القوة الإقليمية الجديدة... لشرقي أفريقيا

من كتابات المفكر الراحل الأستاذ / حلمى شعراوى
إبريل العام ٢٠١٢
تتسارع الأنباء الواردة من منطقة شرقي أفريقيا، حول أجواء صراعات وتنافسات لا تبدو مترابطة، لكنها لا تخطئ الالتقاء عند دلالتها في تشكيل مدرك سياسي جديد تتبلور ملامحة في منطقة لم تعرف الصعود السياسي البارز منذ نيريري وكنياتا.. لكن ثمة أحداثا قريبة تبعث برسائل هذا الصعود، الذي لا يعنى الإيجابية دائما لأنه يمكن أن يعنى التدمير الذاتي أيضا.
ما معنى هذه الجرأة لدولة "جنوب السودان" الناشئة، لتهاجم موقعا استراتيجيا بالنسبة للدولة المجاورة- السودان- في "هيجليج" مصدر الثروة البترولية الحيوي للشمال السوداني؟ وما معنى مهاجمة كينيا العسكرية لجنوب الصومال مؤخرا عابرة مناطق صعبة مثل "توركانا" في شمالها الشرقي الممتد.. لتصل لمراكز التمرد الصومالية- "الشبابية"- جنوب البلد المنهار أصلا؟ بل ما معنى ان تتقدم إثيوبيا إلى محافل دولية وإقليمية بطلب محاصرة إريتريا إلى حد إمكان التدخل العسكري لمصادرة ما تردده عن دورها في دعم وتدريب كوادر "حركة الشباب" الصومالية؟
في زيارتي الأحدث "لنيروبى" أوائل إبريل الحالي كنت أفرغ من حوارات نيروبى حول "انتفاضات" الشمال الأفريقي إلى حوارات أخرى حول تطورات شرقي أفريقيا، وهى تطورات تشغلني منذ الستينيات، منذ كان الرئيس "نيريري" يعلى من شعار, اتحاد شرق افريقيا اولا, كمقابل عنيد لدعوة نكروما لوحدة كل افريقيا, لكن تنزانيا لم تكن قويةبقدر كاف لتقود قوة إقليمية فعلية تحت هذا الشعار. وفى نفس الوقت كانت كينيا دائما مركزا، لتطور آخر، رأسمالي استيطاني أقرب إلى "نموذج" جنوب أفريقيا، لا يطمح في تشكيل قوة إقليمية سياسية أو الدخول في الصراعات الوحدوية" الجارية وقتئذ.
لكن ها هي الأيام تدور، وإذ بصحف وقيادات كينيا تتحدث عن "النموذج الديمقراطي"، وعن الرخاء البترولي المتوقع، وعن جذبها لدولة حديثة غنية مثل "جنوب السودان" وعن جاذبيتها هي نفسها مرة أخرى للنفوذ الأمريكي في المحيط الهندي رغبة في استقرار القيادة الأمريكية العسكرية المعروفة باسم "أفريكوم" نيروبى.
