بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية

بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية
بطرس بطرس غالي : الناصرية وسياسة مصر الخارجية

دراسة بقلم/ د. بطرس بطرس غالي - الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة

أولا- الدائرة العربية أو عروبة مصر.

لا شك أن اهتمام مصر بالعالم العربي، مشرقه ومغربه، يسبق سيطرة العرب إبّان الفتح الإسلامي على هذه المنطقة. فالمعاهدة التي أُبرمت بين الفرعون رمسيس الثاني وملك الحيثيين تدل على أن الترابط والتواصل بين أجزاء تلك المنطقة سبق عروبتها بقرون (۱) وقد أكد الميثاق الوطني ذلك الترابط والتواصل عندما قال: « منذ زمن بعيد في الماضي لم تكن هناك سدود بين بلاد المنطقة التي تعيش فيها الأمة العربية الآن. وكانت تيارات التاريخ التي تهب عليها واحدة كما كانت مساهمتها الإيجابية في التأثير على هذا التاريخ مشتركة ومصر بالذات لم تعش حياتها في عزلة عن المنطقة المحيطة بها بل كانت دائما بالوعي وباللاوعي في بعض الأحيان تؤثر فيما حولها وتتأثر به كما يتفاعل الجزء مع الكل، وتلك حقيقة ثابتة تظهرها دراسة التاريخ الفرعوني صانع الحضارة المصرية والإنسانية الأولى كما تؤكدها بعد ذلك وقائع عصور السيطرة الإفريقية الرومانية. وكان الفتح الإسلامي ضوءَا أبرز هذه الحقيقة وأنار معالمها، وصنع لها ثوبًا جديدَا من الفكر الوجداني الروحي (۲).

وفي القرن الماضي كانت غزوات إبراهيم باشا، بين منطقة الشام ومنطقة وادي النيل وكان استيلاؤه على سوريا، كان هذا وذاك تكرار للمخطط الذي رسمه تحتمس ورمسيس الثاني قبل ذلك بعشرات القرون ورمزا للتكامل الاستراتيجي. إلا أنَّ سياسة محمد على تجاه العالم العربي قد أُخفقت لأنه لم يحاول تدعيم الروابط بين المنطقتين بأيديولوجية عربية، كما أن انجلترا وكانت من أقوى دول العالم - وقفت في وجه الإبقاء على الإمبراطورية العثمانية لما لها من مصلحة في تمزيق هذه الإمبراطورية. وقد اضطر محمد علي وخلفاؤه من بعده إلى أن ينصرفوا عن الدائرة العربية إلى الدائرة الإفريقية المُمَثلة وقت ذاك في وحدة وادي النيل. ويترتب على ذلك انفصال بين الحركة الوطنية المصرية، والحركات الوطنية التي قامت في كل من المشرق والمغرب العربي، وتجلى هذا الانفصال بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قام التعارض والتباين بين الحركة التحررية الهاشمية المعتمدة على انجلترا والحركة التحررية المصرية المعتمدة على مقاومة انجلترا.

ثم كان وعد بلفور ونشاط الصهيونية في فلسطين من عوامل الاتجاه نحو العودة إلى الدائرة العربية، وكان قيام جامعة الدول العربية أول مظهر قانوني وتنظيمي لدخول مصر من جديد في الدائرة العربية. وكانت حرب فلسطين الأولى هي المحك الذي اظهر جوهر هذه العروبة، إلا أنَّ الذي خلق العروبة بمفهومها الحديث، ذلك المفهوم القائم وفق مقتضيات النصف الثاني من القرن العشرين هو جمال عبد الناصر.

وقد بسط عروبة مصر وفقا لمنطق عسكري، وتحليل عاطفي فقال فيما يخص المنطق العسكري: (إن القتال في فلسطين ليس قتالًا في أرض غريبة وليس انسياقا وراء عاطفة، وإنما واجب يحتمه الدفاع عن النفس (۳)) وقال في تحليله العاطف (وأحيانا أحس أنني إنما أدافع عن بيتي وعن أولادي ٠٠٠ وكان ذلك عندما أَلتقي في تجوالي فوق الأطلال المحطمة ببعض أطفال اللاجئين الذين سقطوا في براثن الحصار بعد أن خربت بيوتهم وضاع كل ما يملكون، بينهم طفلة صغيرة كانت في مثل عمر ابنتي، وكنت أراها وقد خرجت إلى الخطر والرصاص الطائش، مندفعة أمام سياط الجوع والبرد تبحث عن لقمة عيش، أو خرقة قماش، وكنت دائما أقول لنفسي قد يحدث هذا لابنتي. وكنت مؤمنا أن الذي يحدث لفلسطين كان يمكن أن يحدث وما زال احتمال حدوثه قائمًا لأي بلدٍ في هذه المنطقة ما دام مستسلمًا للعوامل والعناصر والقوى التي تحكمه الآن) (٤).

