عصابة من الأطفال تدير شركة بالمليارات

عصابة من الأطفال تدير شركة بالمليارات
بقلم/ ياسر أبو معيلق

هكذا وُصف التسلسل الزمني لانهيار أكبر شركات تداول العملات المشفرة في العالم (Cryptocurrencies)، ألا وهي إف تي إكس (FTX).
لكن الانهيار - الحتمي - لهذه الشركة هو برأيي كاشف لتداخل السياسة والمال، ومدى كون عمليات الاحتيال الذكية للغاية جزءً أصيلاً من الاقتصادات الرأسمالية الغربية عموماً (نتذكر إفلاس أكبر شركات الوساطة المالية في ألمانيا، وايركارد، وهروب مديرها إلى روسيا. قبلها بسنتين فقط كانت المستشارة الألمانية السابقة ميركل قد منحته جائزة التميز والإبداع).
موضوع FTX تم تداوله مؤخراً بشكل تفصيلي من قبل عدد من صانعي المحتوى الاقتصادي العرب، ولكنني هنا سأذكر عدداً من النقاط المحورية كي يسهل عليكم رؤية الفساد والمحسوبية والتداخل بين المال والسياسة في الغرب عموماً، وأمريكا خصوصاً:
* بدايات سام بانكمان فريد، مؤسس FTX، كانت من خلال شركة "ألاميدا للأبحاث" (Alameda Research)، التي أسسها بعد تحقيقه ملايين الدولارات من ثغرة اكتشفها عندما كان مضارباً للبتكوين في إحدى شركات التداول بنيويورك. فقد اكتشف أنه كان قادراً على شراء البتكوين رخيصاً في السوق الأمريكي، وبيعه بسعر أعلى في السوق الياباني، وحقق نحو مليون دولار ربح يومياً!
* "ألاميدا للأبحاث" تأسست عام ٢٠١٧ من قبل مجموعة من زملاء سام وأصدقائه، الذين انتقلوا للعيش سوياً في مجمع سكني فاخر في جزر البهاما، تبلغ قيمته نحو ٣٠ مليون دولار. هذه الشركة كانت تزعم أنها تقدم عائداً سنوياً على الاستثمار لا يقل عن ١٥٪  مقابل الاستثمار فيها، وهي نسبة ضخمة للغاية بمعايير شركات الاستثمار الكبرى.
* هذه المجموعة، التي تتألف من عشرة أشخاص، كانوا يقيمون علاقات عاطفية متعددة الشركاء (polyamorous relationships) فيما بينهم، وعزلت نفسها في فقاعة عن بقية موظفي الشركة، لدرجة أن سام عيّن صديقته السابقة، كارولين إليسون، مديرة عامة للشركة، وهي لا تملك خبرة طويلة في التداول والأسواق المالية!
* عام ٢٠١٩، أقنع سام عدداً من كبرى الشركات الاستثمارية، من بينها "بلاك روك" و"سيكويا كابيتال" و"سوفت بانك" وآخرين، باستثمار نحو ملياري دولار لتأسيس "FTX". بعض قرارات الاستثمار لمن يوصفون بأنهم أذكى عقول وول ستريت تثير العجب: فعلى سبيل المثال، قررت "سيكويا كابيتال" الموافقة على استثمار ٢١٠ ملايين دولار في "FTX" بعدما أعرب بعض المشاركين في الاجتماع مع سام بانكمان فريد عن انبهارهم بشخصيته، لأنه كان يلعب لعبة فيديو أثناء الاجتماع!!!!
* فكرة "FTX" هي توفير بورصة لتداول العملات المشفرة: فقد كان سام يعرض على المودعين تخزين عملاتهم المشفرة على خوادم الشركة، بدلاً مما تسمى بـ"المحافظ الباردة"، كوحدات التخزين الناقلة (الفلاشة). تخزين العملات على خوادم "FTX" يسهل تداولها بالبيع أو الشراء، مقابل عمولة تحصل عليها الشركة.
* كانت الشركة أيضاً تقدم تخفيضات في الأسعار لكل من يقرر شراء العملة الخاصة بها، المسماة "FTT". هذه العملة عبارة عن "مخزن قيمة" للعملات المشفرة المتداولة (يُطلق على هذا النوع اسم العملة الرمزية أو crypto token).
