"كش برميل" .. عن المناورة السعودية والاستنزاف الأمريكي

"كش برميل" .. عن المناورة السعودية والاستنزاف الأمريكي

بقلم/ ياسر أبو معيلق
مطلع هذا الشهر دخل قرار مجموعة "أوبك+" خفض إنتاج النفط بواقع ٢٫٥ مليون برميل يومياً حيز التنفيذ، ولو أن الخفض الفعلي لن يتجاوز المليون برميل يومياً (بحسب توقعات خبراء المجال).
كثيرون، وخصوصاً في الغرب، اعتبروا هذا القرار دليلاً على اصطفاف المملكة العربية السعودية، الدولة الأكثر نفوذاً في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، والمجموعة الملحقة بها (أوبك+)، مع روسيا في الحرب الأوكرانية، والصراع على الطاقة مع الكتلة الغربية.
لكن .. أعتقد أن الأنظار تركز على الجانب الخاطئ من تسلسل الأحداث هذا. فالسعودية لا تسدي في الحقيقة معروفاً إلى موسكو بقدر كون استفادة روسيا من ارتفاع سعر برميل البترول جراء قرار تخفيض الإنتاج ناتجاً ثانوياً لمناورة سعودية أكبر.
كيف؟ دعوني أشرح ما أراه:
* خلال اجتماع وزراء مالية الدول الصناعية السبع الكبرى وأستراليا في سبتمبر الماضي، تم الاتفاق على تحديد سقف لسعر برميل البترول الروسي، سيدخل حيز التنفيذ مطلع ديسمبر القادم. الهدف من هذا القرار ضرب المدخولات الروسية من صادرات البترول، والحد من قدرتها على دعم حربها في أوكرانيا.
* هذا القرار - رغم أنه يخص روسيا فقط - أطلق صافرات الإنذار في الرياض، التي رأت بعين المستقبل تجلياً لقصة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، وأن هذا القرار، لو تم الالتزام به دولياً، قد يمهد لقرارات مستقبلية مماثلة تستهدف دولاً أخرى مصدرة للبترول، تحت حجج وأعذار مختلفة (ومختلقة).
* هذا القرار يعني للسعودية أيضاً أن تحديد أسعار النفط عالمياً لن يكون بيد "أوبك"، وأن الـG7 تحاول تفكيك التكتل تدريجياً، من خلال إجراءات فردية متدرجة واللعب على ورقة اقتصاداتها الأكبر.
* لذلك، قررت السعودية، بالاتفاق مع أعضاء أوبك وأوبك+، خفض الإنتاج بهذا الشكل الكبير والمفاجئ لإرسال إشارة مفادها: لا تخلطوا سعر النفط بالسياسة... خلوا عنكم القرارات الفردية واتركوا السوق يقرر (كلامهم مش كلامي).
* قرار خفض الإنتاج هذا يحقق هدفاً إضافياً مهماً للسعودية في مرمى واشنطن، وخصوصاً في ظل الحدة السياسية الأمريكية تجاهها: فمن أجل تخفيف وطأة ارتفاع أسعار النفط على اقتصادها، اضطرت الولايات المتحدة للإفراج عن كميات أكبر من احتياطيها النفطي الاستراتيجي إلى الأسواق، بواقع مليون برميل يومياً منذ أبريل الماضي (لاحظ أن الكمية المفرج عنها تساوي التخفيض الحقيقي الذي أقرته أوبك/أوبك+).
* حالياً، بات وضع الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي كارثياً، إذ وصلت نسبة ملء هذا الاحتياطي في أواسط أكتوبر إلى ٥٥٪، وهي الأقل منذ عام ١٩٨٥ (يصل إجمالي الاحتياطي حالياً إلى ٤٠٠ مليون برميل، مقارنة بمتوسط ٧٥٠ مليون برميل منذ عام ٢٠٠٦).
* مما لا شك فيه أن للسعودية مصالح مشتركة آنية مع موسكو، وأنها باتت تتشعب في علاقاتها الدولية، وتدرك أن الاعتماد الحصري على واشنطن يضر أكثر مما ينفع. لكن هذا لا يعني قطع العلاقات بالكامل، لأن ذلك سيعود على الطرفين بالمساوئ.
* أخيراً، يحضرني هنا ما نُقل على لسان الأمير بندر بن سلطان عام ٢٠١٣، عندما كان رئيس جهاز المخابرات السعودي، وسفيراً سابقاً للمملكة في واشنطن، في اجتماع مع دبلوماسيين أجانب في مدينة جدة. آنذاك قال الأمير بندر إن العلاقات الوثيقة بين السعودية والولايات المتحدة، التي دامت نحو ثمانية عقود، باتت في مهب الريح، وإن الوقت قد حان للبحث عن حلفاء استراتيجيين جدد. وها نحن نرى ذلك يتحقق أمام أعيننا.
(حقوق الصورة: AP)