الدفاع الأخضر...التداعيات العسكرية لتغير المناخ على الأمن الأوروبي

الدفاع الأخضر...التداعيات العسكرية لتغير المناخ على الأمن الأوروبي

كتبت/ دينا عبد الراضي الجنزوري

باحثة ماجستير – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

ثمة تحديات تشكل تهديدًا لأمن أوروبا، ويبدو أن أزمة تغير المناخ تمثل التهديد الأكثر إلحاحًا للأمن الأوروبي؛ إذ يُعد تغير المناخ عامل تسريع ومضاعف للكوارث وعدم الاستقرار والصراعات، كما تتزايد خطورة تغير المناخ كونه ينتقل من مجرد تهديد للأمن الإنساني إلى تهديد للأمن القومي لأوروبا ومصالحها الاستراتيجية.

وفي هذا السياق، يطرح تقرير نُشر مؤخرًا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لكل من "بن باري" (Ben Barry)، "شيلوه فتسيك" (Shiloh Fetzek)، "كارولين ايميت" (Caroline Emmett)، الآثار المترتبة لتغير المناخ على الجيوش الأوروبية، مما يستدعي تنفيذ تغييرات للعمليات العسكرية والتدريب واستراتيجيات القوات المسلحة.

ويطرح التقرير تساؤلًا حول كيفية مساهمة القوات الأوروبية في التخفيف من حدة تأثيرات تغير المناخ من خلال احتواء ظاهرة الاحتباس الحراري والمساهمة في أهداف الوصول إلى الحياد الكربوني على المستويين الوطني والدولي.

وعلى غرار قارات العالم الأخرى، تتحمل أوروبا المسؤولية عن تفاقُم تأثيرات ظاهرة الاحتباس الحراري طيلة الـ 300 عام الماضية؛ لذا هناك مسؤولية أخلاقية على عاتق أوروبا بشأن مساعدة الدول الأخرى في مواجهة تأثيرات الظواهر الجوية المتطرفة المتكررة بشكل متزايد ولتقليل الانبعاثات الأوروبية. علاوة على ذلك، فإن الجيوش الأوروبية نفسها مهددة بشكل مباشر بانتشار الظواهر المناخية المتطرفة، سواء داخل أوروبا أو في جميع أنحاء العالم.

تداعيات تغير المناخ على الأمن الأوروبي والجيوش الأوروبية

أكَّد التقرير أن ظاهرة تغير المناخ أصبحت تُمثل الآن تهديدًا عالميًا مُلحًا، لما ينطوي عليها من تأثير على الأمن الإنساني بشكلٍ عام وعلى الاستقرار السياسي في بعض المناطق الأكثر ضعفًا في العالم، الأمر الذي يجعل من "الأمن المناخي" مصلحة حيوية للأمن القومي لكافة الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي.

وفي هذا السياق، يتوقع التقرير حدوث المزيد من الظواهر المناخية المتطرفة المتكررة في جميع أنحاء العالم، والتي ستشمل ارتفاع أعداد العواصف، والفيضانات، وموجات الحر والجفاف. كما سيصاحب تلك الظواهر العديد من العواقب الثانوية التي تشمل: تدهور إمدادات المياه، وانخفاض الإنتاجية الزراعية، وتدهور البنية التحتية للطاقة.

واستكمل التقرير أن هذه التغييرات المناخية الحادة سيكون لها تداعيات سلبية خطيرة على الاقتصاد العالمي، كما ستؤدي إلى الهجرة القسرية والنزوح، مما يفرض تحديات إضافية على الحكومات، والذي بدوره سيزيد من عدم الاستقرار السياسي مع تزايد حدة الاحتجاجات الشعبية.

وأشار التقرير إلى أن تغير المناخ يُنذر بخطر نشوب نزاعات مسلحة، موضحًا أن التنافس المكثف على الموارد والاحتكاك المتزايد بين الطبقات الاجتماعية قد يؤدي إلى صراع عنيف داخل الدول وربما فيما بينها.

وفي هذا الإطار، يرجح التقرير أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم النزاعات الدولية القائمة وزيادة مخاطر بؤر التوتر التي تؤدي إلى نشوب حروب بين الدول - بما في ذلك الصراعات بين القوى العظمى، مضيفًا أن الضرر البيئي، أو الانبعاثات غير المسؤولة يمكن أن تصبح مبررًا للاستخدام المباشر للأداة العسكرية من جانب بعض الدول في المستقبل، بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن تُؤدي الأحداث المناخية المتطرفة إلى تغيير المواقف العامة والسياسية للحكومات مستقبلًا.

وأضاف التقرير أنه على الرغم من الأساليب السلمية التي يتبعها نشطاء المناخ حاليًا للمناداة بتحقيق مطالب تقليل الانبعاثات الكربونية، فإنه من المتصور أن النشاط المناخي يمكن أن يصبح عنيفًا مع تضاعف الآثار الضارة لتغير المناخ، مما سيؤدي إلى تزايد عمليات التخريب والهجمات على الأهداف التي يعتبرها النشطاء "أعداء للمناخ". في حين يمكن أن تحدث مثل هذه التهديدات خارج أوروبا وداخلها.