وكان أول تحرك دبلوماسي لجأ إليه جمال عبد الناصر بشأن عروبة مصر قد تم داخل إطار المنظمة العربية التي كانت قائمة، وهي جامعة الدول العربية.

ولقد وقَّعت الدول العربية منذ ١٧ يونيو سنة ١٩٥٠ معاهدة جماعية ترمي إلى تدعيم العمل العربي المشترك عن طريق إنشاء مجموعة من الهيئات العربية الجديدة، ومنها مجلس الدفاع المشترك، واللجنة الاستشارية العسكرية المكونة من رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، واللجنة العسكرية الدائمة، والقيادة العربية الموحدة وغير ذلك.. إلا أنَّ الدول العربية تأخرت في إيداع وثائق التصديق لدى الجامعة، ولذلك لم تصبح المعاهدة نافذة المفعول وفقًا لأحكام المادة الثالثة عشرة من هذه المعاهدة إلا في ٢٣ أغسطس سنة ١٩٥٢، أي بعد قيام الثورة في مصر بشهر.

وعُقد أول اجتماع لمجلس الدفاع المشترك في ٤ سبتمبر سنة ١٩٥٣، وعُقد الاجتماع الثاني في ٧ يناير سنة ١٩٥٤، كما انعقدت اللجان العسكرية التابعة لهذا المجلس، وأثناء انعقاد مؤتمر رؤساء الجيوش العربية في ١٥ أغسطس سنة ١٩٥٣ ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابًا عبَّر فيه عن آماله في أن يعطي للضمان الجماعي العربي معناه الحقيقي (٥)، وصاحبت تلك المحاولة لتدعيم العمل العربي المشترك على الصعيد العسكري، محاولة أخرى لتدعيمه على الصعيد الاقتصادي، ووقَّعت بلادنا اتفاقية التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانسيت بين الدول الأعضاء في الجامعة في ۷ سبتمبر سنة ١٩٥٣، واتفاقية تسديد مدفوعات المعاملات الجارية، وانتقال رؤوس الأموال بين دول الجامعة العربية.

وفي ذلك الحين، تم التوقيع على اتفاقية الجلاء مع انجلترا في ١٩ أكتوبر سنة ١٩٥٤ (٦). وإذا كانت هذه الاتفاقية يمكن أن تُعتبر نصرًا كبيرًا لمصر ونصرًا كبيرًا لدبلوماسية جمال عبد الناصر، فإنها من جهة أخرى قد فتحت الطريق لضغوطٍ غربيةٍ لدفع مصر وغيرها من البلاد العربية إلى الدخول في حظيرة المعسكر الغربي، وأدت تلك المحاولات الغربية إلى وقوع أول معركة سياسية كبرى داخل الوطن العربي بين أنصار الانحياز للمعسكر الغربي وأنصار الارتكاز على القومية العربية، بين الذين يرون أنه لا يمكن قيام ضمان جماعي حقيقي دون ارتباطٍ بالمعسكر الغربي، والذين يرون أن الضمان الجماعي العربي يجب أن ينبثق من المنطقة نفسها ويعتمد عليها. 

وتُركز هذا الخلاف بين القاهرة وبغداد، بين جمال عبد الناصر ونوري السعيد. وفي حديث أدلى به الرئيس جمال عبد الناصر إلى مجلة «ذي یونیند ستينس اندورلد ريبورت » الأمريكية في ٢٠ أغسطس سنة ١٩٥٤ (٧) أبدى اعتراضه على أيّ معاهدة دفاعية تكون الدول الكبرى مشتركة فيها، وقدم حججًا متعددةً يعزز بها رأيه ومنها.

 ١ - حجةً نفسيةً: «أن العرب يخشون من الوقوع تحت سيطرة الدول الغربية، وخوفهم هذا يجعل من الأفضل أن تترك لهم التدابير الخاصة بأي نظامٍ للدفاع عن المنطقة التي يعيشون فيها ».

۲- حجةً عسكريةً: في وسع العرب متى حصلوا على الأسلحة اللازمة أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم». 

٣- حجةً سياسيةً فحواها أنَّ الارتباط العسكري مع الولايات المتحدة أو مع بريطانيا يعتبر نوعا من (الاستعمار المقنع). وقد عبر بذلك عن ظاهرة الاستعمار الجديد الذي يعرف باسم « نيو كولونياليزم ».

وأشار في نهاية الحديث إلى سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز فقال: إنَّ حياد نهرو في الهند سيساعد على إنهاء الحرب الباردة، وأن الهند قد تكون محورا لنظام الدفاع عن آسيا والشرق الأقصى، وأن مصر تستطيع أن تقوم بدور مماثل في الدفاع عن الشرق الأوسط.

