أحمد الجويلي يكتب: الشخصية المصرية تتحدث

إذا إستطعنا التسليم بأن الأساس الاجتماعي للبشرية والأدوات التكوينية له هي" الدين -السلاح -المال "
فعلينا أن نعترف بأن المصري هو أول من اكتشف الوجود الإلهي، وهو أول من اكتشف النظرية الفطرية للبشر بالثواب والعقاب والحياة الأخرى لتستقيم الأمور، وهو أول من دعا لتوحيد الإله في إله واحد فأعطاه رمز بالشمس في طريق فلسفي معقد للوصول إلى بارئ الكون تعالي،
وهو أول من تجاوب ايجابياً مع الأنبياء بداية من نبي الله ادريس الذي لقبوه بـ "حكيم الحكماء" وحتى خاتم الأنبياء والمرسلين فكان دائما ما يسعى بفطرته لكل ما يقربه إلى الخالق تعالى، فكان هو المبدع الأول لتسهيل وتيسير كل نواحي الحياة بشكل ليس مقتصرا على نفسه بل كان مصدراً لهذا التيسير للبشرية.
إن الحضارة المصرية ليست مثالاً على إعجاز استمر حتى الآن فحسب بل إنها ثقافة، رسخها المصري وكان له السبق في تأصيلها داخله على طول الخط الزمني الذي تعاقب على الشخصية المصرية.
انه شعب عاش طيلة عمره يشهد على هذه الأرض العجائب والمعجزات التي كانت تحدث فعليا إمامة علي ارض الواقع دون أي مبالغة، إنه ذلك العمر الذي يقترب من أن يكون متوازيا مع عمر الكون،
وبالطبع يحدث ذلك نتيجة لتراكمات الحضارات التي عبرت على هذا الشعب العظيم الذي لم يتغير تبعاً لأي دخيل بل كان العكس هو الصحيح، لهذا الشعب القدرة على "تمصير" أي دخيل خارجي، ليصبح بمنتهى الانسيابية جزء من النسيج المعقد الذي يستحيل استنتاج ردود افعاله او أوقات غضبه وفرحه،
فهو أول من أنشأ النظم الدستورية ونظام الحكم بتدرجاته وأول من درس واكتشف تدرج الطبقات الاجتماعية وكيفية تطبيق اولي نظم إدارة الأزمات في الكون وأول من أنشأ الجيوش وتنظيمها،
فالجيش المصري هو أول جيش علي الاطلاق ذا نظم وآليات ورتب عسكرية وتدرجات حتى يكون هناك أقصى استفادة من القوات المصرية لحفظ الأمن المصري حتى حكم المصري القديم نصف الأرض،
فكيف يعقل أن يثبت المؤرخين بالدلائل الراسخة أن قوام الجيش المصري في عهد رمسيس الثاني هو 600 الف جندي في حين أن التعداد السكاني في العالم ككل كان لا يتجاوز بضعة ملايين انها معجزة في حد ذاتها،
حينما حبى الله الشخصية المصرية نعمة كبرى وهي "مصر" وخيراتها ما اكتشفنا وما لم تكتشف بعد، أعطي معها نعمة كبرى وهي اكتشاف جديد للنفس البشرية لم يسبقها فيها أحد، والذي أود أن أطلق عليه مصطلحاً جديد وهو (التجييش الحفظي) أو باللغة الإنجليزية (Mobilization for security) أي التجييش من اجل الامن ومن أجل الحفاظ على البقاء و المقدرات والمكتسبات.
الانسان حتى يتأقلم مع الطبيعة المحيطة به في مطلع السنين الأولى على الأرض كان لابد له من اكتشاف مفهوم القوة، كان عليه أن يصنع السلاح حتى يحمي نفسه في بيئة قاسية التي كانت سببا في ارتفاع معدل التفكير البشري بشكل سريع ومخيف في نفس الوقت.
اكتشف انه يستطيع ان يستخدم هذا السلاح في اصطياد الحيوانات المتعددة ليأكل، فكان التنوع في الطعام اكتشاف من أجل استمرار الحياة، وهنا كانت ملحمة فكرية ودليل دامغ على عظمة الخالق في خلقه، فكان التعامل مع البيئة المحيطة سببا في التطور الفكري وليس النوعي كما يقول بعض الفلاسفة.
حتى تطور الامر الي ان أصبح المستبد الأول وهو اول بشري يأخذ أرضا ويقول عنها انها ملكية خاصة ومن هنا بدأت الاطماع في الانتشار في الأرض وتلك النقطة بدأت الحروب على المستوى القبلي في النشوب بعد أن مر بمرحلة التعارف والتقارب والالتفاف بشكل قبلي،
وفي ذلك سنرى أن المصري قد طور من هذا المفهوم القبلي فتولدت معها البناء، والبناء لابد له من الحماية فكان الجيش من الوهلة الأولي خرج من ضلوعه شعباً جبارا أسس أول خرق للطبيعة في البناء، فإن العبقرية لم تكن في خلق مفهوم الأمن فحسب بل بمقاومة الطبيعة المحيطة وتطويرها إلى منظومات امن و تعمير في مفهومه جديد الذي ذكرناه سالفاً (التجييش الحفظي).
