صالح مرسي.. رائد أدب البحر

صالح مرسي.. رائد أدب البحر

ولد صالح مرسى في السابع عشر من فبراير العام ١٩٢٩م، بمدينة كفر الزيات التابعة لمحافظة الغربية شمال مصر. اهتم في صغره بالقراءة والمطالعة، ووجد ضالته في مكتبة زوج خالته الضخمة، وكان يقضي معظم أوقات فراغه فيها.

التقى صالح بأول قارئ له عام ١٩٣٧م، بمقر إقامته في مدينة كفر الزيات، وكان جنديا مرابطا مكلّف بحراسة مخبأ مجاور لبيته، وكان هذا الجندي يستمع بشغف واهتمام لأول قصة كتبها الأديب الصغير بعنوان "الأسد المرعب".

وكانت له تجارب مع التمثيل وهو في سن الطفولة، حيث قدّمه الفنان سعيد أبو بكر (مفتش التمثيل في مديرية الغربية آنذاك) إلى جمهور محافظة طنطا، في دور رئيسي في مسرحية "البخيل" للأديب الفرنسي موليير.

كان صالح خلال سنوات طفولته المبكرة طفلًا مشاغبًا ومشاكسًا لا يتوانى عن العراك العنيف مع الجميع دون استثناء، وبلغ به الأمر حد التدخين في تلك السن رغم تحذيرات والده، مظهرًا بذلك نزعة تمرد على كثير من القيم الاجتماعية، والصدام المباشر مع والده كان يوم عاد من المدرسة الثانوية، فوجد أن هذا الأخير قد مزّق وبعثر في غضب كل المحتويات التي ضمتها غرفته الصغيرة من كتب ومجلات، ولم يستثنِ حتى مذكرات صالح التي كانت لها مكانة خاصة في عالمه الصغير.

وكان والد صالح يرى أن هذه الكتب عائق عن متابعة الدروس المعتمدة في المنهج الدراسي، وتقف عقبة أمام نجاح مساره التعليمي، ولكن هذا التصرف أدى إلى دخوله في مواجهة مباشرة مع ابنه، وكان لذلك ارتدادات مهمة في مسيرة حياة صالح بعد ذلك.

وأولى القرارات التي اتخذها صالح مرسي وهو في هذه المرحلة العمرية كانت إعلام عائلته بترك الدراسة، الأمر الذي كان كارثة هزّت أركان الأسرة، فقامت بمساعٍ عديدة لإثنائه عن هذا القرار.

وعند بلوغه سن الـخامسة عشر كان قد أنهى قراءة روايات عدة وكتب عالمية، لأدباء مثل: ديستوفسكي وتولستوي ودي ماس، إضافة إلى متابعته لأعداد مجلة "دنيا الفن" التي كانت تنشر دراسات ميسّرة عن المسرح.

وإمعانًا منه في تثبيت شخصيته المتمردة؛ طلب الدخول إلى المدرسة المهنية (مدرسة الصنايع بالدارجة المصرية)، حيث اكتشف الطبقية والفوارق الثقافية بين أبناء المدارس الثانوية وأبناء "الصنايع"، مما زاد من شعوره بالنقص والغبن، علاوة على تركيبته النفسية المتمردة، الأمر الذي دفعه إلى محاولة تغيير الوضع.

وفي العام ١٩٤٩م، وهو ابن الثامنة عشر قرر التطوع في البحرية المصرية كمساعد مهندس بحري. لكن تلك التجربة في مسيرة صالح مرسي زادته ما أسماه "الصدمات"، إذ لم تكن طواقم السفن التي عمل على متنها سوى نماذج مصغرة من المجتمعات التي انحدرت منها بمختلف عاداتها وسلبياتها، ومن ثم فإن هربه من اليابسة إلى البحر لم يكن ذا جدوى من الناحية النفسية، لكنها في المقابل كانت تجربة ثرية أضافت إلى زاده الفكري والمعرفي الشيء الكثير؛ قرأ مرسي في هذه الفترة أهم الكتب العالمية المعنية بالفلسفة، خاصة عن طريق سلسلة منشورات "كتابي"، التي كان يصدرها الكاتب حلمي مراد في أربعينيات القرن الماضي.

