عــبد النــاصر والكيميتيــون الجــدد
بقلم: عمرو صابح
يُروِّج بعض دعاة ما يُعرف بالقومية المصرية أو "الكيميتيين الجدد" لفكرة مغلوطة مؤداها أن الرئيس جمال عبد الناصر كان معاديًا للمصريين القدماء، وأنه اختار القومية العربية بديلاً عن القومية المصرية. ولو أن هؤلاء قرأوا كتاب «فلسفة الثورة» لعبد الناصر، لأدركوا أنه كان يرى لمصر ثلاثة أدوار مترابطة: أن تقود العالم العربي، وأن تكون فاعلة في إفريقيا، ومؤثرة في العالم الإسلامي. فعبد الناصر لم يكن يومًا غافلاً عن مصر أو متهاونًا في شأنها، بل كانت كل معاركه من أجلها أولاً وأخيرًا.
أما عن رؤيته للحضارة المصرية القديمة ومكانتها، فيمكن رصد عدة شواهد قاطعة تؤكد اعتزازه بها وحرصه على صونها:
في مارس 1955 أصدر عبد الناصر أمرًا بنقل تمثال الملك رمسيس الثاني من ميت رهينة إلى ميدان باب الحديد، حيث نُصِب التمثال هناك، وتحول اسم الميدان لاحقًا إلى ميدان رمسيس.
كما قرر تغيير اسم شارع الملكة نازلي إلى شارع رمسيس، في دلالة رمزية على الارتباط بالحضارة المصرية.
وفي العام نفسه، زار القاهرة المخرج الأمريكي سيسيل ديميل للحصول على تصاريح تصوير فيلمه الشهير «الوصايا العشر»، الذي يتناول قصة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها. التقى ديميل الرئيس عبد الناصر، وطلب منه التعاون لتصوير الفيلم، وقد وافق عبد الناصر وأمر بتقديم كل التسهيلات اللازمة، وشارك المخرج المصري حسام الدين مصطفى كمساعد له. تم تصوير الفيلم عام 1956، وبُثّت كلمة للرئيس عبد الناصر سجّلها ديميل خلال زيارته لمصر.
إلا أن عبد الناصر عندما شاهد الفيلم لاحقًا، غضب من مشهد غرق الجيش المصري بقيادة الملك رمسيس الثاني في البحر أثناء مطاردة العبيد الهاربين، فاعتبره إهانة لتاريخ مصر وتشويهًا لرموزها الوطنية، وأصدر قرارًا بمنع عرض الفيلم داخل البلاد. كما قرر أن تخضع جميع الأفلام الأجنبية التي تُصوّر في مصر لرقابة مسبقة. وحين احتجّ ديميل بأن الفيلم يستند إلى النصوص المقدسة، جاء الرد المصري بأن القرآن الكريم لم يذكر اسم رمسيس الثاني مطلقًا، بل أشار إلى "فرعون" دون تحديد، وأن لا دليل أثري أو علمي يثبت وجود اليهود في عهد رمسيس الثاني.
كان عبد الناصر هو من كلف ثروت عكاشة، وزير الثقافة، بقيادة حملة إنقاذ آثار النوبة ومعابد أبو سمبل وفيلة، في ملحمة دولية كبرى برعاية اليونسكو، تعدّ من أعظم عمليات الحفاظ على التراث الإنساني في القرن العشرين.
كما أنصف العالم الأثري الجليل الدكتور سليم حسن، مؤلف موسوعة «مصر القديمة»، الذي كان الملك فاروق قد اضطهده وأجبره على التقاعد عام 1939.
