أحمد موسي الهبيري يكتب: هنا القاهرة .. كيف أثرت اذاعة صوت العرب في مقاومة الاستعمار في العالم العربي؟

أحمد موسي الهبيري يكتب: هنا القاهرة .. كيف أثرت اذاعة صوت العرب في مقاومة الاستعمار في العالم العربي؟

أحمد موسي الهبيري يكتب: هنا القاهرة.. كيف أثرت اذاعة صوت العرب في مقاومة الاستعمار في العالم العربي؟؟


 هنا القاهرة .. عبارة حماسية تحمل مشاعر الانتماء للوطن، وكانت من أولى الكلمات التي انطلقت عبر الإذاعة المصرية على لسان أحمد سالم أول مذيع في الإذاعة العربية في إفتتاحها عام 1934، وتم اعتمادها كعبارة رسمية لبدء إرسال كل الإذاعات المصرية التي انطلقت في السنوات التالية. كان للإذاعة المصرية دوراً كبيراً ، فقد جمعت المصريين حولها، وكانت برامجها سبباً فى تشكيل وعى الكثير من الأجيال ، بل كانت شاهداً على مراحل هامة من تاريخ مصر، واشتركت في بعض الأوقات في صناعة تاريخ مصر والمنطقة بأكملها.
       
 بشكل عام، تمثل الإذاعة إحدى الوسائل الهامة لتوسيع الوصول إلى المعارف، وتعزيز حرية التعبير، وتشجيع الاحترام المتبادل والتفاهم بين الثقافات. تعتبر الإذاعة الوسيلة الإعلامية الأكثر نشاطاً والأكثر تفاعلاً مع الناس والأكثر إشراكاً للجمهور، إذ تتكيف الإذاعة مع التغيرات التي نشهدها في القرن الحادي والعشرين وتوفّر سُبلاً جديدة للتفاعل والمشاركة. 
 
  تملك الإذاعة قدرة فريدة على الجمع بين الناس وتيسير إقامة الحوار البنّاء فيما بينهم من أجل إحداث التغيير المنشود، بينما تؤدى مواقع التواصل الاجتماعي في كثير من الأحيان إلى تشتت الجمهور وتشرذم الناس وحبسهم في فقاعات إعلامية مع من يشاطرونهم الآراء. وتعمل الإذاعة على إعلامنا وتغيير أحوالنا عن طريق برامجها الترفيهية والإخبارية، وكذلك البرامج الحوارية التي تُشرك فيها المستمعين.
      
 تعتبر الإذاعة من إحدى الوسائل التي تستخدمها الدولة للدعاية السياسية، والدعاية هي أداة رئيسية من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية لأي دولة. على الرغم من تمكن عدد من الدول من الاستفادة من هذه الأداة مثل ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، إلا أن اذاعة صوت العرب من مصر كانت رائدة في تحقيق الدعاية السياسية والترفيه السياسي.

  مثلت ثورة 23 يوليو 1952 بداية الإذاعة السياسية في العالم العربي. لم تلك البداية الحقيقية للإذاعة السياسية في العالم، ولكنها كانت نقطة البداية للبث الإذاعي للترويج للسياسة الخارجية. تأسست إذاعة صوت العرب في مصر عام 1953 على يد فتحي الديب، وتولى إدارتها أحمد سعيد. 
         
  كان الهدف من تأسيس صوت العرب تنفيذ إحدى مشروعات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو تدعيم القومية العربية، ومطاردة الاستعمار في كل بقعة من بقاع الوطن العربي. تقوم فكرة القومية العربية في سياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على الإيمان بالأمن القومي العربي المشترك، حيث لا يمكن أن يكون الأمن القومي المصري محفوظاً وهناك استعمار فرنسي في الجزائر أو المغرب، أو استعمار ايطالى في ليبيا، أو استعمار بريطاني في الخليج واليمن.
         
  استخدمت الحكومة المصرية الإذاعة في فترة الخمسينات والستينات كسلاح سلمي لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، بالإضافة إلى توحيد جميع المواطنين في الأقطار العربية، حيث تفهمت الحكومة في تلك الفترة أن استعمال اللغة العربية بالمطالب الصحيحة يكون لها تأثير قوي، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لاختيار أحمد سعيد مديراً لإذاعة صوت العرب، حيث كان يمتلك موهبة التحدث الجيد باللغة العربية، وقد لا يمتلك كثير من الناس هذه الموهبة، فبعض الناس قد يجيدون التحدث باللغة العربية، ولكنهم لا يعرفون كيف يستخدمون هذه اللغة لإحداث تاثير كبير. 
        
