مشيخة الأزهر... رحلة ألف عام من القيادة العلمية والشرعية

مشيخة الأزهر... رحلة ألف عام من القيادة العلمية والشرعية

في رحلة امتدت لأكثر من عشرة قرون، تطورت مشيخة الأزهر الشريف من كونها تقليدًا علميًا قائمًا على الاحترام والتقدير بين العلماء، إلى مؤسسة دينية راسخة تُدار وفق أطر قانونية دقيقة وصلاحيات واسعة، تعكس مكانة الأزهر كمركز ديني وفكري عالمي.

منذ تأسيس الجامع الأزهر عام 361هـ/971م، وحتى أواخر القرن الحادي عشر الهجري، لم يكن هناك منصب رسمي يحمل اسم "شيخ الأزهر"، بل كان يُنتخب أحد كبار العلماء لتولي القيادة الدينية والعلمية، في تقليد يعبّر عن روح الجماعة والاحترام المتبادل بين علماء الأزهر. ووفقًا لما أورده محمد عوض في كتابه "الأزهر.. أي مستقبل ينتظره؟"، الصادر عن وكالة الصحافة العربية، استمر هذا الوضع حتى العصر الحديث، حين بدأ الأزهر يتخذ خطوات أكثر تنظيمًا لتثبيت دوره وتحديد مسؤوليات قياداته.

في عام 1101هـ، وخلال العهد العثماني، تم تعيين الشيخ محمد عبد الله الخراشي كأول شيخ رسمي للأزهر، ليصبح بذلك صاحب أول تجربة رسمية في هذا المنصب، واضعًا اللبنة الأولى في بناء مؤسسة المشيخة. وقد أوكلت إليه مهام متعددة، منها رئاسة العلماء، والإشراف الإداري، والحفاظ على النظام داخل الجامع الأزهر، بما يعكس أهمية الدور الذي بدأ يأخذ شكله المؤسسي تدريجيًا.

شهد عام 1872 ميلاد أول قانون ينظم شروط تولي مشيخة الأزهر، حيث اشترط أن يكون المرشح حاصلًا على شهادة العالمية، وهي أعلى شهادة علمية في الأزهر آنذاك. لم تكن هذه الخطوة مجرد تنظيم داخلي، بل كانت بداية لسلسلة من الإصلاحات الكبرى.
وفي عام 1911، وخلال ولاية الشيخ سليم البشري، صدر القانون رقم 10، الذي ساهم في إعادة هيكلة الأزهر وتنظيم الدراسة فيه، إضافة إلى تأسيس هيئة كبار العلماء، التي أصبحت مرجعية عليا في القضايا الشرعية والفكرية.

جاء عام 1961 ليشكّل علامة فارقة في تاريخ المشيخة، حيث صدر القانون رقم 103، المعروف بـ"قانون تطوير الأزهر"، والذي جعل تعيين شيخ الأزهر بقرار جمهوري، ومنحه درجة وزير، في خطوة تعكس الاعتراف الرسمي بمكانته القيادية. ولاحقًا، تم تعديل هذا القانون في السبعينيات ليُعامل شيخ الأزهر ماليًا بدرجة رئيس وزراء، تأكيدًا لمكانته المرموقة.

يُعد شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر للأمة الإسلامية السُّنية، ووفقًا للقوانين المنظمة، يجب أن يُختار من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية أو من العلماء الذين تنطبق عليهم شروط عضويته، وأن يكون مشهودًا له بالتقوى والورع، وحاصلًا على مؤهل علمي عالٍ من الأزهر، ولديه إنتاج علمي بارز في الدراسات الإسلامية.
ويمتلك الإمام الأكبر صلاحيات واسعة، منها الإشراف الكامل على المجلس الأعلى للأزهر، ورسم السياسات التعليمية والدعوية، وتوجيه الخطاب الديني، والإشراف على المعاهد والجامعات والمراكز التابعة للأزهر داخل مصر وخارجها.

رغم أن مشيخة الأزهر باتت اليوم مؤسسة متكاملة تحكمها قوانين وتشريعات، فإنها لم تفقد روحها التاريخية، ولا رسالتها العلمية والدعوية. فهي لا تزال حاملة لراية الوسطية والاعتدال، ومدافعة عن قضايا الأمة الإسلامية، وممثلة لقيم الحوار والتسامح والانفتاح في عالم تتزايد فيه التحديات الفكرية والثقافية.

من شيخ يُنتخب بالتزكية في أروقة العلم، إلى إمام أكبر يُعين بقرار جمهوري ويقود مؤسسة تعليمية وفكرية عالمية، يبقى الأزهر بشيخه ومشيخته ضميرًا للأمة، ومرجعًا دينيًا وفكريًا لا غنى عنه، يُجدد دوره في كل عصر دون أن يتخلى عن ثوابته الراسخة.