كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى مؤتمر للمعلمين بمناسبة الاحتفال بعيد الجلاء وتوقيع الاتفاقية عام ١٩٥٤

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى مؤتمر للمعلمين بمناسبة الاحتفال بعيد الجلاء وتوقيع الاتفاقية عام ١٩٥٤

إخوانى:

أحييكم وأشكركم على هذه الفرصة التى كنت أترقبها منذ أكثر من عام، والحمد لله فقد تم هذا اللقاء بعد أن أيقنا من جلاء قوات الاحتلال، وأنا أعتبر هذا.. هذا النصر الذى منحنا الله إياه لابد أن يكون باعثاً لنا على المضى دائماً إلى الأمام، وإذا كنت أتكلم معكم اليوم فإنى أريد أن أقول لكم إن عليكم رسالة كبرى ورسالة عظمى. فإذا كنا قد حررنا الأرض من جنود الاحتلال، فإننا إذا أردنا أن نحتفظ بالعزة، وأن نحتفظ بالكرامة، وأن نحتفظ بالحرية، وأن نحتفظ بهذا النصر الذى وهبنا الله إياه؛ لابد أن نحرر العقل، ولابد أن نحرر النفس من آثار الاحتلال ومن آثار الاستبداد، وهذه هى رسالتكم أيها الإخوان.

لم يكن.. لم يكن للاحتلال ولا للاستبداد سند فى بلادنا إلا التشتت الفكرى والتشتت العقلى والتشتت النفسى، فقد عملوا دائماً - الاحتلال وأعوان الاحتلال، والاستعمار وأعوان الاستعمار، والاستغلال وأعوان الاستغلال - عملوا دائماً على أن يشتتوا النفوس، ويشتتوا القلوب، ويضيعوا العقول؛ حتى يتمكنوا فينا، وحتى يتمكنوا من رقابنا، وحتى يتمكنوا من حريتنا، وحتى يتمكنوا من عزتنا، وحتى يتمكنوا من مصائرنا. فإذا أردنا اليوم - أيها الإخوان - أن نحافظ على العزة، وأن نحافظ على الكرامة، وأن نحافظ على القوة فيجب أن نتجه أول ما نتجه إلى التحرر الكامل.. التحرر الكامل من الاستعمار الفكرى، والتحرير الكامل من الاستعمار العقلى، والتحرير الكامل من كل آثار الماضى البغيض، والاتجاه إلى المستقبل بسياسة جديدة وسياسة رشيدة تبدأ من النشء وتتجه إلى الشباب؛ وبهذا - أيها الإخوان - سنستطيع أن ننشىء بلداً قوياً عظيماً كريماً عزيزاً؛ يتمتع فيه الجميع بالعدل وبالحرية وبالعزة وبالمساواة.

وكانت كل آفاتنا فى الماضى - أيها الإخوان - طيبة القلب وطيبة النفس، فقد كنا دائماً نسلم قلوبنا ونسلم نفوسنا ونسلم عقولنا، نسلم هذه الأشياء الغالية والأشياء العزيزة.. نسلمها طائعين، نسلمها مختارين ونحن نتوخى الثقة، ونحن نتوخى القيادة، ونحن نتوخى القوة، فكانت الثقة تضيع، وكانت القيادة تنحرف، وكانت القوة تتحلل؛ وكانت النتيجة - أيها الإخوان - إننا يستبد بنا، بعقولنا وبنفوسنا، وبأجسامنا. فإذا أردنا اليوم أن نسير فى طريق جديد؛ فإننا يجب أن نتبصر، ويجب أن نتيقظ، ويجب ألا نعبد الأشخاص ولا نعبد الأصنام، فطالما عبدنا الأشخاص وطالما عبدنا الأصنام، فاستهزأت بنا الأشخاص، واستبدت بنا الأصنام، وسرنا إلى الحال الذى اشتكى منه الجميع.

لقد قلت لكم - يا إخوانى - فى مارس الماضى: إننا لن نخادع، ولن نضلل، ولن نستجدى، قلت لكم هذا فى أصعب الأوقات وفى أشد الأزمات، وكنت أعنى ما أقول؛ لأننى كنت أحمل فى نفسى ما أحمل من الخداع ومن التضليل ومن الاستجداء، وكنت أعلم كل العلم أن هناك من قاموا فى أرض هذا الوطن يسترضونكم ويستجدونكم ويطلبون عونكم؛ حتى إذا تمكنوا منكم خدعوكم وضللوكم؛ ليستبدوا بكم ويستبدوا بأرزاقكم، ويتحكموا فيكم ويتحكموا فى عرق جبينكم لمنفعتهم الخاصة، ولمصلحتهم الخاصة حتى لو تعاونوا مع الاحتلال، وحتى لو تعاونوا مع أعوان الاحتلال.

