الثورات السودانية.. سبل متقطعة نحو القومية والوحدة الوطنية

الثورات السودانية.. سبل متقطعة نحو القومية والوحدة الوطنية

بقلم الكاتب السوداني/ متوكل دقاش 

 

(أثناء الثورات)، يجلب التوافق الواسع بين الجماهير والقوى السياسية والهيئات النقابية والقطاعات المهنية ومنظمات المجتمع المدني على ضرورة اسقاط النظام وطبيعة الحراك وشعاراته ومبادئه، الأمل بتخليق وعي جمعي متقدم بحقيقة وحدة المصير والتصورات والشجون وربما التطلعات بين فئات الشعب الواحد: تجاوز الحساسيات الفكرية والأيديولوجية والمناطقية والاجتماعية...الخ. وإلى حد كبير، فإن الشعوب تتحرك أثناء ثوراتها وانتفاضتها، داخل إطار ذهني ذات أطر داخلية شبه منسجمة لا يعكر صفوها وجود اختلافات نسبية في النظر إلى طبيعة مسار الثورة وكثير من أهدافها ومبادئها بين مجمل الحشود الثائرة. إن المزاج الثوري، دائما ما يقوم على التشديد على إعلاء القيم المشتركة والأهداف العامة والاتجاهات الكلية، وهي النواة السيمانتية للقومية الكلية والوحدة الوطنية بدلا عن القوميات العرقية، أو اللغوية، أو الدينية، أو المناطقية التي تركز على نفسها وتنغلق على ذاتها.

بعبارات أخرى، غالبا ما تفتح الثورات بوصفها فعلا جماعيا وعملا توافقيا واسعا، الأبواب أمام النزعات العمومية. وقد جلبت كل ثورات السودان أو وفرت ظروفا ملائمة لبناء القومية السودانية الكلية كاتجاه عمومي. ففي 1964، مثل الاهتمام الشعبي المتزايد بمشكلة الجنوب التي برزت (كثيمة) للثورة الشعبية التي أطاحت بالطغمة العسكرية الحاكمة، فرصة ذهبية ولحظة مواتية لإعادة النقاش بشكل مستفيض حول الشروط التأسيسية المعقولة لسودان ما بعد الاستعمار، والمهم بناء وحدته الوطنية التي غابت منذ الاستقلال، ومن ثم رسم ملامح قوميته الكلية بمعناها الواسع والعريض، من خلال اتفاق مكوناته الاجتماعية والإرادة السياسية لشعوبه على طبيعته كدولة، وأسس ونظام الحكم فيه. لذلك جاءت فكرة عقد مؤتمر المائدة المستديرة الذي تجسدت أهميته في إجماع السودانيين الكلي على أن الحكم المركزي والسياسات الاستيعابية ومحاولة فرض هوية أحادية ونكران الحقوق والتغاضي عن أسباب التخلف والتفاوت الواضح بين أقاليم السودان لم يعد يخدم المصلحة القومية (للمزيد، أنظر: يوسف محمد علي، 2012، 10).

أعطى مؤتمر المائدة المستديرة كنفحة من نفحات ثورة أكتوبر 1964، قبلة حياة للقومية السودانية الكلية. بعد أن أتاح إمكانية الحديث جهرا عن سودان واحد متعدد المشارب وحافل بالتنوع. والتفكير في نظام حكم لا مركزي يوسع دائرة المشاركة السياسية ويكفل لكل مكونات المجتمع السوداني حكم نفسها بنفسها. لقد أصبح من الممكن التفكير في قومية سودانية مختلفة، قومية تعددية وليست تطابقيه. ذلك بعد الاعتراف بالخصوصيات الثقافية والتمايزات التاريخية بين الشعوب السودانية.

كان المؤتمر تجربة ديمقراطية رائدة، وخطوة غير مسبوقة، لمدى جدوى التزام الحوار منهجا بين أطراف سياسية متنافرة متنازعة، بهدف الوصول إلى حلول وتسويات عملية بالتراضي فيما بينهم، في قضايا وطنية وإنسانية شائكة تتعلق باقتسام السلطة والثروة، وفي ظل شكوك عميقة، نابعة من تاريخ العلاقات السلبية المشتركة، في مدى مصداقية الطرف الآخر. أدت الصراعات الحزبية والنزعات الشخصية إلى إجهاض حلم السودانيين بتأسيس دولة المواطنة في ذلك المنعطف التاريخي. وضاعت فرصة رسم ملامح القومية السودانية الكلية القائمة على مبدأ الوحدة في التنوع. فطويت صفحة المؤتمر وانتهت الثورة إلى حكومة هشة لم تستطع الصمود طويلا، فانقلب عليها حفنة من العسكر في العام 1969.

