من له الفضل في انتصار أكتوبر؟
بقلم/ محمد أشرف
يكفي أن السادات اتخذ قرار الحرب.. هل لو أحدا غير السادات كان سيخوض الحرب وينتصر؟
سؤال استنكاري دائم التكرار في مثل هذا الوقت من العام، وكفيل بأن ينسب فضل هذه الحرب للسادات دون غيره. وأرى استبداله بسؤال أخر:
هل لو أحدا من مجلس قيادة الثورة غير السادات مسك بزمام الأمور كان سينتهج نهج السادات في إدارة الحرب قبل وبعد وأثناء المعركة؟
لا أنكر ابدا دور الرئيس السادات الكبير في حرب أكتوبر وسأسرد بعض التفاصيل التي أراها منطقية دون الرجوع للأراء الشخصية سواء لي بصفتي المتواضعة أو لأناس حضرت الحرب. ولكن قبل الخوض في هذه التفاصيل سأتطرق لنقطة حتمية المعركة.
فحتمية المعركة كان لا جدال ولا فسوق فيها سواء كان السادات على رأس الحكم أم لا فقد تم تعبئة الدولة المصرية على كافة مستوياتها للمجهود الحربي منذ عودة الرئيس عبدالناصر عن التنحي ونزولا وامتثالا لرغبة الجماهير الواعية التي رأت في تنحيه كسر وهزيمة لإرادة أمة لطالما أبت الهوان في مثل هذه الظروف، وتجلت الأعمال الفنية والأدبية لتحكي لنا كيفية استنهاض الهمم للشعب المصري وقياداته نحو إزالة آثار العدوان واذكر منها مقطع من قصيدة غنتها أم كلثوم باسم الشعب تأمر عبدالناصر بالعودة عن التنحي واستمرار النضال.
قم إنا جففنا الدمع وتبسمنا
قم إنا أرهفنا السمع وتعلمنا
قم إنا وحدنا الجمع وتقدمنا
قم وادفعنا بعد النكسة
وارفع هامة هذا الشعب
قم إنا أعددنا العدة
قم إنا أعلينا الوحدة
فارسم أنت طريق العودة
وتقدم يتبعك الشعب
إبق فأنت حبيب الشعب.. دم للشعب.
ولن استطرد في ذكر تفاصيل أكثر وأكثر تشرح لنا كيفية إعداد الدولة للحرب في هذا الوقت على كافة مستوياتها والتي تثبت بما لا يدعو للشك أن مصر لم تكن مستعدة تماما لخوض حرب ٦٧ وكذلك لم تكن لتنتصر في حرب ٧٣ بدونها، ولكن سأتطرق إلى كلمات سيد شهداء مصر من مات فداء الحرب المنشودة دون أن يخلف وراءه مذكرات تخلد تضحياته وتبخس تضحيات غيره. فعندما نمى إلى علمه مساعي إسرائيل لعقد سلام منفرد مع مصر لتسترده به مصر شبه جزيرة سيناء دون الحاجة إلى معركة قال الفريق أول عبد المنعم رياض:
لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، وعندما اقول شرف البلد، فلا أعني التجريد وإنما أعني شرف كل فرد.. شرف كل رجل وامرأة
فلا تتصور صديقي كلما طلبنا اعتماداً إضافياً للتسليح؛ لأن شعبنا في حاجة إلى كل قرش ليستثمره في المصانع الجديدة، ولكن ماذا نفعل؟ إذا ضاع شرف الأمة، فلن يستطيع أي قدر من الغنى أن يعوضنا عنه. ليس الشرف هنا مجرد مسألة رمزية. وإنما شرف أي أمة هو مصدر ثقتها الوحيد بأنها تستطيع أن تتصرف بإرادتها، وأن تحقق ما تشاء.
فإذا وفرنا للمعركة القدرات القتالية المناسبة وأتحنا لها الوقت الكافي للإعداد والتجهيز وهيأنا لها الظروف المواتية فليس ثمة شك في النصر الذي وعدنا الله إياه.
