبدأ بعد ذلك مرحلة الزهد ان أراد . . .

أما أن يعيش منطوياً علي نفسه، بعيداً عن معترك الحياة ن وقد خلت يده من المال والمتاع ، ولا صلة له بزوجة أو ولد ، ثم يدعى أنه زاهد في الدنيا ، فذلك وهم وادعاء . انه لم يزهد في الدنيا فما كانت الدنيا في يده حتي يزهد فيها. ولكن الدنيا هي التي زهدت فيه ولفظته، حين عزل نفسه عن نواميس الكون والحياة. ولكن العكس فلقد خلق الله الانسان واستخلفه في الأرض ليعمل ويستمتع بثمرات عمله، أم ليعطي الدنيا ظهره وينفض يده من أسبابها ويحرم  نفسه مما خلق فيها من متاع ، ثم يهرب الي خلوة ، وقد انقطع ما بينه وبين الحياة والأحياء ، وهو يتوهم أنه يهرب بنفسه من مفاتن الدنيا وموبقات الحياة ، ليظفر بالثواب العظيم في جنات النعيم ومتي كان الهروب من الحياة سبيلا الي الجنة ، ولا سبيل اليها الا بالعمل وخوض معترك الحياة ومجاهدة النفس والابتلاء. ولنا في ذلك أدلة كثيرة من القران والاثر . . .

" أفحسبتم انما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون؟ “، " انا جعلنا ما علي الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " ؛ و كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطرد المتعطلين العاكفين بالمسجد ويأمرهم بالسعي والعمل. قال مرة لأحدهم : من الذي يعولك ؟ قال : أخي ، فقال له عمر : أخوك أعبد منك.

هذا هو وضع الانسان في الدنيا، وهذا هو السبيل الي الجنة. ولقد أباح الله للإنسان أن يستمتع بالحياة الطيبة، حثه على ألا ينسى نصيبه من الدنيا وهو يتجه بعمله الي الاخرة. " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ".

وجاء رجل الي علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشكوه اليه أخاه، فقد لبس غليظ الثياب وتخلي عن الدنيا. فدعاه، فلما حضر قال له: يا عدو نفسه ، لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك. أتري الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، انت أهون علي الله من ذلك! والامام علي بن أبي طالب له مواقفه الكثيرة التي يحذر فيها من عواقب الانغماس في شهوات الحياة، والاستجابة للمغريات الدنيوية، ومع ذلك أنكر علي هذا الرجل تخليه عن الدنيا وعزوفه عن طيبات الحياة، لأنه انما يذم من الدنيا فتنتها التي تورد الناس موارد التلف والهلاك ، وتستبعد الانسان بالشهوات فيسرف علي نفسه وعلي المجتمع. وجاء رجل الي الحسن، فقال : ان لي جارًا لا يأكل الفالوذج، فقال: ولم؟! قال: يقول : لا أؤدي شكره، فقال: ان جارك جاهل ، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟! وكان سيفان الثوري يحمل في سفره الفالوذج و الحمل المشوي، ويقول: إن الدابة اذا أحسن إليها، عملت.

إذن متي ينشأ الزهد، وكيف يكون ؟ . . .

ينشأ الزهد مع امتلاك أسباب الحياة، ليظل الإنسان مالكاً حريته، محققاً التوازن النفسي والعملي في حياته، فلا يغلبه هواه ، ولا تستبد به دنياه. وهذا الزهد يحتاج الي مجاهدة للنفس، فليس أن يزهد الإنسان فيما يملك، لأن النفس البشرية جبلت على الأثرة وحب الحياة بما فيها من متاع. هي إذن الطبيعة البشرية التي لا جدال فيها، ولكن الطبيعة البشرية أيضا ميزانها الذي يعصمها من أن تزل أو تنحرف أو تجور. هذا الميزان هو الذي يجعل الإنسان سيداً لا عبداً للحياة. 

وذلك بأن يعرف الإنسان حدوده فيما يأخذ وما يدع، وأن يكون قادراً علي أن يكبح جماح شهوته، وأن يروض نفسه علي الشدة وهو يعيش الرخاء، وعلي الحرمان وهو يملك ما يشاء. وبذلك يملك زمام نفسه ويدرك معني الزهد عن قدرة وفهم. ولدينا المثل الرائع الذي استوفى جوانب هذه الصورة في حياة عمر بن عبد العزيز . . .

