فى ذكرى الرحيل.. لويس "جميل".. وسناء "جريس!

فى ذكرى الرحيل.. لويس "جميل".. وسناء "جريس!
بقلم الأستاذ / خيري حسن
" النهار بيطلع بعد ليل ويمر
والأيام بقى طعمها مر
وأنا مستني علي تمر
حبيبتي قلبي
الحلوة..سناء "
...............
( صعيد مصر - ١٩٨٥)
كلمات كنت أسمعها، وكأنها موال حزين مؤلم، تكشف حروفه عن جرح ينزف داخل قلب صاحبه ولم يندمل. كان يغنيها رجل اسمه الحقيقي "محمود" لكنه عرف وسط الأهالي باسم (الدرويش العاشق) عمره تعدى الخمسين عاماً. طويل القامة، ضعيف البصر، لحيته طويلة، ويرتدي جلبابًا مهترئًا، وفوقه بالطو أسود رث الشكل، لا يخلعه لا صيفاً ولا شتاءً. وفي يده عصا صغيرة، يمسكها، ليضرب بها يده الأخرى بقسوة شديدة. يجلس على جذع نخلة عتيقة مائلة بعض الشيء، على ضفة ترعة كبيرة، كانت تربط ما بين قريتنا في شمال صعيد مصر وقرية أخرى تبعد عنها مسافة ليست قليلة.
•••
( القرية - ظهيرة ذات شتاء)
على مقربة منه كان يأتي رجل عجوز اسمه "دياب" كل صباح، وفي يده رغيفان من الخبز الرديء، وقطعتان من الجبن البلدي القديم الذي يسرح في القلب منه الدود. والقليل من السكر والشاي.
يبدأ الرجل يشعل النار، لعمل "براد" شاي ساخن وقاتم وطعمه مر. ويذهب به في كوب بلاستيك. والطعام في يده، ليضعهما بجوار "الدرويش العاشق"، ويغادر المكان في هدوء.
والدرويش- في العادة- يرمقه بنظرة حادة، ثم يلقي بوجهه الشاحب إلى الناحية الأخرى، بعدما يكون قد مد يده وأمسك بقطعة الخبز وكوب الشاي بفرح وسعادة.
يتركه عم "دياب" وهو يودعه بكلمات باردة معتادة، أما الدرويش فلا يرد عليه؛ لكنه أحياناً يبادله ابتسامة عاجزة، بلا معنى، أثناء جلوسه على جذع النخلة المائل. وعلى فترات متباعدة، يترك الجذع ويترجل على الترعة ذهاباً وعودة، بخطوات مسرعة. وعيونه تائهة، ولسانه لا يتوقف عن قوله المعتاد الذي ينتظر معه "سناء" ويحفظه أكثر من اسمه!
•••
( نفس المكان - بعد عام)
وذات يوم جلست إلى العم "دياب" أسمع منه حكاية الدرويش العاشق. قال وعلى وجهه ملامح حزينة: منذ سنوات عديدة أحب هذا الذي تراه أمامك، فتاة جميلة من القرية المجاورة، وكانا يلتقيان بجوار جذع هذه النخلة التي كانت تسقط عليهما رطباً جميلاً. وكان للفتاة أخ متعجرف وقاسي القلب، أصابه الكبر ورفض أن تحب أخته هذا الشاب الفقير. وذات يوم تربص بهما، ومعه ثلاثة من أبناء عمومته، وانتظروا تحت النخلة، وعندما وصلوا أخذوه عنوة، وأوسعوه ضرباً، وألقوا به في مياه الترعة الآسنة. وبعد دقائق أخذوا الفتاة، إلى مكان مجهول، واختفت منذ ذلك التاريخ ولم تظهر بعد. وقيل وقتها إنهم جاءوا بها في جنح الظلال بعدما قتلوها، ودفنوها تحت جذع النخلة نفسها، لتكون شاهداً على القتل، مثلما كانت شاهداً على الحب.
أما الشاب "محمود" فعثر عليه أحد المزارعين في حالة إغماء تام، وفاقداً للوعي لساعات، والذاكرة لسنوات. بعدها ظهر في هذا المكان، ولا يغادره، وكأنه في انتظار، من لن يعود أبداً.
•••
( القاهرة - ٢٠٠٦)
ظلت قصة الحب تلك عالقة في ذهني لسنوات طويلة، وعندما التقيت بالكاتب الراحل لويس جريس في بيته بحي جاردن ستي، حكيت له قصة الغرام والانتقام والجنون التي كانت بين "محمود" و"سناء" حتى أعرف منه.. هل يفعل الحب بنا، ما فعله في هذا الشاب، لدرجة جعلته يعيش بلا عقل؟ يومها اعتدل. وقال وهو يضحك: "ولكنني لم أفقد عقلي بسبب حب سناء... يا خيري أفندي" (قالها وهو يضحك بشدة ) مثل بلدياتك الذي تتحدث عنه!