 بدأت مصر للتخطيط لتأسيس تلك الإذاعة على أساس علمي، حيث أرسلت فتحي الديب، وكان قبل ذلك أحد ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار وتلميذ للرئيس الراحل جمال عبد الناصر في كلية أركان الحرب، إلى جميع الدول العربية لبحث ودراسة كيفية التواصل مع الشعوب العربية دون أي رسميات قد تهدد مصداقية النتائج المترتبة على تلك الزيارات، إذ سافر فتحي الديب تحت اسم مستعار لزيارة المواطنين من الفئات المتوسطة والدنيا دون معرفة الحكومات العربية بذلك، ويوضح ذلك مدى تأثير الرسميات وفساد سياسات التوجيه السياسي على مصداقية الدراسات والآليات التنفيذية التي تستهدف المواطنين بشكل مباشر. 
       
 وقد عاد فتحي الديب بنتائج فعالة، حيث أوضح في تقريره عن هذه الزيارات ضرورة إنشاء برنامج في الإذاعة لتوحيد جميع الأصوات العربية، وكان لذلك البرنامج أثراً كبيراً في توسيع نطاق الرأي العام ليشمل الرأي العام المصري والعربي.
       
 حرصت إذاعة صوت العرب منذ تاريخ إنشائها على مناصرة حركات التحرر من الاستعمار في كافة أقطار الوطن العربي، وقد مثل نفي سلطان المغرب محمد الخامس أبرز تحدى لصوت العرب بعد شهر من إطلاقه. لم يكن السلطان محمد الخامس موالياً لسلطات الاستعمار، ولذلك نفت سلطات الاستعمار السلطان محمد الخامس يوم 20 أغسطس 1953 في جزيرة كورسيكا، ثم تم إبعاده يوم 2 يناير 1954 إلى مدغشقر، الأمر الذي أدى إلى نشوب انتفاضة قوية لأبناء المقاومة ضد هذا القرار. 
          
 إن إذاعة صوت العرب واجهت اختبارًا صعبًا في بدايتها، ولكنها نجحت في هذه المعركة، أخذ برنامج صوت العرب هذه القضية على عاتقه، وشن حملة واسعة النطاق للضغط على الاستعمار الفرنسي، وعمل على توعية الشعوب العربية بها حتى عاد الملك محمد الخامس مرة أخرى إلى عرشه.

  من أبرز حركات التحرر التي دعمتها إذاعة صوت العرب حركة التحرر في الجزائر. عندما اندلعت ثورة الفاتح في نوفممبر 1954 في الجزائر وجدت من صوت العرب المناصرة والتأييد بالكلمة الهادفة والأغنية الملتزمة والأناشيد الحماسية والتعاليق السياسية الموجهة والأحاديث الدينية التى تحض على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله من أجل الحرية والاستقلال والبرامج الخاصة في شتى المناسبات والذكريات التاريخية التى تهم الشعب الجزائري المكافح. وقد تم من خلال اذاعة صوت العرب تلاوة بيان أول نوفمبر 1954 الموجه الى الشعب الجزائري، والذي أعطى الإشارة لانطلاق الثورة المسلحة، حيث علقت الإذاعة في بيانها قائلة: "إن الجزائر قد أعلنت اليوم كفاحاً عظيماً من أجل الحرية والعروبة، وانضم بذلك الى صفوف الكفاح المغاربي".
       
   كانت إذاعة صوت العرب حريصة على دعم المقاومة الجزائرية، وقد بلغ تأثيرها إلى حد ارتفاع عدد المتطوعين من شتى بقاع الوطن العربي للمشاركة في ثورة الاستقلال الجزائري، وقد أثر ذلك بالسلب على مصالح دول الاستعمار، ومن أهمها فرنسا.
       