و استمرت ضغوط المعسكر الغربي، وكان من أول نتائجها إبرام المعاهدة العراقية التركية في أبريل سنة ١٩٥٤، تلك المعاهدة التي أدت فيما بعد إلى قيام حِلف بغداد الذي انضمت إليه انجلترا، وهي عضو بارز في حِلف الأطلنطي، وليس هدفنا أن نذكر هنا أهم الحجج التي قدمها كل من الطرفين في الخلاف الذي قسم الوطن العربي إلى معسكرين (۸) ولكن الذي يهمنا هنا أن هذا الخلاف شجع جمال عبد الناصر  على أن يجاهد في سبيل عروبة مصر خارج نطاق جامعة الدول العربية.

وقد اتجه نشاط الدبلوماسية المصرية إلى إبرام معاهدات ثنائية مع بعض الدول العربية، فعقدت معاهدة مع سوريا في ٢٠ أكتوبر سنة ١٩٥٥، ومعاهدة مع السعودية في ٢٧ أكتوبر سنة ١٩٥٥. وكانت كل من المعاهدة المصرية السورية، والمعاهدة المصرية السعودية تتضمن نفس مبادئ التي تتضمنها معاهدة الضمان الجماعي العربي التي جُمدت بعد انضمام العراق إلى حِلف بغداد.
ولم تكتف الدبلوماسية المصرية بهاتين المعاهدتين، بل عملت على إبرام معاهدة ثلاثية بين كل من مصر والسعودية واليمن عقدت في ٢١ أبريل ١٩٥٦ وكانت ترمى من وراء كل هذا إلى إقامة ضمان جماعي عربي جديد يحل محل الضمان الجماعي الذي تجمد، كما كانت ترمي إلى عزل العراق لمواجهة دعوتها إلى الانحياز والارتباط بالمعسكر الغربي حتى لا تتسع دائرة الدول العربية الموالية للمعسكر الغربي.
وقد حدث في تلك الفترة تأميم شركة قناة السويس ذلك التأميم الذي أدى فيما بعد إلى العدوان الثلاثي الذي وقع من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر. سنة ١٩٥٦.

وإذا كانت المعاهدات الثنائية أو الثلاثية التي أُبرمت خارج نطاق جامعة الدول العربية لم تُنفذ، وإذا كانت معاهدة الضمان الجماعي التي عُقدت في إطار الجامعة لم تُنفذ أيضًا، فإن الروح العربية كانت لها الغلبة فلجأت الطائرات المصرية أثناء العدوان إلى المطارات السعودية، وفُجرت أنابيب البترول في سوريا وقد أكد ذلك جمال عبد الناصر في خطبته المشهورة التي ألقاها في ألقاهرة في ٩ نوفمبر سنة ١٩٥٦، والتي صرَّح فيها بأنَّ مصر هي التي طلبت من الدول العربية المتحالفة ألَّا تدخل في المعركة لعدم فتح جبهة أخرى قد لا تستطيع تلك البلاد العربية أن تصمد فيها، ثم أضاف: (هذا موقف الدول العربية التي تحالفنا معها... موقف مشرف يدعو إلى الاعتزاز وإلى الثقة)، ثم استرسل فقال: (لماذا أقول هذا؟) - ويجيب على تساؤله هذا بقوله: (لأن الأعداء يقولون: « أين القومية العربية؟. رغبة منهم في القضاء عليها). ثم يشرح العلاقة الوثيقة بين العدوان الثلاثي على مصر ورغبة الاستعمار في القضاء على القومية العربية، إلا أن القومية العربية حققت عكس ما كان يُرمى إليه فبقيت القومية العربية وأثبتت فعاليتها (وتحققت، وأصبحت عملًا بعد أن كانت قولًا).

ونرى بعد ذلك أن جمال عبد الناصر يشرح للرأي العام العالمي في أكثر من مناسبة حقيقة عروبة مصر وحقيقة القومية العربية، ففي حديث أدلى به إلى مراسل، الاسوشيتدبرس بتاريخ ٣١ نوفمبر سنة ١٩٥٦، أبان أن القومية العربية حركة تكاملية اتحادية لا تختلف عن الحركات المماثلة التي قامت في قارات أخرى من العالم، فكما (أن الشعوب الأوربية تعمل في سبيل الوحدة الأوربية، وكما أن إحدى وعشرين دولة مستقلة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية قد ارتبطت في اتحاد أمريكي، فكذلك تعمل الدول العربية على تحقيق مثَل أعلى للتعاون المثمر، غير أن كل دولة عربية تحتفظ بكيانها وشخصيتها بمثل الطريقة التي تعمل بها مصر). ثم أضاف إلى ذلك قوله (إن فكرة الإمبراطورية العربية إنما هي قصة خيالية أجنبية، وهي من قُبيل الدعاية الأجنبية التي تقوم على الجهل أو ما هو أسوأ)).

ولم يهدأ الاستعمار، فقد جاءت دعوة جديدة من الولايات المتحدة الأمريكية لربط العالم العربي بمحوره، وجاءت تلك الدعوة فيما سُمي، مشروع أيزنهاور، كما حاولت الدبلوماسية البريطانية بدورها إدخال الأردن في حلف بغداد.

