قالت مصر والعالم العربي:
يا خسارة.. يا ست !
(المعادي - ١٩٧٥)
إن صوت أم كلثوم..
وكان زمناً!
وكان حلماً
وكان قولاً
وسيظل كذلك..
وسيظل رأيها وفكرها وقولها: «الأمل: هو فلسطين.. والعدو: هو إسرائيل» - كما قالت ذلك ذات صباح مشمس للكاتب الراحل محمود عوض - سيظل راسخاً وثابتاً وشاهداً وساكناً بداخل وجداننا وضمائرنا حتى ونحن نسمع صوتها يغنى «هو صحيح الهوى غلاب».. إن هذا الصدق فى القول والعمل يجعلنا نهتف ونحن نصفق لها ـ كما حدث عام ١٩٦٤ من أحد أشهر معجبيها الحاج سعيد الطحان ـ ونقول لها فى كل مرة «عظمة على عظمة على عظمة يا ست»! وكلما حلت ذكراها سنزحف بأحاسيسنا، ومشاعرنا، ودموعنا ونصعد إلى الدور الثالث بمستشفى المعادى العسكرى مثلما حدث من مريض علم بنبأ وفاتها وهو يُعالج فى المستشفى فترك غرفته محمولاً فوق كرسى متحرك ووقف أمام غرفتها رقم (٣٣٤) ـ غرفة الإنعاش ـ يبكى قائلاً: «سمعانى يا ست.. يا خسارة يا ست.. الله يرحمك.. يا ست»!
(محافظة الدقهلية ١٨٩٨)
وعندما نتذكر أم كلثوم نجدها لست فتاة ريفية عادية جاءت من ريف قرية الزهايره/ مدينة السنبلاوين - تبعد عن القاهرة ١٤٠كم - بدلتا مصر مرتدية العقال والبالطو الأسود لتغنى: (أوعى تكلمنى بابا جاى ورايا) وليست صيتة ـ أى مطربة ـ وقفت وسط الجماهير من أجل الشهرة والجاه والمال (اشترت ٥٠ فدانًا عام ١٩٣٥ تبرعت بها مع باقى أملاكها بالكامل إلى أسرتها وأهلها)! وليست امرأة عادية جاءت للحياة من أجل فستان سهرة (سواريه) وعش زوجية تأكل من مطبخه ما لذ وطاب كباقى النساء«كانت تستيقظ فى الثامنة صباحاً.. والإفطار نصف رغيف. وفنجان شاى. الغداء حسب الظروف، أما الوجبة الرئيسية فهى العشاء»! وليست مواطناً عادياً جاء للحياة ثم رحل كما يرحل غيره من البشر بعيداً عن قضايا وطنه دون أن يترك أثرًا.(تبرعت عام ١٩٦٨ للمجهود الحربى بعد هزيمة يونيو/ حزيران ٦٧ بما يساوى ٥ ملايين دولار (بقيمة اليوم = ٧٥ مليون جنيه مصرى)!
أم كلثوم.. حتى وأنت تسمعها فى شرفة منزلك وقت العصارى وأمامك فنجان شاى وعلبة سجائر نصف فارغة وهى تغنى: «الحب كله
/حبيته فيك/ الحب كله/ وزمانى كله أنا عشته ليك/ زمانى كله» تذكرك بالمصرى القديم وهو يبنى الأهرامات. وهو يعمل- تحت وطأة السخرة- فى حفر قناة السويس. وهو جندى من جنود عرابى أمام قصر عابدين. وهو صوت يهتف بين جماهير ثورة ١٩١٩(الاستقلال التام أو الموت الزؤام)، وهو منشور من بيانات الضباط الأحرار، وهو حرف فى صحيفة يحررها عبدالله النديم. وكلمة فى موسوعة جمال حمدان هو غنوة من ألحان سيد درويش. وهو فصل من رواية لنجيب محفوظ.
(القاهرة فبراير ١٩٧٥)
اليوم هو الأثنين / ٣ فبراير . الساعة الآن السابعة صباحاً، أخبار القاهرة عادية جداً.. تقول: «ابتداء من الأسبوع القادم سنستمع من ميكروفون الإذاعة إلى صوت ثعلب كرة القدم الكابتن حمادة إمام وهو يُعلق للمرة الأولى على مباريات كرة القدم. بعد ٥ أيام ستعرض فرقة الفنانين المتحدين مسرحية (شاهد ما شافش حاجة) بطولة عادل إمام وإخراج هانى مطاوع. الهيئة المصرية العامة للكتاب تعلن عن استمرار فعاليات معرض الكتاب حتى ٧ فبراير . تركيا تعلن أنها لن تشترك فى محادثات قبرص.. قوات إثيوبيا تتدفق على إريتريا. اتساع الخلاف فى التحالف اليسارى بين الشوعيين والاشتراكيين فى فرنسا. الرئيس الأمريكى فورد يقدم ميزانية حكومته للكونجرس متضمنة مبلغ٦٥٩ مليون دولار تحت مسمى مساعدة طوارئ لإسرائيل!!.. سينما بالاس بمصر الجديدة تعرض فيلم (لقاء مع الماضى) بطولة ميرفت أمين وعادل أدهم. الملحن سيد مكاوى مريض ويلازم الفراش. مواطن اسمه عبدالله أبوالعنيين عثر على شيك باسم المواطن عبدالرحمن حسنين محمد- بنك الإسكندرية - به ملبغ كبير ويبحث عن صاحبه. أسعار الذهب وصلت إلى عيار ٢١ يساوى- ٣٣٠ قرشاً.. شركة أوليمبك تعلن عن سخان سعة ٣٠ لترًا بسعر ٥٠ جنيهًا.. ! كانت هذه أخبار القاهرة والعالم فى هذا الصباح.