وأنا اليوم حينما أجتمع بكم أنتم يا رجال العلم أقول لكم إننا لن نخادع، ولن نضلل، ولن نستجدى؛ ولكن سنتمسك بالمبادئ، وسنتمسك بالمثل العليا، ونطالبكم أنتم ألا تخادعوا، ولا تضللوا، ولا تستجدوا، وتتمسكوا بالمبادئ، وتتمسكوا بالمثل العليا، ونطالبكم أيضاً - أيها الإخوان - أن تعلموا النشء ألا يخادع، ولا يضلل، ولا يستجدى؛ بل يتمسك بالمبادئ ويتمسك بالمثل العليا؛ وبهذا - يا إخوانى - سنستطيع أن ننشىء الوطن القوى العزيز الذى تحلمون به، والذى تصبون إليه.

إن هذا الوطن.. هذا الوطن - أيها الإخوان - كان دائماً فى الماضى سيداً قوياً عزيزاً كريماً، ولكنا لم ننتكس إلا بعد أن رضينا بالخداع وبالتضليل، وبعد أن رضينا بالاستجداء وأعجبنا الاستجداء وأخذنا الزهو بالاستجداء، ولم نكن نعلم - أيها الإخوان - أن الاستجداء ليس إلا وسيلة من وسائل التحكم ووسائل السيطرة.. وسائل التحكم فى الوطن، ووسائل السيطرة فى المواطنين.

واليوم لن نمكن للاستجداء من أن يأخذ طريقه بيننا، ولن نمكن للضلال ولا للخداع من أن يأخذ طريقه بيننا، ولكنا - أيها الإخوان - سنسير قدماً إلى الأمام متسلحين بالمعرفة، متسلحين بالتبصر، متسلحين بالتيقظ، متسلحين بالدروس التى أخذناها فى الماضى، متسلحين بالمآسى وبالمعارك؛ المعارك الكبرى التى استشهد فيها الآباء والتى استشهد فيها الأجداد، متسلحين بهذا كله لنسير فى الطريق حاملين العلم نحو القوة، ونحو العظمة، ونحو المجد. ولن نمكن للمستعمر الخارجى ولن نمكن لأى قوة خارجية من أن تعمل بيننا ما عملت فى الماضى من وسائل التفرقة ومن وسائل البغضاء ومن وسائل الضغينة، لن نمكن لهم من أن يفرقوا بيننا - بين أبناء الوطن الواحد - تحت أى اسم من الأسماء؛ الأسماء البراقة، الأسماء الخادعة التى خدعونا بها فى الماضى.

ولكنا سنتبصر وسنتيقظ، وستكونوا أنتم - أيها الإخوان - الرسل الذين تدعون إلى الهداية، الرسل الذين تدعون إلى التبصر، الرسل الذين تدعون إلى التيقظ حتى يكون أبناء هذا الوطن دائماً متبصرين متيقظين عاملين على رفعته، عاملين على تقويته، عاملين على بث روح الحرية، عاملين على بث روح العدل، عاملين على بث روح المساواة، هذه هى رسالتكم.

وإننا حتى اليوم لم نحقق الحرية كاملة، وإننا حتى اليوم لم نحقق العزة كاملة، ولم نحقق الكرامة كاملة، ولكنا نحتاج إلى العمل وإلى الجهد وإلى العزيمة حتى نحقق الحرية التى نصبوا إليها، وحتى نحقق العدالة التى نتمناها، وحتى نحقق العزة التى ننادى بها جميعاً، نحتاج إلى العمل ونحتاج إلى الجهد ونحتاج إلى كل فرد منكم، ونحتاج إلى كل مواطن من أبناء هذا الوطن لكى يعمل ويسير فى الطريق؛ الطريق الذى بدأته هذه الثورة، الطريق الطويل، الطريق الشاق، الطريق الصعب، الطريق الذى سنسير فيه جميعاً متحدين متكاتفين، والطريق الذى لم نقطع منه شيئاً حتى الآن؛ لأننا لم نعمل حتى الآن عملاً يذكر - أيها الإخوان - ولكنا لازلنا نمهد؛ نمهد الطريق حتى نبدأه من أوله، وحتى نراه أمامنا طريقاً قويماً مستقيماً يوصل إلى العزة، ويوصل إلى المجد، ويوصل إلى الحرية، ويوصل إلى الكرامة التى نحلم بها جميعاً.