ولم تسكت الدبلوماسية المصرية عن تلك المساعي الانجلوسكسونية، وكان ردها في صورة عقد معاهدة جديدة سميت (معاهدة التضامن العربي)، أبرمت في ١٩ يناير سنة ١٩٥٧ بين مصر والسعودية والأردن وسوريا لمدة عشر سنوات تُقدم خلالها الدول العربية الموقعة على المعاهدة دعما ماليا لتستطيع أن تتخلص من سيطرة الاستعمار (٩).

وقد شرح جمال عبد الناصر مرة أخرى موقف بلاده من المحاولات الانجلوسكسونية الجديدة فقال ضمن تصريح له في ٢٤ يناير سنة ١٩٥٧ (إننا نعارض أي أحلاف عسكرية خارج نطاق الدول العربية، وإني أعتقد أن المعركة ما زالت مستمرة، وأننا نمر الآن بمرحلة حاسمة، فإن قوى الاستعمار حاولت أن تضمنا إلى أحلاف عسكريه أجنبيه، أي إدخالنا إلى مناطق النفوذ الأجنبي. الأمر الذي لا نقبله،. ثم أضاف أن حلف بغداد هو نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط، وان جميع الشعوب العربية عارضته واعتبرته استمرارا للسيطرة الأجنبية،(١٠).

وعندما رأت الولايات المتحدة الأمريكية أن مصر لم تقبل مشروع أيزنهاور بل شجعت باقي الدول العربية على عدم قبوله، وأصرت على تمسكها بسياسة عدم الارتباط بالمعسكر الغربي، حاولت الولايات المتحدة عزل مصر وإخراجها من الدائرة العربية، وذلك عن طريق محاولة إنشاء تجمع عربي جديد بزعامة الملك سعود، وكانت زيارته للولايات المتحدة (فبراير سنة ١٩٥٧) تمهيدا لتلك المحاولة، كما أن الأحداث التي وقعت في الأردن في أبريل سنة ١٩٥٧ كانت أيضا تمهيدا لتلك المحاولة ذاتها.

وبينما كانت دول المعسكر الغربي تحاول ربط العالم العربي بهذا المعسكر، وقع حادث خطير في تاريخ القومية العربية، وهو قيام وحدة كاملة شاملة بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة.

ففي أول فبراير سنة ١٩٥٨ اجتمع رئيسا الجمهورية السورية والجمهورية المصرية بالقاهرة واصدرا بيانًا أعلنا فيه الوحدة بين الجمهوريتين، وتم الاتفاق على إجراء استفتاء عام خلال ثلاثين يومًا عن الوحدة وعن شخصية رئيسها. وفي ٢١ فبراير تم الاستفتاء في كل من الجمهوريتين، وأسفر عن الموافقة على الوحدة، وعلى انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة وفي ٥ مارس سنة ١٩٥٨ صدر الدستور المؤقت لهذه الجمهورية، متضمنًا المقومات الأساسية للدولة العربية الجديدة، وبعد ذلك بثلاثة أيام (٨ مارس سنة ١٩٥٦ ) وبعد مفاوضات قصيرة، تم الاتفاق بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية المتوكلية على إقامة اتحاد آخر سمي (اتحاد الدول العربية) بمقتضاه يُلغى التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين, ويتبنيان سياسةً خارجيةً موحدة، ويكون لهما جيش اتحادي موحد، وسياسة اقتصادية واحدة (۱۱).

ولم تظهر تلك الحركة الوحدوية بين مصر وسوريا واليمن فقط، بل امتدت إلى الأردن والعراق، إذ أُقيمت وحدة ثنائية بينهما في ١٤ فبراير سنة ۱۹٥۸ وعُين ملك العراق رئيسا لهذا الاتحاد على أن تكون للاتحاد حكومة مركزية مسئولة أمام برلمان اتحادي يُنتخب من البرلمان العراقي والبرلمان الأردني. ففي اقل من بضعة أشهر، تحققت ثلاث وحدات عربية ترمى كلها إلى أن تكون خطوة نحو الوحدة وفي الخطب التي ألقاها جمال عبد الناصر خلال هذه الفترة تعبير عن الآمال التي خامرت الشعوب العربية. ففي إحدى خطبه بمدينة حلب في ١٩ مارس سنة ١٩٥٨ يقول: (هذه الموجات التي نراها ألان ونحس بها في جميع أرجاء الوطن العربي إنما هي بداية الفوز، وبداية النصر.. كلنا نشعر من صميم قلوبنا أن الجذر قد انتهى وبدأ المد، بدأ عهد النهضة العربية الحقيقية، وبدأ عهد الوحدة العربية الحقيقية) (۱۲)، وفي الخطبة التي ألقاها بتاريخ ٢٠ مارس سنة ١٩٥٨ بعد عودته من سوريا يقول تعبيراً عن الروح التي سادت الوطن العربي: (عُدت من سوريا.. عُدت من الإقليم السوري للجمهورية العربية المتحدة أحمل معي التفاؤل والأمل ۰۰۰ (۱۳).