كان عمر في نشأته فتى مدللا مترفاً مسرفاً في الأخذ بكل صور المتاع التي في الحياة، كان يتطيب بنوع من العطر له عبير خاص يعرف به، حتى إنه لما يكون قادماً من بعيد لا يراه أحد، فتحمل الريح هذا العبير فيقول الناس: هذا عمر بن عبد العزيز. ثم تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فاجتمعت له من أسباب الجاه والسلطة وامتلاك ناصية الدنيا وما في الحياة من متاع ما لم يجتمع لغيره. وكان الاتجاه الطبيعي حين يستكمل في يديه كل هذه الاسباب أن يزداد إقبالا على الدنيا واستمتاعاً بالحياة. ولكن ما حدث كان على نقيض ما يؤدي إليه هذا الاتجاه. كان انقلاباً في كل شيء، وكأنما تبدل عمر بن عبد العزيز خلقاً آخر ليس بينه وبين ماضيه أي صلة على الإطلاق.

كان أول ما فعله أن جرد بنى أمية مما اعتبره حقاً مغتصباً من الشعب، ورد هذا الحق إلي بيت المال أو إلى أصحابه. وبدأ بنفسه وبزوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان. وكان دخله قبل ان يتولى الخلافة أربعين ألف دينار، فتركه لبيت المال ولم يستبق لنفسه ولأهله إلا ثلاثمائة درهم. كان قبل الخلافة يؤتى له   بالقميص من الحرير الرقيق البالغ النعومة والرقة، فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما تولى الخلافة كان يلبس القميص الغليظ المرقع ويقول: ما أحسنه لولا لينه!

ومع هذا كله فإن عمر بن عبد العزيز لم يفرض علي رجال دولته وعلي الناس هذا الأسلوب الذي أخذ به نفسه وأهله، فقد كان يعطي عماله رواتب مجزية ، وكان المجتمع في عهده ينعم بمستوي عال من الكفاية والعدل والرخاء ، حتي إن يحي بن سعد وقد بعثه عمر بن عبد العزيز لتحصيل الزكاة من شمال إفريقية، فلما جمعها طلب الفقراء ليوزعها عليهم فلم يجد فقيراً ولم يجد من يأخذها منه ، فقد أغني عمر بن عبدالعزيز الناس. ويفسر شخصية عمر بن عبد العزيز وفلسفته في الزهد قوله: إن لي نفس تواقة، لم تنل شيئاً قط إلا تاقت لما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا فنفسي تتوق الى الآخرة. إن الزهد عنده ليس مصدره الضعف أو العجز أو جفاف ينابيع الحياة في نفسه وفي واقعه، ولكن مصدره القدرة والامتلاء ، ثم الطموح إلي ما هو أفضل والتطلع إلي ما هو أسمي. وهذا هو الزهد في صورته الكاملة، وهو موقف قبل ان يكون حال ، فرب زاهد أو متزهد انصرف إلي الزهد عن عجز أو فقر أو سبب من أسباب العدم ، فإذا وجد ما فقد أو لوحت له الحياة بمفاتنها أقبل عليها إقبال الصائم عن الاكل والشراب. فهل يوصف مثل هذا بالزهد أو يكون من للزاهداين ؟ . .

إنما الزاهد هو الذي يملك أولا ثم يزهد فيما يملك إن أراد. إنه يتخذ موقفا من الحياة يسترد فيه حريته، فلا يترك الحياة تستعبده وتدفعه إلى الإسراف على نفسه وعلي المجتمع، وبذلك يسيطر علي نفسه ويملك جماحها، ومتي استطاع أن يسيطر علي نفسه استطاع أن يسيطر علي الحياة.

وليس من الضروري أن يكون أن الزهد تحرراً مطلقا من أسباب الحياة، ولندع زهد عمر بن عبد العزيز مثل فريد لا يطيقه إلا القلة النادرة من الناس، ولننظر في الزهد الذي يمكن أن يطيقه من يريد ان يأخذ بأسبابه، نجد أنه الحد النفسي والعملي الذي يملك عنده الإنسان حريته ثم يكون بعد ذلك قادراً على أن يأخذ أو يدع. أن تكون الدنيا في يده وليست في قلبه، أن يكون سيداً لا عبداً للحياة، وألا تستولى الأنانية على نفسه، بل يذكر حق المجتمع عليه، فيعطي أكثر مما يأخذ، ويبسط يده وقلبه بالبذل والعطاء.