كان الدكتور سليم حسن أول مصري يشغل منصب وكيل مصلحة الآثار عام 1936. وأثناء مراجعته لجرد المصلحة اكتشف أن الملك فؤاد استولى على مجموعة أثرية واحتفظ بها في قصره، فطالب بإعادتها ونجح في ذلك. وبعد وفاة فؤاد وتولي فاروق، طالب الأخير باستردادها باعتبارها من "ممتلكاته الموروثة"، لكن سليم حسن رفض بشجاعة وأكد أنها ملك لمصر. أدى هذا الموقف الوطني إلى غضب فاروق، فأمر بإحالته إلى التقاعد.
تفرغ بعدها العالم الكبير لتأليف موسوعته المكونة من ستة عشر جزءًا عن تاريخ مصر القديمة، وهي أعظم مرجع شامل للحضارة المصرية حتى اليوم، إلى جانب كتابه عن الأدب المصري القديم.
بعد ثورة 23 يوليو 1952، قدّر جمال عبد الناصر مكانة هذا العالم الكبير، فأصدر قرارًا بإيفاده في جولة لزيارة المتاحف العالمية التي تعرض الآثار المصرية، كما عينه مستشارًا للمتحف المصري عام 1959. وفي عام 1960، كرمته أكاديمية نيويورك للعلوم التي تضم أكثر من 1500 عالم من 57 دولة، واختارته بالإجماع عضوًا بها.
وفي عهد عبد الناصر أيضًا، تم إنشاء أول كلية للآثار في مصر، وهي كلية الآثار بجامعة القاهرة، وذلك بقرار من مجلس الجامعة للدراسات العليا وبالقرار الجمهوري رقم 1803 لسنة 1970.
أما المفكر الجغرافي العظيم الدكتور جمال حمدان فقد لخّص جوهر رؤية عبد الناصر لمصر في مذكراته المنشورة في كتاب «العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة» بقوله:
> "جمال عبد الناصر هو أول حاكم وزعيم مصري يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية ويضع يده على الصيغة المثلى لسياستها الخارجية.
لم يخترع تلك الصيغة، لكنه أول من فهمها وطبقها بوعي. في كتابه فلسفة الثورة رسم خريطة جيوبوليتيكية لمصر بتحديده دوائرها الثلاث: العربية ثم الأفريقية ثم الإسلامية، حيث يبدأ التأثير من الأقرب فالأبعد.
عبد الناصر هو محرر مسودة مصر المستقبل، وتجربته هي بداية مصر العظمى التي نريدها.
الناصرية هي الانتماء العلمي لمصر، وهي حاصل جمع التاريخ والجغرافيا، وهي قاعدة انطلاق مصر للمستقبل، وقانونها السياسي الحتمي.
الناصرية هي المصرية كما يجب أن تكون.
أنت مصري إذن أنت ناصري، ولو كرهت.
يمكن أن ترفض عبد الناصر كشخص، لكنك لا تستطيع أن ترفض الناصرية دون أن ترفض مصريتك.
الناصرية ليست لغزًا أو نظرية معقدة، بل هي ببساطة: مصر القوية، العزيزة، الغنية، المستقلة داخليًا وخارجيًا.
هي رؤية كل مصري وطني يطمح لأن يرى بلده قوة عظمى دولية."
لم يكن جمال عبد الناصر، إذن، معاديًا لقدماء المصريين أو لفكرة القومية المصرية كما يتوهم دعاة "الكيميتيين الجدد"، بل كان مدركًا لقيمة مصر ولدورها القيادي الإقليمي والدولي وفق متطلبات عصره، لا وفق أوهام "بعث حضارة مندثرة".
- الصورة المرفقة تُظهر الرئيس جمال عبد الناصر أثناء زيارته لمعبد أبو سمبل عام 1961، قبل بدء عملية تفكيكه ونقله لإنقاذه من الغرق عقب بناء السد العالي.
المصادر:
مذكراتي في الثقافة والسياسة، الجزء الثاني – د. ثروت عكاشة.
العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة.
ذكرياتي بين عهدين – صلاح الشاهد.
مقدمة الجزء الأول من موسوعة مصر القديمة – د. سليم حسن.