الفرانكو البريء!

الفرانكو البريء!

بقلم/ بيير بهجت

الفرانكو هو أداةُ كتابَةٍ عصريَّةٍ بدأَ تَدَفُّقُها في مطلعِ الألفِيَّةِ الثانية بينَ الشبابِ يُمْكِنُ تعريفُهُ بأنه لُغَةٌ تعبيريَّةٌ بالحروفِ الإنجليزية والأرقام لنطقِ الحروف العربية. وبعيدًا عن الأكاديميا والتعريفات والرسميات؛ المثال هو خيرُ دال: إذا وددت كتابة كلمة كـ"حبيبي" تقوم بكتابتها هكذا: "habibi" أو "7abibi". هوجِمَت - - ولا زالت تُهاجَمُ - تلك الأداةُ العَصْرية للتعبيرِ اللغوي بالكثيرِ، متهمينها أنها سببُ أو من أسبابِ انحطاطِ اللغةِ لدى الشبابِ والأطفالِ أو أنها صفعَتْ الشبَّانِ بآفَةِ شيوع أخطاءِ الإملاءِ. في مقالِنا هذا، نقتربُ لتلك الاتهاماتِ لنحللها وللعزيزِ القارئِ أمنياتي بقراءَةٍ هَنِيَّةٍ.

أَوَّلُ ما يُباغِتُ عقلي بالسؤالِ: "ما هو السياق الذي تُسْتَخْدَم فيه هذه الطريقة في الكتابة؟" مِنَ المعروفِ أنَّ مَنْ يَسخْدِمُ طريقة الكتابة هذه إمَّا تكون في رسائِل نَصِيَّة، أو على وسائل التواصُل الاجتماعي، إلى آخِرِه مِمَّا هُوَ غير رسمي... فأنتَ لا تَتَكَلَّمُ مثلًا عن امتحانٍ، أو مَنْهَجٍ دراسيٍّ مكتوبٍ بتلك الحروف، أو حَتَّى رسالة رَسْمِيَّة في نطاق العَمَل.

إذن، هُنا يَكْمُن أول دليلٌ قاطِعٌ عَلَى عَدَمِ تأثُّرِ اللغَةِ بهذا النَوْعِ مِنَ الكتابة ألا وهو أنَّ المُجْتَمَعَ مقْتَنِعٌ تمامًا أنها ليست تلك هي اللغة ولا يُمْكِنُ استخدام هذا "الفرنكو" إلا في سياقاتٍ غير رسمية (كاعترافٍ ضمنِيٍّ أنها ليست طريقة الكتابة الرسمية).

ثانيًا: مَنْ المُسْتَخدِمين؟

أنتَ لا تتكَلَّم عن طِفْلٍ ذي ٥-٦ أعوام لا يستطيع أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حروف اللغات وسينتهي بِهِ الأمر أن يَنْسَى حروفَ اللغِةِ الأصْلِيَّة. أنتَ تَتَكَلَّم عَنْ أطفالٍ ذوي عُقولٍ مُمَيِّزَة في سن التاسعة أو العاشرة لسانهم عربي أصلًا وينطقونها بسلاسَةٍ ويُسْرٍ بَلْ حافِظون أيضًا حروفها الأصلية عَنْ ظهر قَلْبٍ. فما الذي سيصيب "حروف اللغة" في عَقْلِ حَتَّى الطفل الذي في التاسِعَةِ مِنَ العُمْرِ إن كَتَبَ بتلك اللغة؟ هل سينسى حروف العربية الأصيلة؟ أو سيُبْدِلُ في اختبارِ العربيَّة بين الألف والA؟  

ثالثًا: ما الذي يُهَدِّدُه هذا النَمَطُ مِنَ الكتابة بالفِعْلِ؟

علينا أيضًا لكي نُقَيِّمَ أن هناكَ مُشكِلَة فعليَّة أنْ نَدْرِسَ مخاطِرها. فالسؤال هنا: ما هي الخطورة أَنْ أكتُبَ "أرنب" هكذا أو هكذا: "2arnab"؟