ولربما لم يوجد في كل التاريخ السياسي للسودان الحديث نظاما متقلب الأطوار مثل نظام النميري الذي يعرف بـ (نظام مايو)، والذي بدأ يساريا ومن ثم انتهى يمينيا متطرفا. كانت حقبة غريبة حقا، مع نظام أغرب بما لا يقاس. إذ بدا نظام النميري وكأنه امتلك السر والمنهج المعقول لبناء القومية السودانية الكلية وتحقيق وحدة السودان الوطنية الغائبة. خاصة أن بيانه الأول قد أشار بكل وضوح على أن وحدة البلاد- كهدف سامي - يجب أن تبنى على ضوء الحقائق الموضوعية التي تتجسد في تنوع السودانيين وتعدد مشاربهم وتمايزهم الثقافي واختلافاتهم التاريخية (للمزيد، أنظر: يوسف محمد علي، 444).

وبالفعل استطاع نظام مايو التوصل إلى تسوية تاريخية مع حركة (الأنانيا) وأوقف حرب الجنوب التي كانت تمثل عقبة كبرى أمام فرص تخليق وصناعة القومية السودانية الكلية وتحقيق الوحدة الوطنية. لكنه كنظام متقلب، ما لبث وإن عاد ليتنصل لاحقا عنها، لتبدأ الحرب من جديد، وبشكل أكبر، وأشد، وأشرس. استمرت طوال فترة وجوده، وباستمرارها، كانت فرص تخلق وإنبناء القومية السودانية الكلية تتضاءل كل يوم. لذا، مثلت ثورة أبريل 1985، إحدى أعظم الفرص لإنقاذ ما تبقى من عناصر صامدة تستطيع دفع أي جهود مستقبلية ساعية لمشروع تأسيسي لسودان موحد ومزدهر وقومية سودانية متعددة العناصر، ولكنها منسجمة.

كانت اتجاهات تأثير ثورة إبريل 1985 في صناعة القومية السودانية الكلية إيجابية من خلال حدثين مهمين. أول هذين الحدثين كان إعلان كوكادام 1986، الذي أوصد باب التجزئة والنزعات التقسيمية بمخاطبة مشاكل السودانيين بوصفها شيئا واحدا وقضايا لا تنفصل بسبب الاختلافات والانتماءات القومية الدينية والإثنية والمناطقية. وقد تمخض الإعلان عن قناعة موقعيه ومؤيديه الجماعية بضرورة خلق (سودان جديد) خالي من العنصرية والطائفية والقبلية وكافة أسباب التميز والتفاوت. إن الوصف الصحيح لمبادئ إعلان كوكادام 1986 هو أنها كانت تمثل عناصر تأسيسية موضوعية لقومية سودانية كلية متماسكة ومنسجمة ومدخل لبناء وحدة سودانية يمكن التوافق عليها. والأصح أن الإعلان مثل نموذج (عقد اجتماعي) كان قادرا على إزالة أسباب الحرب، وتقوية الأمل المتعلق بالديمقراطية والبناء والنهضة، والسلام، والحرية، والعدالة.

الحدث الثاني تمثل في توقيع اتفاقية الميرغني – قرنق 1988. حيث كانت فرصة مواتية أيضا، بعد أن فتحت الأفاق لإمكانية التحاور والنقاش حول أكثر قضايا التأسيس إلحاحا عبر (مؤتمر قومي دستوري)، كان من المنتظر أن يبت في المسائل المتعلقة بقضايا البناء وأسس الوحدة الوطنية والقومية السودانية. والأهم أن الاتفاقية لقيت تأييدا كبيرا من السودانيين، بوصفها فرصة تاريخية لإحلال السلام السياسي والاجتماعي في السودان ومدخل للتحول نحو الديمقراطية والاتجاه إلى العمل السياسي السلمي بدلا عن الكفاح المسلح ودفع الأجندة السياسية والحقوقية عبر وسائل العنف.

