المُثقف الغريب «مالك بن نبي» 

المُثقف الغريب «مالك بن نبي» 

«لكي لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار». 

كان «بن نبي» يؤمن أن أي سياسة تحرير لا تبدأ ببناء الإنسان وتثقيفه وتعزيز وعيه ما هي إلا «نطحة» في جدار صلب، فبناء الانسان أسبق من أي تشييد مادي في المشوار الحضاري، هكذا كانت الرسالة الأسمي المفكر الجزائري الكبير، الذي قضي حياته يبحث في مشكلات الحضارة وسلوكها قبل وسائلها، ومحاولة هندسة الأفكار، سعياً لنهضة أمته، ورفعة مستقبلها، أو كما جاء علي حد قوله أتيت في أول الحقبة لأكون شاهداً عليها، إذ يتصل فيها وعيه بالماضي كآخر شهوده، وبالمستقبل، كأوائل ضائغيه، وربما من هنا جاءت مذكراته «شاهد علي القرن» 

إن الحديث عن «مالك بن نبي» يُعني بالضرورة الغوص في أفكاره وتلك المفاهيم و النظريات التي ارتبطت بإسمه ومضامينها التي تُجسّد عصارة ما أنتجه وعيه كمثقف عاين مرارة الاستعمار، من مشاريع فكرية عميقة، بلغ عددها نحو أربعة وثلاثون عملاً،  تناول من خلالها مشكلات الحضارة وناقش مفاهيم «القابلية للاستعمار»، و«شروط النهضة» و«عالم الأفكار وعالم الأشياء» وغيرها. 
 
هذا التفرّد الذي وضعه بمعزل عن التنصيفات الأيدلوجية التقليدية، فهو المفكر الاسلامي المرفوض من الاسلاميين لأنه أيد ثورة الضباط الأحرار، في ذروة الصدام الذي إنبثق بينها وبين جماعة الإخوان،، كما لم يخف اعجابه بالنموذج الشيوعي الصيني المُعادي للاستعمار، وإن كتب بتأيد وإعجاب شديد عن ماو الثقافية، ومع ذلك فهو ليس يسارياً، بل ظل منبوذاً بينهم لارتباطه بالتراثية الدينية، والعجيب هنا انه أيضاً لم ينل رضي المؤسسة الدينية الاصلاحية، وهكذا عاش مالك بن نبي في «غربة فكرية» واستمر تلك الغربة حتي بعد وفاته عام ١٩٧٣، فلم يترك بعده لاحزباً، ولا جماعة تؤسي لأفكاره،، اللهم إلا بعض تلاميذه ومُريديه، في شتي بقاع الأرض، تختلف إنتماءاتهم ربما حد التناقض، الأمر الذي يعد من المفارقات المدهشة في مسيرة مالك بن نبي حتي بعد رحيله.

ولد المفكر الكبير «مالك بن نبي» في مدينة قسطنطينية شرق الجزائر، عام ١٩٠٥م، لأسرة تعاني الفقر المُدقع، إثر الاستعمار الذي تكابده بلاده في ذلك الوقت،، كان لجدته المُعمرة تأثير في تشكيل وعيه المُعادي للإستعمار، بالإضافة إلي اضطلاعه علي بعض المعارف من التراث الاسلامي، والتي أمده بها شيوخ المدينة الذين تأثر بهم، فضلاً عن قراءته الأدبية والفكرية من خلال دراسته في المدرسة الفرنسية الإسلامية، التي درس فيها باللغتين العربية والفرنسية، فدرس الآداب الأوربية وعلم الاجتماع وعلوم الدين والفلسفة، والتي مكَّنته فيما بعد من التحليل الدقيق لأزمات بلاده والبحث عن جذوره، وقراءة الواقع الاجتماعي بعقل نقدي، وآفاق علمية وأدبية واسعة. 

أتمَّ مالك بن نبي دراسته الثانوية ثم سافر إلي فرنسا لدراسة الهندسة الكهربائية،، ولا شك أن كان لهذا التخصص تأثير علي طريقة تفكيره، وتناوله للواقع بتحليل مختلف، كما تعرف عن قرب خلال رحلته العلمية، علي النشاط السياسي والثقافي للمهاجرين المغاربة في ذلك الوقت،، وألهمته تلك التجربة في البحث في الاشكاليات التي وهَّنت روح الأمة، وبدأ إثرها في كتاباته الأولي والتي كان نتاجها الأول هو «الظاهرة القرآنية»، وعمل أدبي وحيد في مسيرته هو رواية «لبيك»،، ثم تناول شرع بعدها في كتابة مشروعه الفكري الكبير «شروط النهضة»، و«وجهة العالم الإسلامي». 

ومن الفارقات العجيبة في حياة مالك بن نبي أن تأسيسه الأول كمفكر إسلامي كان في «نادي اتحاد الشباب المسيحين»، فمن خلال مخالطته لزملائه الأوربين المتنوريين، غُرسَّت في نفسه الكثير من القواعد الفكرية المنطقية، وخرج منها بمكسبين عظيمين علي حد وصفه، في إحدي كتاباته، هاذين المكسبين هما وعي بالعلم الغربي ووعي بالروح المسيحية، هذا الوعي غيّر من طباعه ودفعه للسعي لتطوير عقله لمحاولة استيعاب علوم الغرب والقيم الروحية المسيحية. 

فخرج لنا «مالك بن نبي» برؤية شديدة العمق، وإستشرافية المعاني،، رجل رأس ماله هو «الدين»، ذلك الأصل الأصيل في ثقافة الأمم الذي مكَّنته قوة فهمه له من كبح الجموح، ورد الزيغ والضلالة والهوي، وتفردت رؤيته وقت طرحها جذور النهضة، وسٌبل وصول العالم الاسلامي إليها، ولُقّب بـ«حامل عقيدة وحدة شمال إفريقيا» وفقاً لما وصفه به المفكر المغاربي الكبير «محمد الفاسي» آنذاك. 

ثم جاء «مالك بن نبي» إلي مصر عام ١٩٥٤، وبارك ثورة ٢٣يوليو، وقدّر نجاحها في الخروج بمصر من سجن الأفكار الغربية، بل واعتبرها «بداية بناء العالم الإسلامي»، حيث شكَّلت بالنسبة له رفضاً صريحاً لفكرة «القابلية للاستعمار»، وبداية حقيقية للتغير،، وفي عام ١٩٥٦م، صدر كتابه الهام «فكرة الإفريقية- الآسيوية»، والذي نشر بعناية القيادة السياسية في ذلك الوقت، بل وتولي صديقه «كمال الدين حسين» أحد الضباط الأحرار، إدارة العديد من الحوارات حول الكتاب في الاذاعة المصرية عام ١٩٦١م. وتناول الكتاب مؤتمر باندونغ الذي كان النواة الأولى لحركة عدم الانحياز، والذي تبنى عددًا من القرارات لصالح قضايا الدول العربية وضد الاستعمار، وتطرق إلى الاحتلال الصهيو*ني وأسباب غرسه في قلب العالم العربي،، كما تبني الكتاب نبذ العنف ودعي للتعايش السلمي بين الثقافات والأجناس العربية والإفريقية، والسبيل منها لبناء حضارة عالمية.