صلاح جاهين فيلسوف البسطاء وصاحب الرباعيات

"على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.. بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب.. وبحبها وهي مرمية جريحة حرب.. بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء.. وأسيبها وأطفش (أهرب) في درب وتبقى هي في درب… وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب".
ولد محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمي، في شارع جميل باشا بمنطقة شبرا في وسط القاهرة، ونشأ الفتى الموهوب في ظل عائلة أرستقراطية، كان والده المستشار بهجت حلمي يعمل في السلك القضائي، بدأ حياته العملية كوكيل للنائب العام، حتى وصل به المطاف في القضاء رئيسا لمحكمة استئناف المنصورة، تنقل صلاح جاهين في الأقاليم تبعًا لتنقلات عمل والده كوكيل للنيابة، وهو ما شكل جزءا كبيرا من معرفة جاهين لاحقا بنمط حياة المصريين عن قرب من مختلف المحافظات التي كان ينتقل إليها والده، فاستطاعت أن تشكل وقتها جزءا من وجدانه، والتعمق في الهوية المصرية بكل تفاصيلها، وهو ما ظهر فيما بعد من خلال أعماله الشعرية.
وهو أيضا وهو حفيد الصحفي الثوري أحمد حلمي محرر جريدة اللواء وعضو الحزب الوطني ومؤلف كتاب "السجون المصرية في ظل الاحتلال الإنجليزي" الذي كتبه عن تجربة سجنه مكافأة على جهاده الوطني.
انحصرت اهتمامات صلاح في طفولته المبكرة في اتجاهين، الأول: الألعاب اليدوية الدقيقة، والثاني: القراءة، وأول ما كان يبحث عنه كلما انتقل مع والده هو المكتبة العامة، كما كان حريصًا على سماع أغاني الفلاحين، ويحفظ إيقاعاتهم وينظم بعض الكلام الإيقاعي.
أول قصيدة حقيقية كتبها كانت وهو في السادسة عشرة من عمره يرثي فيها الشهداء الذين سقطوا في مظاهرات الطلبة بالمنصورة عام ١٩٤٦م، قال فيها:
كفكفت دمعي ولم يبق سوى الجَلََد
ليت المراثي تعيد المجـد للبلد
صبراً ... فإنا أسود عند غضبتنا
من ذا يطيـق بقـاء في فم الأسد.
ورغم الظهور المبكر لموهبة الشعر، إلا أن موهبة الرسم قد تأخرت في الظهور حتى سن الرابعة عشر تقريبًا، ويرجع الفضل في تفجير موهبة صلاح جاهين في فن الرسم إلى مدرس الرسم في هذه الفترة من حياته –الأستاذ الأرناؤوطي- الذي بوعيه وتفهمه منح للأطفال الحرية في التعبير عن بعض القصص الخيالية وقصص من الأدب العالمي -مثل الكوميديا الإلهية- التي كان يقرأها عليهم لكسر قيود التقليدية، وهنا وجد الطفل صلاح جاهين متنفسًا لقدراته الفنية الحرة في الخروج والتعبير، فتفوق في الرسم وشارك في مسابقة دولية لرسم الأطفال وفاز بالمرتبة الأولى، ومازالت الصورة الفائزة موجودة في لندن.
التحق جاهين بكلية الحقوق بناءً على رغبة والده، ودرس في ذات الوقت في كلية الفنون الجميلة دون علم والده لفترة قصيرة، لم يكمل صلاح جاهين دراسته في كلية الفنون الجميلة، لكن ذلك لم يمنعه من تحقيق حلمه في عالم الكتابة، فبدأ حياته العملية بالفعل في جريدة "بنت النيل"، ورغم أن بداية كتابته للشعر كانت بالفصحى، لكنه تمرد على الكتابة بهذه الطريقة وظل يبحث عن شكل جديد للشعر، بعيدًا عن التقليد والقيود، واختار العامية المصرية، التي كانت لا تمنح أحدًا أكثر من لقب "زجال"، وكان هذا اللقب يحمل مهانة شعرية، لكنه صنع من العامية مع فؤاد حداد، مدرسة أدبية أنجبت وأثرت، وكان صلاح جاهين يعترف دائمًا بفضل فؤاد عليه الذي سبقه حين كتب:
في سجن مبني من حجر.