إننا لا نريد أبداً - أيها الإخوان - أن يغرنا النصر أو يأخذنا الزهو، ولكننا نريد دائماً أن نأخذ من هذا عظة ومن ذاك عبرة، ونسير فى طريقنا متسلحين بهذه العظات ومتسلحين بهذه العبر نتجه إلى المستقبل بقوة وعزم، وننظر إلى الماضى بمآسيه ونرى كيف تفككنا فى الماضى، وكيف تفرقنا فى الماضى، وكيف لم نستطع فى الماضى أن نكمل الطريق، ونتجه إلى المستقبل.. نتجه إلى المستقبل ونحن أشد حرصاً على الاتحاد، ونحن أشد حرصاً على التماسك؛ حتى نكمل الرسالة التى لم يستطع الآباء أن يكملوها، وحتى نكمل الرسالة التى استشهد الأجداد من أجلها، وحتى نترك لأبنائنا من بعدنا وطناً سعيداً عزيزاً كريماً؛ يتمتعون فيه بحياة عزيزة كريمة لم نستطيع نحن أن نتمتع فيه بها، وحتى نسير إلى الأمام دائماً أقوياء أعزاء كرماء.

واليوم - أيها الإخوان - بعد أن قطعنا هذا الشوط، وبعد أن حللنا مشكلة كبرى كانت هى الشغل الشاغل لكل فرد منا، لن نمكن أبداً لأعوان الاستعمار، ولا لأعوان الاستغلال، ولا للمستغلين، ولا للمستبدين الذين تحكموا فينا سنيناً طويلة، لن نمكنهم أبداً أن يخدعونا أو يضللونا أو يتحكموا فينا مرة أخرى.

وبهذا - يا إخوانى - ستستطيع مصر أن تأخذ مكانها الطبيعى، ستستطيع مصر أن تأخذ مكانتها التى تمتعت بها فى الماضى، ستستطيع مصر أن تحمل الرسالة وأن تحمل المشعل، ستستطيع مصر أن تتجه إلى الأفاق الواسعة خارج حدودها لتبشر برسالتها ولتنشر رسالتها. ستستطيع مصر أن تعمل على نشر رسالتها؛ رسالة الحضارة ورسالة العزة ورسالة الكرامة بين العرب وبين المسلمين وفى الشرق وفى الغرب وفى إفريقيا. وستستطيع مصر أن تكون لها مكانة يعمل العالم حسابها، وستستطيع مصر أن تقول كلمتها فيستمع العالم إليها؛ لأن مصر التى حكمت العالم فى الماضى، ولأن مصر التى سادت العالم فى الماضى، ولأن مصر التى لم تتحلل بعد كل ما حصل فيها، وبعد كل المجهودات التى عملها الغزاة، وبعد كل الحروب، وبعد كل الترتيبات الكبرى التى عملت لتحليل شعبها. هذا الوطن القوى الذى لم يتحلل بعد كل هذه المآسى سيسير قدماً إلى الأمام، سيسير قدماً إلى الأمام قوياً عظيماً يشعر بقوته ويشعر بعزته ليتبوأ المكانة التى تبوأها فى الماضى، وسيسير إلى الأمام وسيجبر العالم على أن يعترف بوجوده؛ ليحقق الرسالة ولينشر الحضارة. وهذا - يا إخوانى - لن يتأتى إلا إذا تركنا الخداع وإلا إذا تركنا التضليل، ولن يتأتى إلا إذا كشفنا المخادعين وإلا إذا كشفنا المضللين، لإن هذا الوطن قاسى طويلاً من الخداع، وقاسى طويلاً من المضللين، وإن هذا الوطن لم ينزل إلى الدرك الذى نزل إليه إلا بواسطة المخادعين وبواسطة المضللين الذين كانوا يخدعونه باسم الحق وهم يريدون الباطل.

ونحن اليوم فى سبيل نشر الحضارة وفى سبيل نشر الرسالة لن نسمح للمخادعين ولن نسمح للمضللين من أن يحرفونا عن أداء رسالتنا، ولن يحرفونا عن السير فى طريقنا.

وأنا أقول لكم أيها المعلمون إن هذه رسالتكم الأولى، وإن هذه رسالتكم الكبرى فإن سرتم وراء هذه الرسالة، وإن عملتم على تقويم هذه الرسالة فإن الوطن - بإذن الله - سيسير إلى غايته الكبرى التى تحلمون بها أنتم، والتى تكلمتم عنها قبل أن تتكلم؛ وبهذا سيمكن لهذا الوطن أن يتبوأ المكان اللائق به، وسيمكن لهذا الوطن أن يرى الحرية كاملة، وأن يرى العزة كاملة، وأن يرى المساواة كاملاً، وأن يرى العدل كاملاً.

والسلام عليكم ورحمة الله.