وعندما قامت ثورة العراق في ١٤ يوليو سنة ١٩٥٨ علق جمال عبد الناصر على هذا الحدث التاريخي بقوله: (الحمد لله فإن الزحف المقدس الذي صممت عليه الأمة العربية يسير قدما إلى الأمام من نصرٍ إلى نصرِ) ٠٠٠ (١٤). 

ولكنَّ الاستعمار لم يطق صبرًا على تلك الحركة الوحدوية العربية فسرعان ما تحرك ليقف في وجه هذا الزحف المقدس، وليعوق تلك المسيرة، فنزلت قوات بحرية أمريكية في لبنان، كما نزلت قوات المظلات البريطانية في الأردن. 

وعلق الرئيس عبد الناصر على هذه التحديات في دمشق قائلًا: (في سنة ١٩٥٦ اعتدت إسرائيل على مصر، ووقف رئيس وزراء بريطانيا ليقول أن بريطانيا وفرنسا قررنا التدخل للفصل بين الجيوش المتحاربة، للفصل بين جيش إسرائيل وجيش مصر.. واليوم تتكرر المهزلة وتتكرر المأساة..، اليوم يقولون أن هناك تدخلًا من الجمهورية العربية المتحدة في لبنان، وإنهم لهذا يحتلون لبنان ليدافعوا عن لبنان. ويقولون أيضًا أن هناك تدخلًا من الجمهورية العربية المتحدة في عمان. وإنهم لهذا يحتلون عمان إن هذا هو الاستهتار .. إن هذا هو الاحتلال.. إن هذا هو الاستعمار) (١٥). 

والحق أن التدخل العسكري الجديد القائم على التحالف بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الأمريكي قد نجح في تعطيل حركة مسيرة الزحف المقدس، وفوت على دول المشرق العربي فرصة تحقيق الوحدة. وعندما انسحبت القوات الأجنبية من عمان وبيروت، كانت عجلة الزحف قد توقفت، وما لبث أن شب خلاف بين القاهرة وبغداد إثر الانشقاق الذي وقع بين صفوف القيادة الثورية العراقية، إذ اختلف عبد الكريم قاسم وعارف حول تفسير الارتباط بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق. وعندما اخفق الانقلاب العسكري في الموصل في مارس سنة ١٩٥٩، وهو الانقلاب الذي كان يهدف إلى تحقيق الوحدة، زاد الخلاف بين القاهرة وبغداد. وتوالت الأحداث وكان على رأسها وقوع الحركة الانفصالية في دمشق في سبتمبر سنة ١٩٦١، وانتهت الوحدة الثنائية, وقد رفض الرئيس جمال عبد الناصر أن يستخدم القوة العسكرية لإخماد الحركة الانفصالية, مع أنه كان قادرًا عليها وقت ذلك, معللًا موقفه هذا بقوله: (الوحدة إرادة شعبية، ولا يمكن للوحدة أن تكون عملية عسكرية). وفي ۱٥ أكتوبر سنة ١٩٦١ اعترفت ألقاهرة بالدولة السورية من جديد، وطلب عبد الناصر أن تقبل في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية، كما طلب من جامعة الدول العربية تشكيل لجنة لتقصي بعض الحقائق، وبذلك وضع مهمة الإشراف على الحركة الوحدوية على عائق الجامعة كما كان الحال في السنوات الأولى من قيام ثورة ١٩٥٢.

وفي بيان رسمي موجه إلى الأمة العربية أُذيع في ٥ أكتوبر سنة ١٩٦١ أكد الرئيس إيمانه بالوحدة العربية على الرغم من كل تلك الهزَّات التي تعرضت لها وقال: (وإني لأثق نفس ثقتي بالله أن هذه التجربة لن تكون الأخيرة، وإنما كانت التجربة عملية رائدة استفدنا منها الكثير في تقديرنا، وسيكون ما استفدناه ذخيرة للمستقبل العربي والوحدة العربية التي أشعر أن إيماني بها يزيد قوة وصلابة.. وإني لأثق في حتمية الوحدة بين شعوب الأمة العربية ثقتي بالحياة وثقتي بطلوع الفجر بعد الليل مهما طال..) (١٦).

والعودة إلى الجامعة العربية لتكون من جديد إطار العمل الوحدوي العربي ومركزًا لتسوية الخلافات التي تقع بين الدول العربية لم يكن يعني قط أن مصر تخلت عن عروبتها، أو أن جمال عبد الناصر قد يئس من العرب, ففي الخطاب الذي ألقاه في ٢٢ فبراير سنة ١٩٦٢ بمناسبة يوم الوحدة، أي بعد نحو خمسة أشهر من تاريخ انفصال سوريا عن مصر قال: (هناك أيها الإخوة من يتساءل لماذا نحتفل بيوم الوحدة فقد رأينا ما حدث لها في سوريا؟ سمعت هذا التساؤل, وسمعت من يقول: لنترك العرب في حالهم، ولنذهب نحن إلى حالنا.. علينا أن ندرك أن عروبتنا وعروبة مصر ليست مسألة ظروف متغيرة، وإنما عروبتنا حقيقة ثابتة.. كذلك علينا أن ندرك أن الوحدة ستظل هدفا.. إن وحدة الأمة العربية أيضا طبيعية كطبيعة وجودنا ذاته.. (۱۷).