( القاهرةـ حى الزمالك)
أما أخبار منزل الست أم كلثوم فكانت كالتالى: «عند الساعة السادسة من صباح ذلك اليوم شعرت أم كلثوم بصداع شديد فتم استدعاء الدكتور زكريا الباز الذى وصل بأقصى سرعة ممكنة غير أنه وجدها دخلت فى غيبوبة تامة، وبالفحص وجد نزيفًا فى المخ أدى لاضطرابات فى نبضات القلب ويجب نقلها بسرعة مع كافة الاستعدادات الطبية العاجلة إلى مستشفى المعادى العسكرى، وتم أدخلها فوراً إلى غرفة الإنعاش.. وجاء التقرير المبدئى (ارتفاع مفاجئ فى الضغط أثر على المخ والقلب وظلت فى غيبوبة حتى صباح اليوم التالى).. فى مساء الجمعة حدث تحسن فى الوضع ببطء واستعاد القلب بعض نشاطه.. ثم حدث انخفاض مفاجئ فى عمل الكلى نتيجة ضعف وأنيميا حادة أدى إلى انخفاض عدد صفائح الدم بصورة كبيرة. وصباح السبت دخلت فى غيبوبة تامة استمرت لليوم الثالث.
(المستشفى - بعد ٧٢ ساعة)
عند منتصف ليلة الأحد بدأ الاضطراب فى القلب يظهر على الشاشة وتم دفع المساعدات الطبية للقلب الذى عاد إلى طبيعته بعد ٣٠ دقيقة.. بعد فترة قصيرة حدث تدهور كبير فى الكلى ثم توقفت تمامًا وزادت نسبة البولينا فى الدم.. والضغط ١٣٥/ ٩٠.. الآن بجوارها ١٥ طبيبًا من كافة التخصصات يجتمعون فى حجرتها بصورة دائمة.. (الأطباء قالوا مقاومتها للمرض غير طبيعية.. وما يجرى فى غرفة الإنعاش هو صراع بين العلم والموت).
(المستشفى صباح اليوم التالى)
الساعة الآن التاسعة صباحاً:
القلب منتظم.. ولكن مراكز الأعصاب فى المخ لا تستجيب للعلاج.
الساعة ١١ صباحاً:
الغيبوبة مستمرة دون تحسن على الإطلاق، وذلك لأن مراكز بالمخ قد أصيبت بالشلل التام.، وكافة مراكز المخ ليس لها وجود على شاشات رسم المخ، ومعنى ذلك أن المخ قد توقف عن إصدار أى إشارات للجسم.
الساعة الثالثة بعد الظهر:
الغيبوبة مستمرة والجسد لا يتحرك ولا يصدر عنه أى صوت منذ 72 ساعة.
الساعة الرابعة عصراً:
اضطراب فى نبضات القلب.. والدكتور مصطفى المنيلاوى يقوم الآن بعمل تدليك سريع للقلب وإعطاء حقنة منشطة للجسم.. بعد دقائق تم استدعاء زوجها الدكتور مصطفى الحفناوى (كان يجلس بجوارها بالغرفة ٥٠١) مع محمد دسوقى ابن شقيقتها.. الآن كل شىء فى جسدها توقف تماماً.
الساعة الرابعة والنصف:
بجوارها فى غرفة الإنعاش الممرضة ملازم أول نادية عبدالسلام، تبكى بمرارة شديدة، بينما الممرضة الرائد محروسة على، تقرأ القرآن ثم الشهادتين.. فى هذه الساعة وهذه الدقيقة بالضبط خرج الدكتورعاطف السباعى المسئول الأول عن غرفة الإنعاش ليُعلن للصحفيين الذين يتواجدون منذ أيام حول حجرتها: «القلب توقف تماماً.. الآن أم كلثوم ماتت»! بعد إعلان نبأ الوفاة تم تعزيز قوات الشرطة العسكرية حول منطقة مستشفى المعادى بالكامل بصورة مشددة.. فى ممر الدور الثالث أمام غرفتها كان يقف طاقم حراسة منذ وصولها عدده ٦ أفراد، ورغم هذا الطوق الأمنى شديد الحراسة، اخترقه مواطن كان يعالج بالمستشفى بعدما علم بالنبأ - كان يجلس فوق كرسى متحرك - وجاء مسرعاً يبكى وهو يقترب من حجرتها قائلاً بصوت مسموع: «سمعانى يا ست.. يا خسارة يا ست.. الله يرحمك.. يا ست»!
فيما كانت على مقربة منه فتاة شابة عشرينية تقف بالممر ومعها جهاز تسجيل تتسرب منه نغمات وصوت أم كلثوم وهى تغنى:
«يا حبيبى كل شىء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعد ما عز اللقاء»
وفى النهاية ماتت أم كلثوم.." دنيا"
* الأحداث حقيقية.. السيناريو من خيال الكاتب.
• إعادة نشر مع بعض التعديلات لزوم ما قد يلزم.
الصور:
اللوحة بريشة الفنان الكبير: سامى أمين.
المصادر:
كتاب: أم كلثوم التى لا يعرفها أحد، محمود عوض، طبعة أخبار اليوم / ١٩٦٩
كتاب: شخصيات.. محمود عوض، طبعة دار المعارف- ٢٠٠٦
كتاب: أم كلثوم، عصر من الفن. الدكتورة نعمات أحمد فؤاد/ طبعة دار الهلال / ٢٠٠
الصحف:
الأهرام / الأخبار / الجمهورية.
المجلات:
الكواكب / آخر ساعة / الإذاعة والتليفزيون.