الدكتور على الحفناوي يكتب: مع صاحب الجلالة
تذكرت واقعة يعود تاريخها إلى ٥٠ سنة مضت... ففي شهر مايو من عام ١٩٧٣، أتيح لي أن ألتقي بالمرحوم الملك فيصل خادم الحرمين في باريس. لم أكن في هذا الوقت إلا طالبا في مرحلة النهائية بالجامعة غير مهتما إلا بإنهاء مشروع تخرجي حتى أتمكن من بدء ممارسة مهنتي...
في الواقع كانت مناسبة هذا اللقاء في أحد أفخم المطاعم الباريسية (ماكسيم)، هو اصطحابي لوالدي الذي كان مستشارا قانونيا لعدة شركات فرنسية لها أعمال بالمملكة. وكان وزير النقل الفرنسي "جون شامان" قد أعد هذا اللقاء مع الملك بمناسبة زيارته الرسمية لفرنسا ولقاءه بالرئيس الأسبق "جورج بومبيدو"، رغبة من الوزير في تعريف رؤساء الشركات الفرنسية بالملك الزائر.

نظرا لسابق معرفة الملك فيصل بوالدي، الدكتور مصطفى الحفناوي، فقد دعاه للقاء بفندق"الكرييون"، الذي كان يقيم به، والكائن على بعد خطوات من المطعم المعد لاستقبال الملك، قبل الانتقال إليه... ولأني اصطحبت والدي إلى إحدى قاعات الفندق للقاء الزائر الكبير، صمم جلالته أن أبقى معهم لأشاركهم الوليمة المعدة على شرفه بالمطعم. ولم يكن بالطبع لي أي دور في الأحاديث التي دارت خلال هذه الأمسية، ولكنني كنت مستمع جيد لكل ما يقال من الجانبين، فقد كانت إجادتي للغة الفرنسية ذو فائدة كبيرة لي، لفهم رؤية الفرنسيين الحاضرين للعلاقات مع المملكة العربية السعودية، وملاحظة نظرتهم الحقيقية لهذا الضيف الهام لهم... واسمحوا لى أن أقول "نظرة حقد واحتقار مختلطة بالغيرة والطمع".
ولقد استوجب مني هذا اللقاء أن أبحث بعض الشيء في كتب التاريخ لفهم طبيعة العلاقات بين البلدين. وقد لاحظت الآتي:
كانت فرنسا من أول الدول التي اعترفت بقيام المملكة العربية السعودية سنة ١٩٢٦، فور اكتمال غزو قوات آل سعود لكامل الجزيرة العربية، وقبل أن تعلن بنفسها عن قيام مملكتها سنة ١٩٣٢. في حين اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالمملكة سنة ١٩٣١.
- تخللت العلاقات السعودية الفرنسية فترة برود دبلوماسي سنة ١٩٥٦ بعد قيام المشير عبد الحكيم عامر بزيارة رسمية لفرنسا، فقد اعتقد السعوديون أن فرنسا اتخذت موقفا مؤيدا لجمال عبد الناصر ضد التوجه السعودي المناهض للزعامة المصرية للعالم العربي.
لم تتعد رؤية فرنسا للسعودية إطار العلاقات التجارية طوال سنوات طويلة، ولم تبدأ بتغيير هذا التوجه إلا بمناسبة الزيارة الأولى التي قام بها الملك فيصل لفرنسا ولقاءه بالرئيس "شارل ديجول" في ٢ يونيو عام ١٩٦٧. أي قبل النكسة بأيام قليلة.
على الرغم من الارتياح (غير المعلن) من الجانب السعودي لنتائج حرب ٦٧، إلا أن الرئيس الفرنسي ديجول قام بتطبيق حظر تصدير السلاح لإسرائيل بسبب قيامها ببدء العمليات العسكرية ضد مصر. ولم تُظهر السعودية، خاصة بعد مؤتمر الخرطوم، أي رد فعل سلبي أو إيجابي بالقرار الفرنسي.
خارج إطار تبعات نكسة ٦٧، لم تخرج العلاقات الفرنسية السعودية عن إطار العلاقات التجارية إلى أن جاءت صدمة البترول مع حرب أكتوبر ١٩٧٣. واضطرت فرنسا في ظل حكم الرئيس "جيسكار ديستان" إلى اتباع ما كان يسمى بالسياسة العربية لفرنسا التي أسسها ديجول، حتى لا تصاب مصالحها الكبرى في الشرق الأوسط، مع تقديم دعم مستتر لإسرائيل.
انتهت حياة الملك فيصل بالاغتيال عام ١٩٧٥... وإذ أني لم استنتج شخصيا مما شهدته وسمعته خلال اللقاء بباريس، أن تكون أسباب هذا الاغتيال على صلة بالسياسة الدولية – كما يعتقد البعض – لكنني أميل إلى تصديق أنه قد اغتيل لأسباب لها علاقة بالصراع على السلطة داخل بيت آل سعود.
لقد أحب بعض المصريين الملك فيصل، وكرهه البعض الآخر... ولكنه في النهاية كان من أكثر حكام المملكة تميزا.