محمد أشرف يكتب: اعتراف ماكنمارا

بعد امتناع البنك الدولي تمويل مشروع السد العالي عام ١٩٥٦ ونشوب حرب السويس على أثر قيام مصر بتأميم قناة السويس مستخدمة إيراداتها في تمويل المشروع ، تحسنت العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية بعد موقف إدارة إيزنهاور الايجابي الرافض للعدوان الثلاثي على مصر ، ثم جرى تعيين وزير الدفاع الأمريكي (ماكنمارا) ليكون رئيسا للبنك الدولي مستهدفا إصلاح علاقة البنك الدولي مع الدول النامية ومصر خصيصا بعد السمعة السيئة التي صاحبته جراء التعنت ورفضه التام للقيام بالمهمة التي خلق خصيصا من أجلها وهي مساعدة الدول النامية اقتصاديا وتنمية مشاريعها التنموية ولا سيما مشروع السد العالي الذي اعترف به البنك نفسه واسماه بعد خمسين عاما بمشروع القرن كأعظم مشروع تنموي هندسي في تاريخ القرن العشرين.
من المعروف أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هما هيئتان دوليتان المفروض فيهما مساعدة الدول النامية على إصلاح أوضاعها الاقتصادية ومدها بالأموال والقروض اللازمة لإقامة مشاريع؛ هذا هو الهدف الظاهري المعلن، ولكن في حقيقة الأمر تؤدي سياسات هاتين الهيئتين لجعل هذه الدول النامية مركزا لاستيراد المنتجات الصناعية الغربية ومقراً للخبرات الاقتصادية الخبراء من الدول الصناعية..
أي أن الوظيفة الأساسية لهما هي ابقاء العلاقة المشوهة التي خلقها الاستعمار القديم لتكون قائمة بين أوروبا وافريقيا (حتى تستمر أفريقيا مصدرا للمواد الخام الرخيصة وسوقا مفتوحا للبضائع المصنعة الأوربية).
وأشير هنا لما ورده وزير الدولة للشئون الخارجية سابقا الدكتور محمد الفايق الملقب بمهندس العلاقات المصرية الأفريقية في كتابه -عبدالناصر والثورة الإفريقية- حول دور هاتين الهيئتين باعتراف -ماكنمارا- نفسه الذي كان مديراً للبنك الدولي..
وسأذكر نصا ما سرده في السطور التالية :
"وقد عرفت من الرئيس جمال عبدالناصر الذي قامت بينه وبين -ماكنمارا- علاقة ود، نشأت عندما كان الأخير، وزيرا للدفاع الأمريكي في إدارة ايزنهاور في أعقاب حرب السويس، وعندما كان موقف هذه الإدارة رافضاً للعدوان الثلاثي عام -٥٦- ثم عين بعد ذلك مديراً للبنك الدولي.. وجاء في زيارة للقاهرة وقابل الرئيس جمال عبدالناصر وبادر (ماكنمارا) قائلاً إنه الآن في موقع يستطيع فيه أن يقدم بعض الخدمات لمصر، وسأل الرئيس عبدالناصر عما يريده من البنك الدولي، وهنا قال الرئيس عبدالناصر : أن مصر تتجه نحو التصنيع وتريد قروضاً لبعض هذه الصناعات.. وأجاب ماكنمارا بكل صراحة موضحاً - أن هذا هو الشيء الذي لا يستطيع أن يقدمه وإلا فقد وظيفته، فهو معين من قبل الدول الصناعية الكبرى، وعليه أن يراعي مصالحها.. وهو إذا ساعد دولة مثل مصر في عملية التصنيع؛ معنى ذلك أنه يضيق من الأسواق المفتوحة أمام هذه الدول وصناعتها، في حين أنه من المفروض أن يعمل على فتح هذه الأسواق أمام منتجات هذه الدول، وأن كل ما يستطيع أن يقدمه من المساعدات يكون للصرف المغطى أو أي مشروعات تنمي الموارد الخام التي تنتجها مصر، أو بعض المنتجات الزراعية أو في إقامة البنية التحتية "........
وقد حرصت هاتان الهيئتان (صندوق النقد والبنك الدوليين) على الالتزام بالسياسة التي رسمتها لها الدول الصناعية الكبرى والرأسماليات العالمية، والتي هي في النهاية تخدم مصالح الدول الصناعية وتجعل الدول النامية والفقيرة مركزاً لنشاطها واستغلالها في مختلف الاتجاهات..
فهاتين الهيئتين كانتا ولا تزالا تحاربان أي اتجاه لإقامة صناعات وطنية كبيرة في الدول النامية، وتوجهها فقط للبقاء كمدر للمواد الخام الرخيصة وسوقاً للبضائع المصنعة في الدول الغربية..
من السذاجة أن يظل الغالبية العظمى من المصريين حتى الآن يصدقوا ان سبب حرب ٦٧ هو سبب أكثر سذاجة غلق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، ولا يدركوا ان حرب ٦٧ لم تكن مجرد حرب بين دولتين اعداء، بل هي حرب ضروس تحالف فيها الغرب ضد مصر بسبب نجاحها في تغيير هذا النمط في العلاقة الاقتصادية بين أوروبا وافريقيا وخشية من أن ينجح النموذج المصري ويتمدد مشروعه الاقتصادي الناجح شرقا وغربا.
ونحن اليوم وأنا شخصيا أتابع عن كثب المؤشرات الاقتصادية الدولية التي تسيل لعاب البعض بأن مصر من أكبر خمس دول ناشئة اقتصاديا ومؤهلة في استيعاب اقتصاديات المعرفة، وفي حقيقة الأمر هذه المؤشرات تكرس بأن السوق المصري باعتباره سوق ضخم هو المؤهل لاستيعاب تطبيقات تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة استهلاكيا، وليس تحقيق قيمة مضافة يحققها الاقتصاد المصري في هذه الصناعة.
وفي المؤتمر الاقتصادي الإفريقي الذي استضافته مصر العام الماضي تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي وفي حضور غالبية الحكام الافارقة أشار سيادته بالدور الذي يجب أن تلعبه مصر لتحقيق جزء من الاستقلال الاقتصادي لدول افريقيا، وحث الزعماء الأفارقة بالتعاون لإيجاد آلية تستطيع من خلالها الدول الإفريقية الحصول على جزء من ربح القيمة المضافة التي تحققه الدول الغربية التي تملك حقوق الامتياز الموارد الإفريقية عملا بمبدأ المنفعة المشتركة ، مشيرا بأن استمرار هذه العلاقة المشوهة الظالمة سيزيد الفجوة التي تعيشها افريقيا امام العالم وسيزيد من معدلات الفقر داخل القارة
(اعرف تاريخك تعرف ذاتك لتعلو الذات ويحيا التاريخ).