وفي هذه الخطبة أشار إلى الإستراتيجية الجديدة التي يراها ضرورية لتحقيق الوحدة العربية المنشودة، مفرقا بين وحدة الهدف ووحدة الصف العربي فقال: (هناك من يتكلمون اليوم عن وحدة الصف لأي هدف، هل وحدة الصف العربي لخدمة الاستعمار وأهداف الاستعمار، أو وحدة الصف العربي لخدمة أهداف الأمة العربية وتحقيقها؟ وحدة الهدف هي أهم من وحدة الصف نحن نطالب بوحدة الهدف، ولكنَّا ننظر إلى الشعارات والنداءات التي تنادي بوحدة الصف بنوع من الشك، ونوع من الريبة لانَّ وحدة الصف مع الاختلاف في الهدف إنما تسوق الأمة العربية كلها إلى الخطر.. (۱۸). 
وقد شرح محمد حسنين هيكل أسلوب تطبيق هذه الاستراتيجية في مقال له بجريدة الأهرام في ۲۹ ديسمبر سنة ١٩٦٢, ففرق بين مصر الدولة ومصر الثورة، فقال أن مصر الدولة يجب أن تتعاون مع الحكومات العربية مهما كانت ميولها السياسية في إطار الجامعة العربية أو غيرها من المنظمات الدولية، أما الثورة فيجب أن تتخطى الحدود السياسية للأقطار العربية لتخاطب الشعوب مباشرة.
إلا أن محاولة تركيز العمل العربي المشترك داخل إطار جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية الفنية لم يثمر الثمرة المرجوة، وكان اجتماع مجلس الجامعة في شتورة على وشك أن يؤدى إلى تفجير الجامعة، بعد أن أعلنت مصر نيتها على الانسحاب منها على أثر المشادة التي دارت بين مندوبي مصر ومندوبي سوريا والانقلاب العسكري الجديد الذي وقع في العراق في فبراير سنة ١٩٦٣ والذي أدى إلى سقوط حكومة عبد الكريم قاسم، والانقلاب الذي وقع بعد هذا بشهر في سوريا في ٨ مارس سنة ١٩٦٣ كان كلاهما ممهدا لمحاولة جديدة في سبيل إقامة وحدة جزئية خارج نطاق الجامعة بين مصر وسوريا والعراق. وهنا تقع تجربة جديدة في تاريخ الحركة الوحدوية العربية، وهي المناقشات التي دارت في القاهرة في شهري مارس وأبريل سنة ١٩٦٢ بين وفود الدول الثلاث من أجل إقامة دولة اتحادية ثلاثية جديدة (۱۹). 

وصدر تصريح ١٧ أبريل سنة ١٩٦٣ معلنا مشروع الوحدة الجديدة (۲۰)، ولكن سرعان ما دبت الخلافات بين الدول الثلاث ووقف المشروع. 

والحق أن تلك الخلافات لم تكن مقصورة على هذه الدول، ولكنها امتدت إلى جميع الدول العربية، فهناك حرب اليمن التي كان من جرائها وقوع مجابهة خطيرة بين مصر والسعودية، ووقع صدام مسلح بين الجزائر والمغرب اشتركت فيه الجيوش النظامية من كلتا الدولتين في معارك دامية، وكان الخلاف على أشده بين تونس والمغرب بعد أن اعترفت تونس باستقلال موريتانيا التي كانت تعتبرها المغرب جزءا لا يتجزأ منها.

وأثناء ذلك صدرت مبادرة جديدة من الرئيس جمال عبد الناصر، هدأت من حدة الأوضاع المضطربة في الوطن العربي، ذلك بأنه دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي. وفي الخطبة التي ألقاها في ١۷ ديسمبر سنة ١٩٦٣ بمناسبة عيد العلم التاسع، اقترح على الدول العربية عقد مؤتمر قمة في إطار جامعة الدول العربية، وانعقد المؤتمر بالقاهرة فعلا في ١٣ يناير سنة ١٩٦٤، وحقق نجاحًا جديدًا للقومية العربية. وقد عقب جمال عبد الناصر على هذا المؤتمر في حديث له مع صحفي هندي بتاريخ ٦ فبراير سنة ١٩٦٤ بقوله: (لقد كان هذا المؤتمر.. أول مؤتمر عربي من نوعه وسيكون الأول في سلسلة من اجتماعات مماثلة، فقد قررنا العودة إلى الاجتماع في أغسطس من العام الحالي بمدينة الإسكندرية، كما اتفقنا على أن نجتمع مرة كل سنة في نطاق جامعة الدول العربية التي بعثت ألان في شكل يكاد أن يشبه شكل اتحاد كونفيدرالي.. تأتي بعد ذلك المكاسب الملموسة التي حققها المؤتمر وأولها أننا قررنا تنفيذ خطة تحويل مضادة لاستخدام مياه منابع نهر الأردن لصالح الدول العربية التي تقع هذه المياه في أراضيها، وتملك حق الاستفادة منها، وقد نظمت المشروعات، واعدت الأموال اللازمة لهذا الهدف ) (۲۱).