في سجن مبني من قلوب السجانين.
قضبان بتمنع عنك النور والشجر.
زي العبيد مترصصين.
بدأ صلاح جاهين يكتب الشعر الكلاسيكي في أواخر الأربعينيات، قبل أن يبلغ العشرين من عمره. لكنه قرأ يومًا قصيدة بالعامية المصرية لشاعر لم يكن قد سمع به آنذاك، فقرر التعرف إليه فكان له ذلك، ولم يكن ذلك الشاعر سوى فؤاد حداد، الذي أثر فيه تأثيرًا كبيرًا وجمعته به صداقة عميقة استمرت فيما بعد حين تزوجت ابنة صلاح جاهين السيدة أمينة من ابن فؤاد حداد الشاعر أمين فؤاد حداد.
ويقول جاهين بهذا الشأن: «العامية يجب أن تنتقل من الحديث اليومي إلى الأغراض الأدبية والفنية، خاصة الأغنية التي تتناول قضايا أرق من القضايا التي يتناولها الشعر والمسرح أدبها الخاص، وكذلك الفصحى، وإن كانت الفصحى هي أم الفنون المكتوبة بلا شك، ولكن هذا لا يعنى أنى أتعصب لأحدهما. فلكل منهما دوره ومكانته ووظيفته. ولكنى مؤمن بأن العامية الراقية تستطيع أن تسد الفجوة بين لغة الحديث اليومي واللغة الخاصة في الكتابة، وهي أحيانا أقدر على التعبير عن بعض القضايا التي تهم الجماهير وإن كان الإنتاج العامي محكوما عليه بالزوال بعد جيل أو جيلين أما التراث الخالد فهو التراث المكتوب بالفصحى، فالعامية متغيرة، بينما الفصحى ثابتة وباقية».
وفي عام ١٩٥٥م، فتحت مؤسسة "روزاليوسف" أبوابها أمام عدد من الرسامين الشباب في محاولة لملء الفراغ الذي تركه رحيل عبد السميع عن أخبار اليوم، فالتحق صلاح جاهين كسكرتير تحرير إلى أن اكتشفه أحمد بهاء الدين –الرجل الثاني بالمجلة وقتها– فأفرد له صفحة كاملة أسبوعيًا ومن ثم التقى صلاح جاهين مع جورج البهجوري، ولم يكن أي منهما قد أتم الخامسة والعشرين بعد، وكان حسن فؤاد يعمل أيضًا في روزاليوسف، ويكتب في صحيفة الفن والحياة ويرسم رسومًا قليلة، لذلك تأثر صلاح جاهين بتلك المدرستين، وكذلك تأثر برسوم الفنان الكبير صاروخان، وعبد السميع، بالكاريكاتير الغربي.
سـاهم برسومـاته في مجلة "صباح الخـير" منـذ بدايتـها يعد من أشهر رسامي الكاريكاتير في مصر، وبرزت رسوماته الكاريكاتيرية عندما انضم لأسرة جريدة الأهرام عام ١٩٦٢م.
وخلال الفترة التي فصلت بين أواسط الخمسينات وبين ٥ يونية ١٩٦٧م، غنى صلاح جاهين للحب والشباب والأطفال، كما غنى للثورة المصرية ولزعيمها جمال عبد الناصر. ولكنه بعد النكسة التي حدثت في ذلك اليوم أصيب بحالة من الكآبة لم يشف منها حتى رحيله، فتوقف عن كتابة الأغاني والأناشيد الوطنية، واتجه إلى الكتابة في اتجاهين، الشعر التأملي العميق كما في الرباعيات الأشهر بالعامية التي كتبها قبل النكسة وكتب خمس منها بعد النكسة، والأغاني الخفيفة، التي ربما كان أشهرها تلك الأغاني التي غنتها الممثلة سعاد حسني في فيلم خللي بالك من زوزو، مثل الأغنية التي حملت عنوان الفيلم، ويا واد يا تقيل وغيرها.