الولاية المناخية للدفاع الأوروبي

أوضح التقرير أن أوروبا أنتجت نسبة كبيرة من انبعاثات الكربون العالمية على مدى القرون الثلاثة الماضية، لذا، هناك واجب أخلاقي للدول الأوروبية لمساعدة البلدان الأخرى على التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من تأثيره عن طريق الحد من الانبعاثات الوطنية.

 وأضاف التقرير أنه بالرغم من أن الإفصاح عن نسبة انبعاثات الكربون العسكرية يُعد اليوم أمرًا طوعيًا وليس إلزاميًا في العديد من الدول، فإن الحفاظ على هذا الوضع قد يصبح صعبًا بشكل متزايد، لا سيما في ضوء الارتفاع المستمر في الظواهر المناخية المتطرفة.

ويحدد قانون المناخ الخاص بالاتحاد الأوروبي هدفًا قانونيًا ملزمًا يتمثل في خفض صافي انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول عام 2050، ويتضمن هذا الهدف خفض صافي الانبعاثات الكربونية بنسبة 55% على الأقل بحلول عام 2030، مقارنة بمستويات عام 1990. وهذا يتطلب من الدول الأعضاء أن يكون لديها خطط للحد من صافي انبعاثات الكربون الوطنية، بما يشمل الانبعاثات الصادرة عن الصناعات الدفاعية.

وفي سياقٍ متصل، أكَّد التقرير أن الاتحاد الأوروبي قام بوضع خارطة طريق تسعى إلى تعزيز المرونة المناخية لسياسات الاتحاد الأوروبي الحالية والمستقبلية، وتقترح تدابير لمعالجة الروابط بين تغير المناخ والسياسات الدفاعية.

وعلى جانبٍ آخر، أشار التقرير إلى أن بعض دول الناتو متشككة في أهمية تكريس الحلف لقدر كبير من الجهود لمعالجة قضية تغير المناخ؛ إذ ترى العديد من الدول أن هذه الجهود تُعد صرفًا للانتباه عن مهمة الناتو الأساسية المتمثلة في الدفاع عن الأراضي، مؤكدًا أن حلف الناتو سيحتاج إلى حل وجهات النظر المتضاربة هذه من خلال النقاش الداخلي.

 وأوصى التقرير حلف الناتو بضرورة التعامل مع تغير المناخ على أنه قضية قائمة بذاتها، من خلال تنسيق الجهود الوطنية للتعاون العسكري في مجال تغير المناخ، علاوة على إجراء عمليات الحلف بما لا يشكل ضررًا للبيئة.

استراتيجية الدول الأوروبية وحلف الناتو للتخفيف من حدة تغير المناخ

أشار التقرير إلى أن الجيوش الأوروبية أصبحت تستجيب بشكل متزايد لتغير المناخ من خلال تعزيز دورها في خفض الانبعاثات الكربونية؛ حيث تعمل الجيوش على دمج قضية تغير المناخ في سياساتها العسكرية. كما بدأت بعض المؤسسات الدفاعية في إيلاء المزيد من الاهتمام للتخفيف من تداعيات هذه الظاهرة عبر مشاركة الحكومات الوطنية في السعي لتحقيق هدف الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية.

وأضاف التقرير أن معظم هذه الاستراتيجيات تضع أهدافًا قابلة للتحقيق لخفض الانبعاثات على نطاق يسمح بتخفيضات عميقة بما يكفي لتحقيق صافي صفر على المدى القصير إلى المتوسط. وتشمل الأهداف ذات الأولوية ضمن هذه الاستراتيجيات، تركيب أنظمة الطاقة المتجددة، والتدريب في بيئات محاكاة، واجراء مشاريع تجريبية لاختبار تكامل التقنيات الجديدة، مثل الهيدروجين أو الوقود الاصطناعي.

 وألمح التقرير إلى أن العديد من الدول الأوروبية تعمل على كهربة أسطول مركباتها غير العسكرية، وزيادة الاكتفاء الذاتي من الطاقة في المنشآت عبر تركيب الأنظمة الكهروضوئية، وتعزيز الوعي بالبيئة والطاقة بين الأفراد. وعلى سبيل المثال، تهدف "استراتيجية الطاقة الدفاعية" الإيطالية إلى تحسين كفاءة الطاقة، والاستقلالية ومرونة البنية التحتية، وتعزيز "العقلية الموجهة نحو الطاقة" عبر العمليات واللوجستيات والبنية التحتية. بالإضافة إلى تطوير المناطق العسكرية من خلال إنشاء "القواعد الخضراء" و "الذكية"، كما تضع الاستراتيجية أساسًا للتخطيط لتحديد أنسب أنظمة الأسلحة في المستقبل.