* العبقرية الشريرة في فكرة "FTT" هو أن سام يشرف على البرمجية الخاصة بها، مما يعني أنه - مثل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي - قادر على طباعة ما يريد منها، وإقناع المستثمرين والعملاء على حد سواء بقيمتها السوقية. الغالبية العظمى من مدفوعات "FTX"، بما فيها رعايات لنجوم رياضيين وسينمائيين، وشراء استاد كامل لكرة السلة في ميامي وتسميته باسم "حلبة FTX"... أغلبها دُفع على شكل عملة "FTT".
* بدأت المليارات تتدفق على سام من خلال "ألاميدا" و"FTX"، وأوصلته إلى الحلبة السياسية، فصار يموّل حملات مرشحي الرئاسة الأمريكية، مثل جو بايدن، أو يدعم انتخاب أعضاء كونغرس على طرفي الطيف السياسي في أمريكا. الهدف من ذلك كله هو ممارسة ضغط سياسي لتنظيم سوق العملات المشفرة، وهو ما سيخدم شركته بشكل مباشر، ولكنه يضر كل منافسيه، وتحديداً عدوه اللدود تشانغبينغ جاو، الملقب بـCZ، وصاحب شركة "Binance". دوره في تدمير إمبراطورية سام المالية سيكون مفصلياً فيما بعد.
* بداية النهاية كانت في النصف الثاني من العام الحالي. فقد أدى التضخم المالي ورفع أسعار الفائدة إلى هروب المستثمرين من الأصول ذات نسب المخاطرة العالية، وأهمها العملات المشفرة. النتيجة كانت انهيارات متتابعة، وإفلاس لشركات التداول. سام بدأ يتدخل من خلال شركته "ألاميدا للأبحاث" لإنقاذ تلك الشركات مالياً، عبر شراء مخزونها من العملات المشفرة بسعر أقل بكثير من العادي. أضف إلى ذلك أن "ألاميدا" عانت خسائر كبيرة بسبب استثمارات وتجارات فاشلة، وهو غير مستغرب في ظل وجود مديرة غير مؤهلة مثل كارولين إليسون.
* عمليات الإنقاذ المالي والخسائر المتراكمة قضت على السيولة المالية لـ"ألاميدا"، ما أدى إلى أول جريمة مالية: فقد قام سام بتحويل مبالغ متزايدة من أموال المودعين في "FTX" إلى "ألاميدا" دون علمهم أو موافقتهم. وصلت قيمة التحويلات في نهاية الأمر إلى ١٠ مليارات دولار، أغلبها في صورة "FTT"، وهي مخالفة صريحة لقوانين الرقابة المالية الأمريكية.
* لكن سلطات الرقابة الأمريكية تغاضت عما قامت به "FTX" أو "ألاميدا"، رغم علمها بما حصل. لماذا؟ التخمينات تشير إلى العلاقة بين غلين إليسون، والد كارولين مديرة "ألاميدا"، الذي يعمل أستاذاً للاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، وبين غاري غينسلر، الرئيس الحالي لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC)، الذي كان أستاذاً في نفس المعهد، وكان غلين مديره المباشر!
* انهيار إمبراطورية سام المالية بدأ بتقرير مالي مسرب كشف عن أن غالبية أصول "ألاميدا" تتكون من عملة "FTT" (نحو ١٤٫٦ مليار دولار). هذه المعلومة تحمل في طياتها خطيئتين عظيمتين لأي صندوق استثماري:
١. عدم تنويع الملف الاستثماري، وحصره في مصدر واحد، ما يجعله معرضاً لخسائر كبيرة في حال تراجع قيمة هذا المصدر.
٢. امتلاك كميات كبيرة من عملة تصدرها البورصة التي يملكها صاحب الصندوق الاستثماري. يمكن مقارنة ذلك بشراء حكومة الولايات المتحدة لغالبية سندات خزينتها!!!
* مع هبوط سعر "FTT" بسبب التراجع العام لأسواق العملات المشفرة، واجهت "ألاميدا" صعوبات كبيرة في توفير سيولة مالية كافية للمضاربة في السوق. لكن ما عجّل في الانهيار كان انتقام مؤسس "Binance" من غريمه سام، عبر تويتر.
* تشانغبينغ جاو كان من أوائل من استثمروا في "FTX"، فقد اشترى ٢٠٪  من حصصها بمبلغ ١٠٠ مليون دولار. لكن بعدها بسنوات أعاد سام شراء تلك الحصص منه بملياري دولار، دفعها كلها في صورة... نعم، عملته "FTT". بذلك، أصبح منافس سام بانكمان فريد من أكبر مالكي عملته الافتراضية التي تستمد قيمتها مما يحدده سام لها.