بدأ صالح رحلته مع الكتابة والتأليف في آخر ثلاث سنوات قضاها في البحرية، وفي عام ١٩٥٦م، عاد إلى القاهرة ليستأنف دراسته الجامعية ويحصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة من كلية الآداب بالقاهرة، وكوّن فرقة تمثيل بصحبة زميل الدراسة حسين قنديل -(ممثل مصري عرف الشهرة في الخمسينيات)- وعبّر من خلالها عن مواقفه السياسية دون الانتماء لأي تنظيم حزبي.

وبالتوازي مع الدراسة عمل مرسي في مجال الصحافة، وتحديدًا بمجلة صباح الخير ليبدأ مشروعه الوطني في الخروج إلى النور، انتقل مرسي إلى مجلة الهدف والرسالة الجديدة والمصوّر، حتى انتهى به المطاف في مؤسسة "روز اليوسف".

 نشر صالح مجموعته القصصية الأولى "الخوف" بمجلة صباح الخير، وتم ترشيحها لجائزة الدولة، إلا أن الكاتب الكبير عباس العقاد رفضها، أجزاء"زقاق السيد البلطى"، والتي نالت إعجاب نجيب محفوظ، كما نشر رواية بعنوان "البحار مندى"، لكنه لم يستمر بالكتابة في هذا العالم، لينتقل إلى عالم القاهرة المزدحم، ليعمل كجرسون في مقهى بحي السيدة زينب، لكتابة رواية "الكذاب".

وفي أواخر سبعينيات القرن العشرين دخل صالح مرسي عالم أدب الجاسوسية، وكانت البداية بمسلسل إذاعي مقتبس من ملفات المخابرات المصرية، يروي قصة جاسوس يعمل لصالح الموساد بالقسم الإداري للمؤتمر الأفروآسيوي.

لكن بداية صالح الفعلية مع "دراما الجاسوسية" كانت عام ١٩٧٨م، ومثلت فرصة للدراما المصرية لتقديم أعمال عن الجاسوسية المرتبطة بالعدو الإسرائيلي، إذ مثّلت منطلقًا للأعمال المرتبطة بالصراع المخابراتي المصري الإسرائيلي من خلال روايته الشهيرة "الصعود إلى الهاوية"، والتي قدمت في البداية لمسلسل إذاعي، قبل أن يحوّلها المخرج كمال الشيخ إلى فيلم سينمائي.

ثم نشر مرسي رواية "دموع في عيون وقحة" على صفحات مجلة المصوّر، تحوّلت إلى فيلم تلفزيوني عام ١٩٨٠م، وهو مسلسل يقدم شخصية "جمعة الشوان" واسمه الحقيقي (أحمد الهوان)، وهو شاب من أسرة يسيرة يُعيل والدته وزوجته الكفيفة، ويعمل في ميناء السويس، ويسعى جهاز الموساد لتجنيده قبل أن يسارع البطل المصري بتبليغ جهاز المخابرات المصرية، التي وضعت مخططًا لخداع العدو استمر ستة أعوام.

عاد مرسي لدراما الجاسوسية من خلال مسلسل «رأفت الهجان»، والذي تم عرضه على ثلاثة أجزاء؛ قدم الجزء للأول عام١٩٨٨م، وقدم الجزء الثاني عام ١٩٩٠م، والثالث عام ١٩٩٢م. وفي أحد حواراته الصحفية عن هذا المسلسل قال مرسي: أنه نُشر كحلقات مسلسلة في مجلتي المصور والشرق الأوسط قبل أن تتحول لمسلسل تليفزيوني، معربًا عن ترحيبه جدًا بتحويلها لمسلسل حتى تصل للجميع، وكان سعيدًا جدًا بحالة الوطنية التي أثارها المسلسل.... وأنه قابل «عزيز الجبالي» ضابط المخابرات الحقيقي المسؤول عن تجنيد رأفت الهجان، للحصول على أكبر معلومات عنه ولإنجاح الرواية".

وأضاف أنه قرأ كثيرًا في أدب الجاسوسية حتى يتمكّن من إظهار الأعمال بإتقان، وأكّد أنه شعر من خلال قراءته لقصة رأفت الهجان الحقيقة بحبه الشديد لمصر، ولمس نقاط القوة والضعف في شخصيته.

