لم يسعدنى الحظ بقضاء فصل الشتاء بمصر منذ سنوات نتيجة لاقامتى على الجبال الفرنسية المثلجة شتاءا، لارتباطى ببعض الأعمال هناك. ومع تواجدى بمصر خلال شتاء هذا العام، لاحظت مستغربا تذمر العديد من المصريين من شدة برودة الطقس، حتى أن صديقى "أسامة" الذى جاء من كندا خصيصا للابتعاد عن صقيع المناخ الشمالى قرر ألا يقضى مرة أخرى الشتاء بمصر.
بإعادة فتح الملفات الهندسية، تذكرت أصل المشكلة المتسببة في هذا التناقض بين شكوى المصريين من البرد وهروب الأوروبيين إلى دفء بلادنا في
فصل الشتاء، حتى أننا نراهم يسيرون في الشوارع والمتنزهات بملابس صيفية، في حين نرى المصرى أفندى "متكلفت" في البلاطى والبطاطين.
المشكلة نابعة ببساطة من أسلوب البناء الحديث لبيوتنا السكنية. فقد غاب تماما معيار العزل الحرارى من الأبنية كما كان يحدث في الماضى. فوجود العزل الحرارى يؤدى إلى منع الحر الشديد صيفا والبرد القارص في ليالى الشتاء. بالتالى، فقد تغيرت الأنماط والقواعد البنائية واللوائح المنظمة لها لحساب الربح السريع في الانشاءات الحديثة، اكتفاءاً بوضع أجهزة التكييف صيفا رغم ما تستهلكه من كهرباء وتسببه من أمراض، ووضع الدفايات الكهربائية في بعض الغرف شتاءاً والمسببة لنفس نوعية الأمراض والأضرار.
لقد قمت في السنوات الأخيرة بتصميم وتنفيذ بعض الفيلات السكنية في فرنسا، ورغم قسوة اللوائح المنظمة للتشييد والبناء فيما يخص عزل البيوت، إلا أننى واجهت مجموعة من القواعد الجديدة التي فرضت على المصممين منذ ٢٠١٣ تحت اسم قانون (RT12) المتشدد في وضع نظم العزل، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
• يتم عزل جميع الحوائط الخارجية المعرضة للبرد بخامات (تم توصيفها)، بحيث لا يقل السمك النهائي عن ٤٠ سنتيمتر.
• يتم عزل كل الأسقف والفراغات بين الأسقف المائلة الخارجية والأسقف المعلقة الداخلية بضخ خام البولييستر بالهواء المضغوط لملء كامل الفراغ.
• يتم عزل الفتحات الخارجية ومحيطها، باستخدام الزجاج المزدوج للنوافذ والعوازل المطاطية لمحيطها ومحيط الأبواب.
• يتم عزل كل أنواع المواسير، سواء الناقلة للمياه أو أسلاك الكهرباء بالصوف الزجاجى عزلا مانعا لتسرب أي هواء داخلى.
• يتم عمل اختبارات تحت اشراف جهة هندسية معتمدة لقياس درجة العزل الحرارى بحيث تصبح صفر ٪... ومن ضمن تلك الاختبارات:
اضاءة شموع خلف الأبواب والشبابيك وتشغيل مراوح هوائية ضخمة من الخارج لمعرفة إن كان هناك أي تسرب للهواء، وكذلك استعمال الشموع أمام المخارج الكهربائية (فتحات الأكباس) للتأكد من عدم اهتزازها من التسرب الهوائى، وبالطبع نفس الاختبار أمام بالوعات دورات المياه والأحواض.
وقد لاحظنا ارتفاع تكلفة البناء بنحو ٢٠٪ نتيجة لكل إجراءات العزل الحرارى، إلا أن انخفاض استهلاك الكهرباء منذ السنة الأولى قد سدد ثمن الفرق في التكلفة الانشائية.
في النهاية، أعتقد أنه يجب العودة إلى استخدام المواد العازلة في البيوت المصرية، تفاديا لأضرار مادية وصحية، ودون التزمت في تطبيق نظم مثل القواعد الفرنسية، فيمكننا بالتالى تحسين مستوى المعيشة داخل بيوتنا في مصر، حيث لا تنخفض درجات الحرارة كما على الجبال الفرنسية إلى ٢٥ تحت الصفر.
أما إن كنا من البلاد الثرية ولا يهمنا تكلفة استهلاك الكهرباء والطاقة سواء للتبريد أو التسخين، وأننا من البلاد المحبة للاضاءة الساطعة ليلا ونهارا، حتى أننا نزيد منها باللافتات الاعلانية بلا حساب على كل الطرق، فأهلا بالأمراض وفواتير الطاقة، وأهلا بالسفه.