واستكمل التقرير أن العديد من استراتيجيات الطاقة الدفاعية والبيئية الأخرى تعمل على تحقيق أهداف مماثلة، بما في ذلك في دول مثل الدنمارك وفنلندا واليونان، والتي تركز على: خفض الانبعاثات من خلال استخدام الوقود الأحفوري بشكل أكثر كفاءة، وتركيب مصادر الطاقة المتجددة، بهدف الحد من الانبعاثات الدفاعية.

ودعا التقرير حلف الناتو إلى عمل منتديات تهدف إلى تحسين فهم التداعيات الأمنية لتغير المناخ والتكيف معها والتخفيف من حدتها، بما يشمل تسهيل تبادل الخبرات بين الحلفاء، وتطوير القدرة على معالجة التداعيات الأمنية لتغير المناخ، ودعم الجهود المبذولة للحد من تأثير الأنشطة العسكرية لحلف الناتو على المناخ.

وفي سياق متصل، أكَّد التقرير على أهمية استمرار جهود مكافحة تغير المناخ في التطور جنبًا إلى جنب مع التطورات في تكنولوجيا الوقود، الأمر الذي من شأنه أن يساعد حلف الناتو على أداء دوره في تحقيق ممارسات دفاعية أكثر استدامة.

فرص وتحديات الدفاع الأخضر

أشار التقرير إلى أن خيارات تقليل الانبعاثات الكربونية للقوات المسلحة الأوروبية تشمل التنقل المستدام للاعتماد على أنواع الوقود البديلة، موضحًا أن أسهل طريقة للتحول إلى "الدفاع الأخضر" هي تقليل انبعاثات المنشآت العسكرية على المدى القصير، فمن الممكن أن تقدم مصادر الطاقة المتجددة خيارات للاكتفاء الذاتي العسكري بل وتساهم في توليد الطاقة على الصعيد الوطني.

 وفي سياقٍ متصل، أكَّد التقرير أن تحقيق هذا الهدف يتطلب إيجاد حلول آمنة لتخزين الطاقة وتعديل عمليات سلسلة التوريد الدفاعية، مشيرًا إلى أن تقليل استهلاك الوقود الأحفوري سيؤدي إلى زيادة نطاق وتحمل المنصات العسكرية.

وعلى جانبٍ آخر، نوَّه التقرير إلى أن الدول الأوروبية ستواجه صعوبة في إجراء التحولات واسعة النطاق اللازمة لتحقيق صافي "صفر" كربون بحلول عام 2050، ومع ذلك، فإن هذا التحول ليس مستحيلًا، لكنه سيتطلب استراتيجية وخطة وطنية، بما في ذلك الاستثمار الحكومي والصناعي في البحث والتطوير ودعم من قبل القيادة السياسية.

وأشار التقرير إلى أن صناعة الدفاع الأوروبية بدأت بالفعل في استكشاف تقنيات "الجيل التالي" الناشئة الأكثر مراعاة للبيئة، والتي يمكن أن تقلل من الانبعاثات الكربونية وتوفر خيارات مفيدة لموازنة الفعالية العسكرية مع تحسين المرونة المناخية وإنشاء مفاهيم جديدة وخيالية للحرب المستقبلية.

ومع ذلك، يُمثل خفض الانبعاثات مجموعة من التحديات والفرص والمقايضات للدفاع الأوروبي؛ إذ يمكن لبعض الخصوم العسكريين المحتملين لأوروبا، بما في ذلك روسيا، اختيار الاحتفاظ بالقدرات التقليدية ثقيلة الكربون، مثل الدبابات والطائرات المقاتلة حتى نفاد الموارد.

ويتوقع التقرير أن يصبح حجم البصمة الكربونية للجيش نقطة خلاف في النقاش العام داخل مؤسسات الدفاع الأوروبية؛ إذ سيرغب العديد من الأشخاص في قطاع الدفاع في تحسين الاستدامة البيئية، لكنهم سيعارضون التخفيضات في القدرة العسكرية من أجل مواجهة التهديدات الخارجية المحتملة.

ويرى التقرير أن هناك خطر من أن كبار القادة العسكريين في أوروبا قد ينظرون إلى قضية تغير المناخ كأولوية ثانوية، الأمر الذي يهدد بضياع فرص "تخضير" الجيوش الأوروبية.

 وفي الختام، أوصى التقرير قطاع الدفاع الأوروبي بضرورة الإعلان أن تغير المناخ هو التهديد الجوهري للأمن المحلي والدولي، مشيرًا إلى أن الجيوش الأوروبية سيكون لها دورًا رئيسًا في التخفيف من عواقب تغير المناخ الوطنية والدولية، كما دعا التقرير الجيوش في أوروبا إلى التفكير فيما إذا كانت تريد أن يُنظر إليها في المستقبل على أنها منظمات فشلت في توقع التهديدات المناخية أو التكيف معها أو التخفيف من حدتها، الأمر الذي قد يقوض مهمتها في نهاية المطاف ويحد من شرعيتها المحلية.