بين التماسك الثقافي وآليات التفكيك.. إشكالية الفاعل والمفعول به

كتبت: نور طارق
باحثة ماجستير – كلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة
عاشت المحروسة في مرحلة ما قبل التاريخ -التي لا نعرف عدد سنواتها- حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولكن مع توحيد قطري البلاد، كان المصريون قد وصلوا إلى حالة من النضج السياسي استوجبت وحدتهم السياسية من جهة، ودفعتهم إلى إبداع "ثقافة قوية فاعلة" من جهة أخرى، والتي مثّلت لاحقًا خط الدفاع الرئيس في المواجهات العسكرية التي تعرضت لها البلاد من جانب الغزاة. وإن لم يأبه المؤرخون كثيرًا بتسجيل "الهزائم الثقافية" التي ألحقتها مصر بالغزاة الذين كانوا يضطرون في النهاية إلى "الانقياد الثقافي" لشعب المحروسة رغم نجاحهم في السيطرة العسكرية عليها، فقد فرضت الثقافة المصرية على الغزاة أن يتحدثوا لغة المصريين، ويمارسوا عاداتهم، إلى أن يتمكن المصريون من تحرير الأرض، فيخرج المحتل وقد فقد ملامحه الثقافية، وذاب في ثقافة المحروسة.
الثقافة في القرن التاسع عشر
إن التعريف التقليدي السائد للثقافة في أوروبا منذ القرن التاسع عشر قد قامت بصياغته تلك الفئة التي أتاحت لها أوضاعها الطبقية والاجتماعية أن تحظى بتعلُّم القراءة والكتابة، ومن ثمَّ، الاطلاع على التراث المعرفي المكتوب، فتنوعت مصادر المعرفة لديها. وهنا بدأ تعريف الثقافة بأنها "الاستنارة الفكرية" (Light)، وتزايدت رغبة هؤلاء المثقفين في الإنتاج الثقافي الكتابي، والذي حاولوا من خلاله إفراز "العسل الثقافي" الذي كانوا يتبارون في إنتاجه كالنحل الذي يسعى دون كلل لامتصاص رحيق الكتب والمعارف. ولمَّا كان هؤلاء غير مضطرين إلى كسب الرزق من العمل اليدوي، فقد انشغلوا بتسجيل ما اكتسبوه من أفكار في شكل قصص وروايات وأشعار، يستعرضون فيها مخزونهم اللغوي والمعرفي. فكانت أهم صفة يحلم المثقف باكتسابها أن يوصف بـ "المستنير".
ثم برزت سمة جديدة أُضيِفت للتعريف التقليدي السابق؛ تأكيدًا على ما اكتسبه المثقفون ممن سبقوهم، وهي: "حلاوة الكلمات" Sweetness، و"جمال اللغة". فكانت "حلاوة اللفظ" الذي يستخدمه المثقفون في تلك الفترة سمة أساسية لا بد أن تتسم بها كتاباتهم. وقد صاحب هذا بالطبع شعور تقليدي بالتعالي على لغة البسطاء والعامة من الناس، والتي حرص هؤلاء، وبخاصة المؤرخون منهم، على استبعاد الجماهير - وما تمارسه من أنشطة، وأنماط إنتاج، وسعي لكسب الرزق - من دائرة الاهتمام. بل ومضى أولئك الذين سموا أنفسهم بـ "الصفوة المثقفة"، في التعالي أكثر وأكثر، حتى صار الحاجز الفاصل بينهم وبين الجماهير يصعُب تخطيه.
الحالة المصرية
إذا عدنا إلى مصر -آنذاك- فسنلاحظ أن قدرها التاريخي قد دفعها إلى القرن التاسع عشر، وهي محملة بهموم تنوء بحملها الجبال، بعد أن سقط أكثر من ربع سكانها شهداءً برصاص "الجند الفرنسيين"، وفتك الطاعون الذي انتشر بين الفرنسيين بعدد هائل من المصريين، والذين عانى الباقون منهم من التبعية للدولة العثمانية، وحكم المماليك الباطش.
ويُسجل "الجبرتي" -وهو مؤرخ مصري عاصر الحملة الفرنسية على مصر، ووصف تلك الفترة بالتفصيل في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"- اللحظة التاريخية لدخول "محمد علي" القاهرة القديمة، بقوله: "فوجئ الضابط الألباني بالمشهد الذي أثار فزعه، وهو يصطدم مع جنود فرقته بجثث المصريين المتناثرة في شوارع القاهرة القديمة، لكن المشهد المفزع لم يمنع الضابط الطموح من الصعود إلى القلعة، حاملًا حلمه بالنهضة، واثقًا في قدرة من بقي من المصريين على قيد الحياة على تحقيق الحلم".
وعند بنائه مشروع النهضة، اتجه "محمد علي" لحشد الجيش والصفوة المثقفة بمبدأ "أن تتكون الصفوة الاجتماعية من "ذوي النجابة" من أبناء الفلاحين والفقراء، فتقدم الموهوبون -من القاع الاجتماعي- الصفوف الأولى لإدارة الدولة الصاعدة في كافة المجالات، فكانت النهضة غير المسبوقة، والتي أصابت دول أوروبا بالفزع، مما دفعها لمطاردة مشروع النهضة المصري.
وهنا، سيكون من الضروري التوقف للكشف عن الموقف الثقافي للنخبة المصرية الوطنية، والتي حرصت على جذب المجتمع المصري بأكمله إلى "الأعلى الثقافي". وقد أتمت النخبة مهمتها العظيمة تلك مع الحرص البالغ على التماهي مع الثقافة الشفاهية الراقية للعامة، وعدم الترفع عليها، فنجد "الطهطاوي" يستخدم الألفاظ العامية في سياق حديثه باللغة العربية الفصحى في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، فيبدأ تشخيصه لحالة الارتباك الفكري التي سادت المجتمع قبيل النهضة، قائلًا: إن الذي أتى بـ "اللخبطة" أننا ربطنا العفة بالملبس في المشرق.