لم يكن الأمر محتاجا لقراءة ما بين السطور، فصحافة كينيا من أكثر مصادر المعرفة في القارة منافسة لجنوب أفريقيا، وتتقدم على منافس سابق في نيجيريا. ويسهل ذلك عادة الحوار والتعليق مع بعض "العارفين بالأحوال"! يكفي هنا أن أقول أن أمين عام جمعية العلوم السياسية الأفريقية السابق، صديقنا "بيتر أنيانج نيونجو" هو الآن وزير الصحة، بعد أن كان وزيرا للتخطيط.! وقد اكتسب ذلك عندى دلالة هامة في معنى الوجود السياسي الديمقراطي في تشكيل جهاز الحكم، لأن سيادته من قادة حركة أو ثورة "الأورانج" منذ مطلع القرن، ومن يعرف ما نناضل من أجله أو ضده في القاهرة وفى العالم العربي كله الآن بل وقيل ذلك بعقود، يعرف معنى ما أشير إليه. بل وقد استثارنى أكثر من ذلك ما قرأته من بيان سياسي عند وصولي نيروبي صادرا من "قصر الرئاسة الكينى"- وليس تصريح "للرئيس المبجل" آخر مارس الماضي، تعليقا على الموقف من المتنافسين حول "بترول كينيا" في منطقة "توركانا" شمال شرق كينيا يقول فيه: " إن السياسة الدبلوماسية للرئيس تقودها نظرة كينيا القائمة على فهم التغيير في الديناميات الجيو سياسية، وقد تطلب ذلك فهم مدى التقاء الشرق والغرب، في مجال الشئون الدولية، في بيئة متغيره دائما"... هذا تصريح من "مصدر" في رئاسة الدولة الكينية، يكشف مع إشارات أخرى عن دور النخبة المحيطة بقيادتها وفى الحياة العامة والسياسية بهذا البلد الصاعد في أحضان العولمة! ولذا أشير إلى الأسى لافتقاد ذلك في بلدان "الربيع" "والشتاء" العربيين! والتصريح المذكور لا يصدر عن مجرد التعبير عن الثقافة السياسية المتوفرة حاليا لدى النخبة في هذه المنطقة، ولكنه صادر عن واقع تتصارع فيه عروض الصين والبرازيل وهولندا والنرويج وكندا للحصول على امتيازات التنقيب عن البترول في “توركانا"... حيث سبقت بريطانيا المستعمر السابق، بالسعي المبكر إلى هناك ربما قدمه عالم الحفريات الأثرية طويل الخبرة بالمنطقة يعمل فيها منذ الستينيات وهو الأستاذ ل. ليكى!... كما تقوم شركة "تالو" البريطانية الأيرلندية بمتابعة هذه البحوث في غانا وكينيا على السواء.
والحديث عن بترول كينيا حديث فني طويل، لكن الكتابات المختلفة تجمع على "مكانته العالمية" عموما، وأسراره كما قلنا هي من مخزون العالم السرى للدول المذكورة، لكنا لابد أن نربطها بما يتردد منذ مدة عن بترول الصومال بل وأوغندا، ناهيك عن الذهب في إريتريا!
لم تتوان دول شرقي أفريقيا في بحث استفادتها السريعة من هذا الواقع الجديد، بل وطرح صراعاتها أيضا حيث لا يجب أن نتفاءل كثيرا بشأن "ضعف النفوس" أو "النفوذ" في العالم الثالث. ويهمني هنا ما تبعثه تطورات هذه المنطقة للعالم العربي، سواء كانت الرسائل إيجابية أو سلبية. فها هو تطور محاولات "التكامل" بين "كينيا- أوغندا- تنزانيا باسم جماعة أو إقليم الشرق الأفريقي لتضم رواندا وبوروندي، بل وتدعو لتنسيق العلاقة بين دول حوض النيل (المبادرة المهدورة) وبين دول البحيرات العظمى.... وقد سارعت الجماعة الجديدة بالترتيب للاتحاد النقدي وتوحيد العملة بما كان مقررا أن يتأكد آخر عام ٢٠١٢ ولكن عجرفة "رواندا"..