  • إن كانت المشكلة هي أن اللغة ستُشَوَّه فقد أجبنا على هذا بأن السياق هو الذي يَحْكُم.
  • وإن كانت المشكلة هي إضعاف اللغة، فعَنْ أي نوعٍ مِنَ الإضعاف تتحدَّث؟ هَلْ عَنْ إضعاف المعنى؟ المعنى واحد. أم عَنْ نسيان الحروف الأصلية؟ فقد أجبنا أيضًا عن هذا السؤال في "ثانيًا".
  • تشويه الهَوِيَّة؛ فالسؤال: هل تتَحَدَّدُ هَوِيَّة اللغة وتُقاسُ ويُقاسُ جمالها ورونقها مِنْ خلال الرسائل النَصِيَّة وتعليقات الفيس بوك؟ لا أعتقد ذلك أبدًا...

اللغة لها كُتُبُها ومُتَخَصِّصيها وهواتها وأشعارُها وكُتَّابُها ومِنْ تلك المصادِر تُقاسُ اللغة ويُحْكَمُ فيها وفي قُوَّتِها ولمعانِها.

فأنا أرى مثلًا أن يَتَحَوَّلَ الشعر مِنْ شِعْرٍ مَنْظومٍ ببحرٍ إلى شِعْرٍ حُرِّ هو شيء مِنَ التطوير (في نَظَرِي سلبي) وهذا هو ما يؤثِّرُ بالفِعْلِ في اللغة، أو أَنْ تَتَحَوَّلُ اللغة إلى العامِيَّة أكثر فأكثر هذا أيضًا يُشَوِّهُ في أَصْلِ اللغة. تتفقُ أو تختلفُ... لا بأسَ على الإطلاق. المهم هو أن تقفَ وأقفَ معاك على أرضِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ هي أن قياس هوية وجمال اللغةِ لا يُسْتَقَى مِنْ رسائل نَصِيَّة على الواتساب إنما في رسمياتِ اللغة.

رابعًا: هل "الفرنكو" فكرة لُغَوِيَّة جديدة؟

كَلَّا. سألنا مَرَّةً مُدَرِّسُ تاريخٍ عَظِيمٍ في المدرسة: "ما هي لغة المصريين القدماء؟"

جاوَبَ التلاميذ في شيء مِنَ الحَمَاس والثقة: "الهيروغليفية". وهنا كانت المفاجأة عزيزي القارئ: لم تَكُن الهيروغليفية هي لغة المصريين القدماء. كانت لغة المصريين القدماء هي: "اللغة المصرية القديمة" أما عن "الهيروغليفية" فهي إحدى طُرُقِ كتابَةِ هذه اللغة. أَلَم تَسمَع عن الهيراطيقية؟ والديموطيقية؟ والقبطية؟

أكانت تلك أيضًا لغات؟ أبدًا... كانت تلك أيضًا طُرُق كتابة لنفس اللغة.

الهيراطيقية (خط الكهنة)، الديموطيقية (خط الشعب)، والقبطية (عندما امتَجَزَجت حروف اللغة المصرية القديمة بحروف اللغة اليونانية مُحافِظَةً على نفسِ أصواتِها).

فقد اعتدنا أن نسمع الناس تقول هذا ينطق بالقبطي، وفي هذا خطأ... ليس هناك لغة قبطية، ولكنها اللغة المصرية القديمة والقبطية هي طريقة كتابة.

واسأل نَفْسَكَ السؤال: ما نوع التَشَوُّه الَّذِي أصابَ "اللغة المصرية القدية" رغم كل هذه الأنواع مِنَ الكتابات التي كانت تُكْتَب بها؟ أليسَ في ذلك دليل أن اللغة لا تتشوَّه بتاتًا بهذا النَوْع مِنَ الكتابة؟!

 

خامسًا: الفرنكو... قَّدْ يكون مهارة!!