وفي هذا الحديث يشير الرئيس إلى إستراتيجية جديدة لتحقيق الوحدة، فبعد وحدة الصف ووحدة الهدف، اقترح أسلوب وحدة العمل، ويقول في

ذلك: (إن كل شيء يتوقف على وحدة العرب، ولست اقصد الوحدة الدستورية ولكني أقصد وحدة العمل التي قد تكون مقدمة إلى وحدة الهدف أقصد التضامن القومي العميق، الواسع النطاق الذي يكفي لمواجهة العدو، ومحاربته في آنٍ واحد. ولقد كان أول واجب لنا إزاء هذا الهدف هو وقف خلافاتنا الداخلية، وتصفية منازعاتنا، واستئناف علاقاتنا الودية، وكانت هذه المهمة بين ما تحقق من نتائج المؤتمر) (۲۲). 

وانعقد مؤتمر القمة بعد ذلك عدة مرات، وأنشأ هيئات دائمة مختلفة في إطار جامعة الدول العربية، منها: مجلس ملوك ورؤساء الدول، ولجنة المتابعة المكونة من الممثلين الشخصيين للملوك والرؤساء، وهيئة إدارة استغلال مياه نهر الأردن، والقيادة العربية الموحدة. ولم يكتف جمال عبد الناصر بتلك الهيئات الجديدة لتنشيط العمل العربي المشترك، بل لجأ في الوقت نفسه إلى أسلوب المعاهدات والارتباطات الثنائية، فوقع اتفاقية دفاع مشترك مع سوريا في ٤ نوفمبر سنة ١٩٦٦ واتفاقية عسكرية مع الأردن بتاريخ ٣٠ مايو سنة ١٩٦٧، وانضم العراق إلى هذه الاتفاقية في ٤ يونيه سنة ١٩٦٧.

وفي صباح الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧ وقع العدوان الصهيوني، والذي يهمنا من النكسة العسكرية التي مني بها الوطن العربي على اثر هذا العدوان، هو إثبات أمرين: الأمر الأول، مدى التضامن بين البلاد العربية من الخليج إلى المحيط تضامنا يجعلها وقت الشدائد تنسى ما قد يكون بينها من أحقاد، ومدى الترابط بين دول المغرب العربي ودول المشرق العربي على الرغم مما زعمه أعداء العرب من أن دول المغرب العربي لا تحقد على إسرائيل. 

والأمر الثاني، مدى السلطان الروحي للزعيم جمال عبد الناصر في الوطن العربي الذي خرج كله في شتى أرجاء البلاد العربية يومي ۹ و ۱۰ يونيو سنة ١٩٦٧ يطالب جمال عبد الناصر بأن يستمر في قيادته بعد أن كان قد أعلن عزمه على التخلي عن الحكم. وما ذلك إلا لأن الرأي العام العربي قد أدرك عن وعي أن الهزيمة ليست هزيمة مصر ولكنها هزيمة الوطن العربي، وأن ما حققته إسرائيل ليس من عمل يديها، ولكنه من عمل الاستعمار. 

وبعد هذا تبدأ معركة جديدة قادها جمال عبد الناصر من أجل العروبة عامة وعروبة مصر بخاصة، إذ أنَّه طالما صرح بأنَّه يستطيع أن يسترد سيناء ويزيل آثار العدوان على الجبهة المصرية في وقت قصير لو تخلى عن الجبهة الشرقية، وترك عبء الدفاع عنها على عاتق من وقع عليهم العدوان هناك، ولكنه أبَى حفاظًا على العروبة بمعناها الشامل وكافح في السنوات الثلاث التي تلت هزيمة يونيو سنة ١٩٦٧ من اجل عروبة مصر ومن أجل العروبة بوجهٍ عام، وكان كفاحه على ثلاثة مستويات: 

كافح على الصعيد العسكري، فعمل على إعادة بناء القوات المسلحة من جديد. وحقق في ذلك نجاحا مرموقًا حتى استطاع في ٢٣ يوليو سنة ١٩٦٩ أن يعلن أمام المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي بداية مرحلة جديدة في المجابهة العربية الإسرائيلية، هي التي أطلق عليها اسم الاستنزاف، وتصاعد بالمعركة العسكرية حتى وصلت، كما قال جمال عبد الناصر إلى حربٍ من نوعٍ جديد في التاريخ، حرب الإلكترونيات في النهار، وحرب الأشعة تحت الحمراء في الليل (۲۳). 