قلت: وهل في الحياة حب، يستطيع أن يفعل بصاحبه كل هذا الجنون والعشق؟
رد قائلاً: " نعم.. الحب يصنع المعجزات. الحب يقلب الليل إلى نهار. والظلام إلى نور والعقل إلى جنون.. وأنا عشت هذه التجربة مع الفتاة التي كان اسمها" ثريا يوسف عطالله" الشهيرة بالفنانة سناء جميل، أحببتها عندما رأيتها صدفة عام ١٩٥٩ في دار عرض سينما بشارع سليمان باشا ـ طلعت حرب حالياً بوسط القاهرة - عندما لمحتها تخرج من العرض ويلتف حولها الجمهور. ولم أكن أعرف يومها من هي؛ إلا عندما قال لي صديق: "هذه ممثلة اسمها "سناء جميل"! ومر على هذا اللقاء فترة كنت معتقداً أنها مسلمة وأنا قبطي. وقتها اتخذت قراري، بأن اختلاف الدين لن يمنعني من حبها، ولو استدعى الأمر سأشهر إسلامي للزواج بها. قلت: إلى هذا الحد جرفك تيار الحب؟ قال: "اجتاحني وزلزل كياني، وأفقدني عقلي تماماً، وأصبح قلبي هو الذي يقرر مصير حياتي وفي مطلع الستينيات شاء القدر أن ألتقي بها مرة أخرى في حفل لا أذكره الآن. يومها تعرفنا وفي نهاية السهرة قالت لي: "معاك ثلاثة تعريفة" - وكانت ثمن المكالمة التليفونية حينذاك "- قلت: نعم. قالت:" اكتب هذا الرقم ٢٠١٤٨" - هذا تليفوني - وسأنتظرك نتحدث في الصباح.
ومنذ ذلك الصباح وأنا أتحدث معها"! قلت ولكنها ماتت منذ سنوات. رد وفي عينيه دمعة حائرة: " لكنها لم تمت في قلبي". قلت: وماذا كنت تقول لها وهي على قيد الحياة. رد: "لم أكن أتحدث إليها كثيراً.. فقط كنت أنظر إلى وجهها الجميل، حتى يرتاح قلبي وتصفو نفسي، وتطمئن روحي".
قلت: أنت الذي تعلمت في الجامعة الأمريكية وسافرت إلى أمريكا عدة سنوات وعملت في بلاط صاحبة الجلالة.. كيف وقع قلبك على قلب فتاة- بمقاييس الجمال- يراها البعض عادية؟ ابتسم بشدة، وقال:" الحب ليس له علاقة بجمال الوجه والجسد. الحب له علاقة بجمال الروح. وسناء كانت روحها متقدة ومتفردة، لا تهدأ أبداً.. روح فيها حياة"!
•••
( القاهرة - جاردن سيتي)
حديثي معه أوشك على الانتهاء عندما وجدته فجأة يسألني وأنا أودعه، قائلاً: " لكنك لم تقل لي.. ما النهاية التي انتهت إليها حياة "الدرويش العاشق) في قريتك؟ قلت: عدت بعد سنوات للقرية وبحثت عنه في نفس المكان، فلم أجده، ووجدت جذع النخلة لم يبق منه؛ إلا بقايا أصابها العفن. ومن بعيد لمحت شاباً قادماً، اقتربت منه وسألته عن العم "دياب" الفلاح العجوز، الذي كان يجلس في هذا المكان. رد متأثراً: " مات.. منذ سنوات وأنا ابنه "محروس" قلت: وأين (الدرويش) الذي كان يجلس على جذع النخلة؟ رد وهو ينظر إلى مكانه: بعد رحيل أبي.. اختفى وترك مكانه وذهب ولم نعد نراه". هز لويس جريس رأسه، وقال: "أظنه ذهب إلى حبيبته.. فلم يعد لديه القدرة على الانتظار"!
خرجت من بيته المواجه للنيل، وترجلت على الكورنيش القريب، فوجدت فتيات وفتيانًا يجلسون على ضفافه؛ وتشير ملامحهم البريئة، وعيونهم الحالمة، وقلوبهم النابضة بالحب عن عشاق جدد، قد يظهر من بينهم ذات يوم "درويش" جديد، يغنى- للحب أغنية، مثل التي غناها الشاب "محمود" عندما أحب "سناء" ومثل التي غناها لويس جريس مع الراحلة سناء جميل...
هكذا يكون الحب..
ليل ونهار..
سفر وانتظار..
وهزيمة وانتصار
وكلها أيام... ( بتمر) !
خيري حسن
الأحداث حقيقية.. السيناريو من خيال الكاتب.
------------------------------------------------------------------------
الصور :
لويس جريس
سناء جميل
لويس عوض