وبالطبع في العصر الحديث بكل تطوره هناك فاحصين للشخصية المصرية التي تؤثر ولا تتأثر بشكل سريع، والتي ارست مفهوم جديد في علوم التأثير النفسي والاجتماعي وهو ما نسميه (التمصير) في جميع من حولها من شعوب وقبائل، حتى أنها حينما تدينت بالدين الإسلامي لقوته على التأثير وبساطته بما تناسب مع الشخصية المصرية القوية البسيطة والمتسامحة، فتحدثت باللغة العربية ولكن بعد تمصيرها!
فكانت البلد الوحيد التي مصرت العلوم الإسلامية من المصدر الرئيسي للتشريع الإسلامي للكتاب والسنة بشكل مبسط وقوي والتي تغيرت علي إثره الكثير من القواعد الفقهية الإسلامية ومن ثم صدرت العلوم الشرعية إلى البلد التي نزل فيها الإسلام ومن ثم في جميع أرجاء المعمورة، وكأن الله تعالى قد أراد للإسلام بالحفظ حينما شرح قلوب المصريين له.
فحينما تمت دراسة الشخصية المصرية وجدوا أنها تحتوي على قدر غريب من الترابط وصعوبة بالغة لتمزيقها ولذلك سبب وهو المرجعية والتاريخ الذي يشكل عمق سحيق من الهوية الخاصة، هي خبرات تكونت عبر العصور، حتى أنه دوما ما كانت ذاكرة الهوية عائق أمام تفتيت الشعب المصري،
فكان العبث بالهوية هو الهدف من خلال تركيب "ذاكرة جديدة" وهو ما أشار إليه العديد من علماء الاجتماع في الغرب، وتم استخدام التطور التكنولوجي والعالم المنفتح تحت مسمى "العولمة" حتى يسهل السيطرة على الفرد،
وتغيير المسميات جزء اصيل منها، من المنطقة العربية إلى الشرق الأوسط ومن الخليج العربي إلى الخليج الفارسي ومن بحر العرب الى البحر الأحمر، والعديد مما يريدون تغييره حتى يتم إنجاح عملية تركيب الذاكرة الإضافية للشعوب حتى يكون الفصل بين الذاكرة وعمق الهوية ويتفرقون في جنح الظلام مثل المشردين، ليكونوا أفرادا صالحين للعيش تحت المجتمع الموحد المزعوم.
وكانت الخطوة الأولى هي ربط مفهوم التحديث بالتغريب ليكون فرضا عليك تركيب الشخصية الغربية لتلحق بركب التطوير وهو نوع آخر من تركيبات الذاكرة اللحظية التي تتنافى مع الشخصية الحقيقية وهي الطبقة الضعيفة التي تسبب الضعف العام وسهولة التحكم والسيطرة عن بعد (الإدارة عن بعد)،
وهو ما تم استخدامه من قبل الاستعمار الخارجي مهما تطورت أشكاله وأسمائه وصفاته مع الشعب المصري بكل دقة حتى يجعلون من هذه الشخصية المستعصية منذ آلاف السنين نموذجا هاما لنجاح استراتيجيتهم التي قدروها بالخارقة!
وهو الشيء الذي على إثره تغيرت كافة الموازين العالمية والاستراتيجيات الدولية، فهذا الشعب هو من تصدى لكل هذه الفوضى وكشر عن انيابه بلا هوادة وأسقط إحدى أخطر استراتيجيات اللعب على الضلع الأول للحياة (الدين) عبر إسقاط نموذج معاصر من الفاشية الدينية، ويستطيع بكفاءة تجهيز نفسه للمرحلة التالية
بنظرية (التجييش الحفظي) الذي ذكرته أي الجاهزية العسكرية الدائمة، وكعادة الجيش المصري يسد ثغرة الضلع الثاني (السلاح) الذي يحاولون تشويه كل ما يحيط به لهزيمة الشخصية المصرية،
وأما عن الضلع الثالث وريثما أصبحنا في عالم لا يتم التحدث فيه الا عن المال تطبيقا للمثل الإنجليزي (أرني المال لأفعل أي شيء) أو المثل الأمريكي (النقود تتحدث) أي الاقتصاد وهو التحدي الحالي،
والذي يستوجب على الجميع ان يقف صفا واحداً وان يتم استخدام الاقتصاد كملف كامل بحرص شديد لانه من أكثر الملفات الشائكة والتي لا يجب التعامل معها بثقة مفرطة أو عنجهية بدائية، لأنها قد تكون سببا في تدمير كافة المكتسبات،
انه شعب قد انتصر بفطرته دون أن يدري ويعي أهمية واصداء ما يفعله هو الشعب البطل الذي يخرج من ضلوعه يومياً ابطال.
وحين يجتمع في اليوم المعهود على الطاولة هويات العالم المختلفة، هل نحن مستعدون لأن نكون القوة الحقيقية لنجلس من خلالها على الطاولة الكبيرة بالأصالة عن أنفسنا وبالانابة عن الضعفاء؟