  لقد كانت دول بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص، إلى جانب دول أخرى، منزعجة جداً من دور إذاعة صوت العرب ضد الاستعمار، حيث كان لديهم من المواطنين في دولهم وفي سفاراتهم من يتحدث اللغة العربية كلغته الأم، ويفهم كل ما يتم اذاعته في صوت العرب، حيث كان يصفون ما يتم إذاعته بأنه مادة شديدة القوة، وربما تكون السبب في حدوث تغييرات في العالم العربي. كانت إذاعة صوت العرب سلاحاً قوياً في وجه مصالح الدول الغربية، حيث كانت تحث الشعوب على الثورة ضد حكوماتهم في العالم العربي، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية لحدوث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
        
  كان الغرض من عدوان 1956 نسف محطة الإرسال الخاصة باذاعة صوت العرب، وكان لذلك صدى واسع في العالم العربي، الأمر الذي حشد الوطن العربي كله ضد العدوان القائم على مصر، ومن أبرز ردود الفعل العربية ضد العدوان أنه بعد إيقاف اذاعة صوت العرب من مصر أعلن المذيع في إذاعة سوريا عبد الهادي بكار "من دمشق هنا القاهرة". إن المقاومة الشعبية للعدوان الثلاثي في مختلف أقطار العالم العربي مثل تفجير المخابرات السورية لخطوط أنابيب البترول كان يحفزها أعمال مثل إذاعة صوت العرب، وبالتالى فان ضرب صوت العرب كان معناه ضرب المقاومة ضد العدوان، وضرب الجهود العربية ضد الاستعمار.
        
  لم تكن إذاعة صوت العرب سياسية فقط، بل اهتمت أيضاً بجانب الترفيه وتنمية الوعي الثقافي العربي. لم تكن صوت العرب مجرد شبكة إذاعية؛ بل كانت بمثابة منبر قومى عربى، وأداة لبث الوعى لدى الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، واكبت كفاح الشعوب العربية، ومعاركها التحريرية، وكانت سلاحاً من أقوى الأسلحة لتوحيدها، وحظيت بكوكبة من ألمع نجوم الإعلام المصرى، والعربى، الذين كانوا بمثابة الأساتذة لكل من جاء بعدهم، فى الأداء الرصين، والثقافة العالية.
        
 إن الاستعمار ليس عسكرياً فقط، بل يتضمن أنواعاً أخرى أكثر خطورة مثل الاستعمار الفكري والثقافي. وقد وعت الدول الغربية الدرس جيداً، وأيقنت أنها لن تستطيع احتلال الوطن العربي بالقوة المسلجة بعد هزيمتها على يد ثوار الوطن العربي بقيادة صوت العرب. وعلى الرغم من ذلك لم تفقد الأمل، بل ابتكرت سلاحاً جديداً، ألا وهو سلاح الثقافة والإعلام، فظلت على مدى أكثر من أربعين عام تضعف جذور الثقافة العربية، وهي الآن تحصد نتاج جهودها، اذ نحجت بغزو معظم دول الوطن العربي دون أن تطلق رصاصة واحدة.
         
  وبناء على ذلك يجب علينا –نحن العرب- أن نعي الدرس جيداً، فإذا كنا واجهنا الاستعمار في صورته المباشرة التى نعرفها ونجحنا في هزيمته، علينا اليوم أن نعرف جيداً أنه يواجهنا في صورة ملتوية. علينا أن نكون متيقظين وأن نصلح من واقع ثقافتنا وأن نجعل الإعلام سلاحاً قوياً في وجه الاستعمار الغربي الثقافي من أجل الحفاظ على القومية العربية.
        
 وعلى المستوى المصري، نجد أن صوت العرب لم يعد لها نفس الدور ولا ذات قوة التأثير التى كانت لها في السابق، بل ليس للإذاعة بأكملها تأثير واضح في تنمية الوعي الثقافي المصري والعربي، ويرجع ذلك إلى عدم وجود اليات تنفيذية محددة للنهوض بمستوى الإذاعة المصرية كما كان في السابق، بالإضافة إلى غلبة التأثير العشوائي لوسائل التواصل الاجتماعي على جميع وسائل الإعلام الأخرى. وعليه يجب على الدولة المصرية أن يكون لديها إرادة حقيقية لتطوير الإذاعة المصرية، وتوجيهها توجيهاً صحيحاً للنهوض بالوعي الثقافي المصري والعربي، والنهوض بدور الإذاعة المصرية في مصر والعالم العربي. 

المرجع: نعيم أمين، أحمد حامد دياب، فيديو.. الفيلم الوثائقي «صوت العرب» عبر شبكة «dmc»، الوطن، 30 يوينو 2021.