* بعد تسرب التقرير المالي سالف الذكر لأصول "ألاميدا"، أعلن جاو عن أنه سيتخلص مما تبقى بحوزته من عملة "FTT"، والتي تبلغ قيمتها نحو ٢٫١ مليار دولار. هذا الإعلان أثار هلعاً لدى المودعين في "FTX"، والذين بدؤوا بسحب أموالهم من "FTT". هذه الموجة من البيع تسببت في انهيار تام لسعر العملة بنسبة ٨٠٪ ، وذلك في غضون ٤٨ ساعة فقط من تغريدة جاو!
* لم تكن "FTX" تمتلك السيولة الكافية للاستجابة لكل عمليات البيع هذه، إذ تبين أن ما عليها من التزامات يبلغ نحو ٩ مليارات دولار، إلا أنها لا تملك أكثر من ٩٠٠ مليون دولار من السيولة، أي نسبة تغطية لا تتجاوز ١٠٪  فقط!
* بعد ٢٤ ساعة فقط من إعلان سام بانكمان فريد أن كل شيء على ما يرام وأن أصول شركته بخير، تبين أنه اتصل بغريمه جاو و"توسل إليه" من أجل إنقاذ "FTX" من خلال عملية استحواذ كامل. لكن جاو أعلن رفضه بعد فحص بيانات الشركة واكتشاف الحقيقة المظلمة التي أخفاها سام و"عصابته" لسنوات.
* حالياً يعتبر سام بانكمان فريد وكارولين إليسون هاربين من العدالة، عقب إعلان وزارة العدل الأمريكية إطلاق تحقيق في ١٠ مليارات دولار نقلها سام سراً من أموال المودعين في "FTX" إلى "ألاميدا" في شكل قروض للتجارة، واعتراف كارولين بذلك في إيميل داخلي، ما يشكل إقراراً بجريمة مالية.
* كشف سام عن أن شركاته الـ١٣٠ أعلنت إفلاسها رسمياً في يوم واحد، وأنه استقال من شركة "FTX"، ما تسبب في عاصفة من الخسائر في عالم العملات المشفرة، بلغت نحو ١٥٢ مليار دولار إجمالاً.
* ما تزال هناك أسئلة حول مليار إلى ملياري دولار من أموال "FTX" اختفت من حسابات الشركة دون علم أي موظف. أغلب الأدلة تشير إلى أن سام، الذي صمم برمجية الشركة، هو الوحيد الذي يمتلك الصلاحيات التقنية للقيام بذلك.
* ما هو، إذن، الدرس المستفاد من انهيار شركة كانت تقيّم بنحو ٣٢ مليار دولار مطلع العام الحالي، وأصبحت قيمتها الآن ٢٠٠ مليون دولار تحت الصفر؟
الدرس هو أنه في عالمنا اليوم هناك حدود جديدة تظهر كل يوم، بتحديات ومشاكل لم نشهد مثيلاً لها في تاريخنا البشري. النظام الرأسمالي يعتمد على النمو المستمر، وكل يوم تبرز طرق جديدة لتحقيق الربح، وكثيراً ما يتبين أنها طرق غير قانونية أو تخسر في النهاية بسبب العجلة وعدم الاهتمام بالتدقيق والبحث الكافي.
درس آخر هو أن الشباب متهور. أقولها مرة ومرتان ومائة مرة: الشباب متهور، وأكثر ميلاً لاتخاذ قرارات تحمل في طياتها مخاطر كبيرة. هذه القرارات قد تؤدي في بعض الأحيان إلى اختراق هام للبشرية، ولكن غالباً ما يُكتشف أنها عمليات احتيال منفذة بعناية من أجل تحقيق مكاسب سريعة ومن ثم التواري عن الأنظار.
أخيراً، يبقى عالم المال والأعمال التقليدي هو الأكثر ثباتاً، فقط لأنه الأكثر تنظيماً. أيضاً، يبقى الإعلام التقليدي قوياً ومؤثراً لأنه مبني على قواعد بحثية راسخة منذ عقود، بينما ما يزال الإعلام الرقمي وإعلام منصات التواصل الاجتماعي، رغم نجاحاته الكبيرة، بحاجة إلى تنظيم أكبر لعمليات التدقيق والتمحيص، وإلا فإننا سنجد "FTX" جديدة كل شهرين!!