لقد كانت رسوم صلاح جاهين الكاريكاتورية مؤثرة للغاية، لدرجة أنها تسببت أكثر من مرة في أزمات سياسية عديدة، كان صلاح جاهين على شفا دخول المعتقل، فقد وضع اسمه على رأس قائمة المعتقلين أكثر من مرة نظرًا لما يعرف عنه من ميول يسارية ونقدًا للنظام ولولا تدخل الرئيس جمال عبد الناصر شخصيًا لحذف اسمه خمس مرات من هذه القائمة، ويقول جاهين: «الكاريكاتير له أكثر من وظيفة إلى جانب الإضحاك، مثل النقد والتوجيه، وربما اقتصرت وظيفته على التنوير. والكاريكاتير سلاح ذو حد واحد فهو يتناول الأمور من وجهة نظر واحدة وهذا ما يجعله عاجزا عن تناول القضية من أكثر من جانب، لدرجة أنى كنت أضطر في بعض المعارك الكاريكاتيرية التي خضتها إلى كتابة مقالة صغيرة أشرح فيها وجهة نظري التي ربما عجز الكاريكاتير عن تقديمها.» كانت هذه رؤية جاهين حول الكاريكاتير، والذي اعترف في سياق الحوار ذاته بأنه والصحافة قد أخذاه من إحدى روافد هويته كرسام، فلم يمهلاه فرصة، مثلا، لإقامة معرض يجمع لوحاته.
أصدر صلاح جاهين العديد من الدواوين منها:
- كلمة سلام عام ١٩٥٥.
- موال عشان القنال عام ١٩٥٦.
- عن القمر والطين عام ١٩٦١.
- رباعيات عام ١٩٦٣ التي لحنها الفنان الراحل سيد مكاوي، وغناها المطرب علي الحجار.
- قصاقيص ورق عام ١٩٦٥.
- أنغام سبتمبرية: ديوانه الأخير عام ١٩٨٤.
وبعد وفاة صلاح جاهين أعيد إصدار هذه الدواوين في مجموعات شعرية مصنفة نوعيًا إلى:
- أزجال صحفية.
- أشعار العامية المصرية.
وكذلك كلمات الكثير من الأغاني مثل: والله راجعين بقوة السلاح التي لحنها كمال الطويل وغنتها المطربة أم كلثوم.
الأغنية الشهيرة لسيد مكاوي ليلة امبارح ما جانيش نوم.
اشتهر بأغانيه الوطنية، وخاصـة إحنا الشعب، والله زمان يا سلاحي، وبالأحضان. وله أيضًا عدة دواوين شعر عامي ومسرحيات أطفال، كان أروعها بالتأكيد ما لحنه سيد مكاوي على شكل أوبريت الليلة الكبيرة وهو من أشـهر الأوبريتات الـتي نالت نجاحًا كبيرًا وما زالت باقية حـتى الآن.
وأبدع جاهين في مجال المسرحيات فكتب سيناريو وأغاني مسرحيات:
- الليلة الكبيرة.
- الشاطر حسن.
- حمار شهاب الدين.
- صحصح لما ينجح.
- قاهر الأباليس مع العروسة والعريس.
- الفيل النونو الغلباوي.
- القاهرة في ألف عام.
كذلك قدم أغاني وأشعار مسرحيات:
- إيزيس.
- الحرافيش.
كما قام صلاح جاهين بترجمة بعض المسرحيات العالمية مثل:
- الإنسان الطيب.