في دراسة أغلبِ اللغات الصادِرَة عن اللاتيني هُناكَ مَادَّةٌ تُدَرَّسُ تُسَمَّى بالـ"صوتيات" فيها يَتِمُّ تحويل أصوات اللغة إلى رموزٍ مِمَّا يُساعِدُ في تَحْسِينِ نُطْقِها، وهناك مجموعة رموز تُسَمَّى بالـ API هي بمثابة شفرات تُساوي أصوات.

وتُقاسُ مهارَتُكَ في هذه المادَّة باستِطاعَتِكَ ترجمة الصًوت إلى حرفٍ هو ليس مِنْ حروف اللغة الأصلية (نفس مبدأ الفرانكو). ولا أرى فرقًا شاسِعًا في المبدأ بين هذه المادَّة في اللغات الخارجَة عن اللاتيني (كالفرنسية والإنجليزية) والفرانكو. وإن كانَت الفكرة تكمُن في أن مادة الصوتيات تلك هي إحدى الأدوات الرسمية لعلم اللغات الخرجة من اللاتينية، ففلسفة كل من "ميكانيكية" المادة والفرانكو واحدة؛ تطويع صوتيات اللغة لأصواتٍ.

 

سادسًا: لا تتأثر البلاغة ولا القواعد النحويَّة بالفرانكو

طالِع هذا المثال: واحَرَّ قلباه مِمَّن قَلْبُه شَبِمُ...

Wa7arra Kalbahou memman kalbouhou shabemou

هل تَغَيَّرَ المَعْنَى؟ هَلْ تَغَيَّرَت القوة البلاغِيَّة للشَطْرِ؟ هل فُقِدَت قاعِدَة نَحَوِيَّة؟ ستقفُ هنا وسأقِفُ معك لتقولَ وأقولَ، ولكن: "إذا قُرِئَت تلك العبارة بصوتياتِ اللغة المكتوبُ بها حروفها (أي الإنجليزية) فصوتُ الحروف يختلفُ وسيتشوَّه لأن حرف الـمد مثلًا: "ا" ليس مثل ال"a". اتفق وأختلف. أتفِقُ في أن الأصوات تختلفُ، ولكنَّ اختلافي هنا هو أن الكاتِبَ والقارئَ هما على عَقْدٍ مِنَ الفِهْمِ أننا في إطارِ "العربيةِ". لذا, ليس هناكَ أدنى لَبْس!

 

أختِمُ حديثي بتعليقٍ بسيطٍ: تشويه اللغة هذا، أمرٌ نَجَحَ فيه الاستعمارُ بإدخالِهِ كلماتٍ أجنبية على العربية وتخريب صوتيات اللغة الأصيلة ومحو التراث الأدبي... هناك آلاف العوامل الَّتي تُشَوِّهُ اللغة ليس مِنْ ضمنِها الفرانكو. أن لا تَدْرِسَ القواعِد النحويَّة للغة فأنتَ لستَ بمُحافِظٍ على اللغة (وفي هذا حُرِّيَةٌ أيضًا ولا إجبار لأحدٍ على شيءٍ...)، أو أن تقول: "حيث أَنَّ" بدلاً مِنْ "حيث إنَّ" فأنتَ أيضًا ترتكبُ خطأً لُغَوِيًّا ناجِمًا عَنْ تَشَوُّهٍ في اللغة. ولكن أن تكتِبَ بالفرانكو فأنتَ لا تَمَسَّ اللغة في شيءٍ. فأنا قادِرٌ أن أكْتِبَ لَكَ نفس هذا المقال بالطريقتين!!

 

الفرانكو بريء مِنْ خرابِ بَعْضِ المحاوِرِ في اللغة العربيَّة. الفرانكو لَمْ يُحَوِّل الجزيرة العربية إلى كُتَلٍ لا تفهمُ بعضها البعض مع أنها نظريًّا كلهم يتحدثون العربية، وإن التقى عربيان قَّد يفضلان أن يتحدثا بلغة غير العربية كي يتفاهما. الفرانكو بريء مِنَ العامِّيَّة، والفرانكو بريء مِنْ سوء تدريسِ اللغة، وبريء مِنْ التريبة التي سادَت نِصفُ كلماتِها الإنجليزية والفرنسية...

الفرانكو بريء!