وذكرت زوجة صالح مرسي أنه أثناء اطلاعه على وثائق تخص عملية رأفت الهجان "خرج من مكتبه باكيًا لشدة تأثره بالملحمة التي خاضها هذا البطل المصري في صمت مدة ٢٠ عامًا".

وكان النجاح الجماهيري العربي الذي لقيه أول أعمال صالح في مجال الجاسوسية، وشعور ضباط الأجهزة الأمنية بأن ملفاتهم البطولية في يد صالح "الموهوبة" خاصة، جعلتهم لا يبخلون عليه بالمعلومات الكافية لتقديم دراما جيدة.

فعرض عليه كتابة عملية «الحفار» كرواية، فأثار ذلك مخاوف «مرسى» بحسب تصريحات صحفية له قبل وفاته، وعلل ذلك بأن أغلبية كتابات الجاسوسية إما وقائع تسجيلية، أو خيال مطلق، ولكنه قرر خوض التجربة، وكانت شاقة جدًا خصوصًا بعد مقابلته لأبطال العملية الحقيقيين، والتحدث معهم عن تفاصيل العملية الحقيقية.

وعن عملية "الحفّار"، حفار بترول "كنتينغ"، اشترته إسرائيل بعد هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧، واحتلال سيناء من قِبل القوات الإسرائيلية للقيام بمهمة التنقيب عن البترول في سيناء وكانت تديره شركة اينى الإيطالية.

كان ذلك بهدف إظهار السلطات المصرية بمظهر العاجز أمام ما تقوم به إسرائيل، وهو ما دفع المخابرات المصرية للتخطيط من أجل التعامل مع الحفار قبل وصوله إلى مضيق باب المندب، حيث نجح المصريون في تفجيره في الثامن من مارس عام ١٩٧٠م، بعد إعداد للعملية استمر عاماً كاملاً، وكان ذلك أثناء توقفه في أبيدجان عاصمة ساحل العاج أثناء رحلته من كندا إلى إسرائيل، مانعة الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ خطتها الرامية لنهب الثروات البترولية وفرض سيادة أكبر على سيناء المحتلة آنذاك.

وأشرف على هذه العملية مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق أمين هويدي، بينما ترأس قيادة العملية ضابط المخابرات الشهير محمد نسيم وساعد فريق العملية السفير المصري في أبيدجان. وبيع خردة بعد ذلك في ميناء "تيمة "بغانا في ساحل العاج.

تُوفي صالح مرسي في الثامن عشر من أغسطس/آب عام ١٩٩٦م، عن سن ٦٧ عامًا، أثناء قضائه إجازة بالساحل الشمالي متأثرًا بأزمة قلبية مفاجئة.

ولم يقتصر نقل إبداعات مرسي بعد رحيله على إنتاجاته الخاصة بالمخابرات العامة وعالم الجاسوسية، بل تنوعت إبداعات مرسي الباقية، فقام السيناريست محمد الباسوسي عام ٢٠٠٢م، بتحويل قصة "البحار مندي" إلى مسلسل درامي، وقام مجدي صابر باستخدام كتابه عن الأيقونة ليلى مراد، إلى مسلسل "أنا قلبي دليلي".

كما قام السيناريست بشير الديك بتحويل قصة صالح مرسي "الحفار" إلى مسلسل تليفزيوني، نقل خلاله للجمهور العام بطولة جهاز المخابرات العامة المصرية في العاصمة السنغالية داكار، وفي عام ٢٠٠٩م، نقل بشير الديك أيضا رواية صالح مرسى "حرب الجواسيس" إلى مسلسل تليفزيوني.

  • ومن أهم مؤلفاته أيضا: "خطاب إلى رجل ميت" عام ١٩٦٧.
  • فيلم "الكذاب" عام ١٩٧٥.
  • "الذين يحترقون" عام ١٩٧٧.
  • "السير فوق خيوط العنكبوت".

 

عاش مرسي أغلب فترات حياته في ٢١ شارع عمر طوسون بالمهندسين، وعلى واجهة العقار وثق جهاز التنسيق الحضاري منزل رائد أدب الجاسوسية، من خلال وضع لافتة لمشروع عاش هنا، لتشهد على بقاء إبداعات مرسي خالدة في قلوب المصريين وهي تروي قصة بطولاتهم التي لا تنسى ابدأ.

 

المصادر

مجلة روز اليوسف.

جريدة الأهرام.