وترجـم الشـعر الألماني إلى الشعر المصري في مسـرحية "دائرة الطباشير القـوقازية"، وكتب مسرحية غنائية هي "ليلى يا ليلى" التي قدمت بعد وفاته تحت اسم انقلاب بطولة نيللي وإيمان البحر درويش.
وكتب العديد من السيناريوهات للسينما والتليفزيون منها:
- فيلم "خلى بالك من زوزو".
- فيلم "أميرة حبي أنا".
- فيل "عودة الابن الضال".
- فيلم "شفيقة ومتولي".
- مسلسل "هو وهي".
وبحسب صحيفة الأهرام التي ترصد آراء جاهين عن الأغنية في أحوالها، توجب العودة إلى حواره مع فتحي العشري وسلوى العنان، وفيه قال: «الأغنية نتاج طبيعي للمجتمع مثل كل مظاهر التعبير وهى تتغير بتغير شكل المجتمع وطبقاته، التي تفرض ذوقها أحيانا على كتاب الأغنية، ونحن الان في عصر الكاسيت (تذكرة بأن الحوار تم عام ١٩٨١م) بعد أن اجتزنا عصر الترانزستور الذى كان فيه كل شخص يسمع الإذاعة التي يريدها، فأصبح الإنسان يصنع لنفسه الإذاعة التي يريدها وهو يستخدم أشرطة الكاسيت المتنوعة، فالذوق العام هو الذى يفرض على الأغنية شكلها وليس العكس».
وعن الأدب وعلاقته بالقيم المتوافق عليها مجتمعيا، ثم عن سبل بلوغ المنتج المحلى منه حد العالمية، يقول جاهين: «إننا غير متفقين على القيم، فكيف نمارسها وكيف نغرسها في المجتمع بدءا من الطفل؟ هناك قيم ترددت في الفن مثل (الحب مش عيب) و(البنت لا تتزوج بمن لا تحبه) و(الفقر ليس عيبا) وأن (من يعمل إنسان محترم). هذه القيم لم يصدر بها مرسوم. كما أن القيم قابلة للتغيير خاصة مثلما حدث في مجتمعنا الذي تحول من مجتمع زراعي فحسب، إلى مجتمع زراعي وصناعي أيضا... نريد أدبا وفنا يدعوان لتربية الذوق. فالمجتمع إذا احتاج في مرحلة إلى تعبير الفن عنه، ينبغي أن يعبر الفن بغير تحفظ، وعندنا الفن لا يعبر تماما ولا يعبر عن كل شيء...»
وعن الأدب وبلوغه آفاقا أكثر رحابة، قال: «أدب نجيب محفوظ وأدب يوسف إدريس يرتفعان بكل مقاييس إلى مستوى جائزة نوبل وغيرها من الجوائز العالمية. لأنهما عبرا عن واقع بلدهما بكل صدق وعمق وبالمقاييس الفنية الحديثة. وهو أدب منتشر عالميا، لأنه ترجم إلى لغات عديدة حتى أصبح القارئ الأجنبي يبحث عن الأدب العربي ويستمتع به، لقد تخطى أدبنا مرحلة الوصول إلى العالمية منذ فترة طويلة».
كانت هذه بعض آراء صلاح جاهين في الكاريكاتير والشعر، والعامية، والأدب، والقيم.. كانت هذه بعض أحلامه التي اعترف أنها ليست كلها «بامبى بامبى».
توفي صلاح جاهين في الحادي والعشرين من إبريل العام ١٩٨٦م، قام التلفزيون المصري الرسمي بعرض مسلسل يتحدث عن رباعيات صلاح جاهين في العام ٢٠٠٥م، بمناسبة مرور ٢٠ عامًا على وفاته، واختارته وزارة الثقافة المصرية شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته رقم ٥٤ لعام ٢٠٢٣م.
المصادر
موقع مكتبة الإسكندرية.
جريدة الأهرام المصرية.