وكافح على الصعيد الدبلوماسي العربي بُغية توحيد الصفوف، وتسوية الخلافات بين الأقطار العربية، فانعقد مؤتمر الخرطوم في أغسطس سنة ١٩٦٧ ونجح في تسوية بعض الخلافات العربية، وقرر الدعم الاقتصادي لكل من مصر والأردن إلى حين إزالة آثار العدوان، واجتمع مجلس وزراء خارجية الدول العربية في أغسطس سنة ١٩٦٩، واجتمع أيضا مؤتمر القمة العربي في الرباط فيما بين ٢٠-٢٣ ديسمبر سنة ١٩٦٩، ثم اجتماعات دول المجابهة التي عُقدت في سبتمبر ١٩٦٩ وفي فبراير، يونيو، أغسطس ۱۹۷۰. ولم يقتصر التحرك الدبلوماسي الناصري على محاولة جمع شمل الصفوف العربية، بل جاهد في سبيل تصفية المنازعات التي وقعت بين المنظمات الفلسطينية وبعض الدول العربية مثل الخلاف بينها وبين حكومة بيروت (أكتوبر ١٩٦٩) وبينها وبين حكومة عمان (سبتمبر سنة ١٩٧٠). 
وكافح كذلك على الصعيد الدبلوماسي الدولي في أروقة الأمم المتحدة، حيث نجحت الدبلوماسية العربية في إحراز القرار ٢٤٢ الصادر من مجلس الأمن في نوفمبر سنة ١٩٦٧ والذي أصبح محور تحركنا الدبلوماسي، ولم يقف الأمر عند حد العمل داخل أروقة الأمم المتحدة، بل امتد إلى الصعيد الإسلامي، فانعقد مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط في سبتمبر سنة ١٩٦٩ وعلى المستوى البرلماني الدولي، فعقد مؤتمر بالقاهرة في فبراير سنة ١٩٧٠. وعلى المستوى الإفريقي تجلى التحرك الدبلوماسي العربي في مؤتمرات القمة الإفريقية التي انعقدت في كينشاسا (سبتمبر سنة ١٩٦٧) وفي الجزائر (سبتمبر سنة ١٩٦٨) وفي أديس أبابا (سبتمبر سنة ١٩٦٩ و سنة ١٩٧٠). وامتد هذا التحرك إلى المجموعة الحيادية، فبدت أثاره في المؤتمر التحضيري لدول عدم الانحياز الذي انعقد بدار السلام في أبريل سنة ۱۹۷۰، وفي مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز الذي انعقد في لوساكا في سبتمبر سنة ١٩٧٠.

وفي جميع هذه المؤتمرات وتلك الاجتماعات الدولية، جاهدت الدبلوماسية المصرية في نشر مزيد من الأضواء الكاشفة لحقائق القضية العربية، وفي الحصول على مزيد من التأييد الذي يمكنُّها من محو الصورة المضللة التي غرسها الاستعمار في أذهان الدول وهي الصورة التي أراد بها الاستعمار أن يلقى في روع العالم أن الوطن العربي هو المعتدى، وان إسرائيل ليست إلا دولة صغيرة معتدى عليها.. وحققت الدبلوماسية العربية في ذلك نجاحا فاق تقدير كل ما كان يرجو أكثر الناس تفاؤلًا، وتحول الرأي العام العالمي إلى جانب العرب بعد أن كان منحازًا بفعل الاستعمار إلى جانب إسرائيل

وفي نهاية هذه السنوات الثلاث من تلك المعركة القاسية المريرة التي قادها جمال عبد الناصر على المستوى العسكري، والمستوى العربي، والمستوى الدولي، فاجأ العالم بتحرك دبلوماسي جديد جريء لم يكن يتوقعه العدو ولا حلفاء هذا العدو، وذلك بالموافقة على الاقتراح الذي قدمه وليم روجرز وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ومضمونه وقف إطلاق النار لمدة - ثلاثة أشهر والعودة إلى اتصال أطراف النزاع بالسفير يارنج.. ، ولم تنته مدة الثلاثة الشهور حتى كانت المنية قد اختطفت هذا الزعيم العظيم, في الوقت الذي كان يعمل فيه على تسوية النزاع المسلح الذي وقع بين حكومة عمان والمقاومة الفلسطينية.

وأخيرا لم يكن هدفنا من تلك الدراسة السريعة استقصاء جميع الأحداث والمواقف التي تجلو دبلوماسية جمال عبد الناصر من أجل عروبة مصر، بقدر ما كان هدفنا إبراز ملامح من فلسفته من وراء كفاحه في سبيل عروبة مصر، وفي سبيل القومية العربية.
وللحديث بقية

المصدر/ مجلة السياسة الدولية - يناير ١٩٧١  

- أيضاً مُرفق الدراسة بصيغة الملف 

الملفات