، أصغر الوحدات في الإقليم وأقواها الآن اقتصاديا وعسكريا! - تحول دون ذلك مؤقتا! بل ان هناك عواقب اخري فرعيه اخذه في التصاعد الي جانب الاعتراضات الروانديه المباشره مثل طلب الباغنده للفيدرالية داخل اوغندا نفسها، أو طرح بعض القوي الاجتماعية والإسلامية باسم المجلس الجمهوري لممباسا لطلب اقتسام الثروة والسلطة والي حد الفيدرالية في الساحل الكيني وخاصة منذ اصبح ميناء ممباسا ولامو مصدر دخل كبير للبلاد.. وتسارع كينيا في دفع سياسات التنمية الاقتصادية الليبرالية على مستوي وطني في تقديرها- وهى مركز عالمي قديم للاستثمار. ليبلغ معدل النمو حوالى ٧٪ مؤخرا... بهذا النمو الذى تخدمه توسعات الصين وبريطانيا والولايات المتحدة معا تتقدم كينيا مع مجموعة شرق أفريقيا الإقليمية بأكبر مشروعات البنية التحتية لتحقيق المصالح المتبادلة أو المشتركة، وفق ما يسمى بمشروع "لابست" Lapsset الذى لا أريد أن اثقل على القارئ حوله بأكثر من أنه يتضمن إعداد طريق إلى "لامو" على الساحل الكينى قادما من جنب السودان عبر إثيوبيا بطول٨٨٠ ك.م، وخط سكة حديد من جنوب السودان أيضا قادما إلى "لامو" بطول ١٧١٠ ك.م وخط أنابيب بترول من جنوب السودان "لامو" ومصفاتها بطول ٢٢٤٠ ك.م.... من هنا تبدو "كينيا" مستعدة لأن تصبح قوة إقليمية، ومركزا لإقليم كبير في شرقي القارة، تنافس فيه انفراد إثيوبيا وأوغندا بالنفوذ، وتواصل إخضاع سوق تنزانيا، وتزحف بسهولة إلى الصومال، ويمكن أن تستخدم قوة رواندا وامتداد بوروندى إلى الجنوب. ويعتبر لجوء "جوبا" لكينيا بوفد كبير قبل العدوان على "هيجليج" إشارة ذات مغزى في هذا التطور، كما يعتبر تحرك إثيوبيا ضد إريتريا في نفس حلبة التنافس. ولا أريد أن أواصل التشاؤم لأسأل عما إذا كان اعتذار وزيرة الرى الكينية عن زيارة القاهرة لخمس أو ست مرات حديثا مما يدخل في الإطار؟ والتصريحات من حول كينيا، بل والاقترابات المتنوعة منها تبدو ملفتة بدورها. فالقيادة الأمريكية العسكرية لأفريقيا تصرح أن شرقي أفريقيا أصبحت من "أولوياتها الأولى" في القارة (ومن قبل صرحت أن الصحراء الكبرى كذلك!) وها هي الصين تصرح أنها لن تسمح أن يصير "المحيط الهندي" هند يا!
في وسط زحام المنافسات الكبري علي المنطقة تتوسط إسرائيل وقطر بين إثيوبيا وأريتريا لتهدئة التوتر من أجل مشروعات أفضل تعطلها الصراعات، و"لقطر" مشروعات زراعية شرق السودان- كما قالت صحف كينية- تريد تأمينها من صراع إثيوبي إريتري قريب منها. كما لها علاقات وثيقة في كينيا والمنطقة تجعلها تخطط لمحطة مقيمة لقناة "الجزيرة" في نيروبى بالسواحيلية. أما إسرائيل فأمورها مستقرة من قديم في المنطقة.
الطريف أن تطرح كينيا نفسها أيضا "كنموذج ديمقراطي" في المنطقة، وهي كذلك بقدر استعادتنا لموقف شعبها من استفتاء على الدستور رده بالرفض إلى نحر الرئيس عام ٢٠٠٨ حين أراد مضاعفة سلطاته! وسالت دماء حتى وضع دستور جديد يقسم السلطة بين أطراف هي متنازعة أصلا (حركة الاورانج الديمقراطيه وحزب كانو...). واللحظات الهنيئة الآن في كينيا لعرض "النموذج الديمقراطي"، تهددها معركة انتخابات الرئاسة أوائل عام ٢٠١٣، فإما أن يرتاح الصراع العالمي لاستقرارها لصالحه، أو يشعل النيران القبلية لصالحه أيضا!
يبقي أن نتساءل عن مدي معرفة او قلق أبناء العالم العربي بشأن هذا التطور المثير في منطقة الشرق الأفريقي، وهي الحديقة الخلفية بالضرورة للشرق اوسطيه بل وهي التي تجعل من المشكلة في حوض النيل أكبر من مشكلة مياه اذ باتت تتحرك فيها عوالم البترول ازاء قلق الخليج وعوالم الشرق أوسطيه الإسلامية والأمريكية، ناهيك عن العوالم الإسرائيلية التي تجد لها الآن وفرة من الأصدقاء في شرقنا وجنوبنا.