كإعلان كوكادام، تم رفض الاتفاقية، وكيل لها المكاييل، باعتبارها محاولة لإبعاد الشريعة عن الحياة العامة وطعنا في هوية السودان الإسلامية. وبرفض رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي والأخوان المسلمين للاتفاقية، إنقطع الطريق أمام فعل سياسي كان قادرا على إحداث نقلة حقيقية في مسيرة بناء القومية السودانية.

أتت بعدها 30 عاما كئيبة على السودان 1989 - 2019، تجسدت في فترة حكم الأخوان المسلمين، الذين مثلوا التجلي الأبشع للفكر الأحادي. وكان مدخلهم وتصوراتهم للقومية السودانية غارقة في النزعة التطابقية والواحدية. واستمرار الأخوان لثلاثين عاما على سدة الحكم في السودان، كان على حساب بناء قوميته الكلية، إذ لم يكن هناك ولو بصيص أمل بتخلق قومية سودانية كلية تنهي حالة الإنقسام الوجداني والمناطقي والسياسي والثقافي التي غرق فيها السودان في ظل حكمهم. إلى أن بان لمعان ثورة ديسمبر 2018 كضوء في اخر النفق.

التأمت الجموع منذ اليوم الأول في ثورة ديسمبر، بإرادة قوية، بهدف إعادة عربة الدولةإلى المسار الصحيح، ولتوجد تغييراً دائماً نحو الأفضل، وتطوراً وتقدماً يتخلق عنهما واقعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً جديدا يتلاءم مع حجم التضحيات التي قدمتها. وفي هذا كانت الهتافات التي تطالب بإنهاء حكم العسكر وتفكيك الشمولية وترسيخ العدالة والحرية عالية، ومثلت الرافعة الأساسية لسردية كبرى التف حولها كل السودانيين. وكانت المواكب والاعتصامات أدوات تعبيرية جماعية عن طموح متقارب وآمال متشابهة بين مختلف السودانيين. نادوا فيها بشعارات تضامنية مميزة وأظهروا فيها روحا وطنية متماسكة متجاوزين لاختلافاتهم الثقافية، والمناطقية، والدينية، والأيديولوجية. وإن كانت مسألة التحول الديمقراطي من المسائل الكبرى لثورة ديسمبر 2018 وإحدى أهدافها الكبرى، فإن قضية السلام العادل والشامل قد أخذت حيزا ملموسا في كل نقاشات الثورة وكانت هما مشتركا للثوار، باعتبارها مدخلا تأسيسيا ضروريا وحاجة ملحة لإعادة بناء السودان على أسس عادلة، وصناعة قوميته الكلية، ذلك بمساهمة كل قواه السياسية والاجتماعية.

 لقد جلبت ثورة ديسمبر 2018 الأمل بتحقيق حلم إعادة بناء السودان على أسس عادلة. وتأسيس دولة المواطنة والقانون. وعكست كل شعاراتها وهتافاتها ومنتوجها الفكري والمادي وعيا متقدما وتطلعا متجاوزا للذهنية القديمة للسودانيين الذين ظلوا أسرى لأيديولوجيات تقسيمية وأفكار تمايز بين الناس بشكل غير موضوعي، ذلك بالتشديد على وحدة السودانيين ووحدة حلمهم بوطن يسعهم جميعا، بغض الطرف عن اختلافاتهم.

تأسيسا على ما سبق من استدعاء سريع لأحداث ثورات متفرقة، ولحظات تاريخية مفصلية لحراكات شعبية مميزة، يمكن التأكيد على أن كل الثورات السودانية، قد أثرت في اتجاهات تخليق وبناء القومية السودانية والوحدة الوطنية. حيث كانت شعارات هذه الثورات ومبادئها الأساسية تصب في مجرى تلك العملية. مع ذلك لم تمض أيا منها صوب أهدافها دون أن تواجه العراقيل التي يضعها أصحاب الامتيازات التاريخية والمستفيدين من وضعية السودان المختلة، والقائمة منذ خروج الاستعمار في العام 1956، والذين لم ولن يدخروا جهدا إلا وبذلوه تجاه تقويض أي اتجاه ساعي لبناء قومية سودانية كلية وتأسيس سودان يسع جميع مكوناته الاجتماعية بتمايزتهم تلك. وتحقيق دولة المؤسسات والقانون القائمة على مواطنة تتأسس على الحقوق والواجبات.