ولذلك كان من الطبيعي أن تتصدر شعارات تلك المرحلة (إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وهذا يجيب على الاستنكار الأول وهو أن البطولة ليست في خوض الحرب او في اتخاذ قرار الحرب لأن المعركة كانت حتمية وأي رئيس بعد عبدالناصر لا مفر أمامه سوى خوض القتال وإلا كان سيحاكم أمام شعبه بالتقصير وإذا أردنا ان ننسب الفضل فلن ننسبه سوى للشعبين المصري والسوري اللذان رفضا الاستسلام وكانا أكثر وعيا للحظاتهم التاريخية الفارقة.
وهنا ننتهي من الفصل الأول من الحكاية وننتقل الى الفصل الثاني الذي هو حديث الساعة الان وهو توزيع الأفضال ...لمن الفضل في انتصار حرب اكتوبر؟
يحسب للسادات أنه لم يخرج عن إصرار زملائه من مجلس قيادة الثورة أو إصرار شعبه نحو مواصلة القتال وعدم الاستسلام واستكمال التعبئة العامة للدولة نحو الحرب المنشودة، ولكن لا أجد في ذلك بطولة او فضل يذكر.
ويحسب له فطنته ان امريكا هي جزء من المعادلة ولا يجب تجاهلها ولا يجب معادتها كليا حتى لو كانت تساند اسرائيل علنا ، وهنا نتوقف قليلا إحقاقا للحق وانصافا له ولغيره فمن خلال رواية محمد حسنين هيكل التي سرد فيها قصة حديثه مع جمال عبدالناصر والتي اخبره فيها برغبته في التنحي موكلا زميله زكريا محي الدين زمام الأمور مبررا باستحالة استمراره في رأس الحكم خاصة أن عداوته للإدارة الأمريكية أصبحت شخصية وفاقت كل الحدود وأنه من الأفضل أن يكمل المسيرة أحدا غيره يستطيع التعامل معهم خاصة وأنه يؤمن تماما بأنهم جزء متأصل من الحل ..
واعتمادي هنا على رواية هيكل في كتابه العربي التائه وهو المعروف عنه خلافه الشديد مع السادات أستطيع تبريره وتصديقه خاصة ان وقائع الأمور بعد نكسة ٦٧ اثبتت صحة الرواية وذلك تقبل مصر لمبادرة روجرز الامريكية لوقف إطلاق النار والتمهيد لحل شامل للصراع العربي الاسرائيلي حتى ان كان قبولنا كان بهدف استغلال الهدنة لاستكمال بناء حائط الصواريخ وتجهيز الجيش، استقباله الدائم للصحفيين الأمريكان وايفاد رسائله للإدارة الامريكية والشعب الأمريكي.
يحسب للسادات قراءة الموقف الدولي من خلال رؤيته، وتحسبه لإشارات دولية من الشرق والغرب فطن من خلالها الخطوط المسموح تجاوزها والغير مسموح تجاوزها وما هي الخطوط الملائمة التي من الممكن ان يسير عليها لتحقيق تغيير على الأرض يرضي أهم الأطراف الدولية ، قراءاته هذه شكلت رؤية خاصة له لم تكن بالضرورة تشكلت عند معظم زملائه من مجلس قيادة الثورة او عند الشعب ، وبلورها في التجهيز لحرب محدودة هدفها التحريك (تحريك عملية اللاسلم واللا حرب ) وليس التحرير بحيث يبدأ فيها دور السياسة بانتهاء ما هو مسموح من وجهة نظره إنجازه بالسلاح وفقا للخطوط المسموح والغير مسموح تجاوزها.
وهنا تأتي إشارة مهمة وهي الطريقة التي تعامل بها مع الروس خاصة بعد طردهم من مصر في ظرف اسبوع ورغم ذلك استمر مدهم بالسلاح للقوات المسلحة المصرية سواء قبل الحرب أو اثناء الحرب، واستغل ذلك بإرسال رسائل اطمئنان غير مباشرة لأمريكا واسرائيل بأن سلوك الدولة المصرية غير مهيأ لخوض حرب مع اسرائيل.
انتصاره في الجبهة الداخلية وسجن أغلب معارضيه من مجلس قيادة الثورة فيما أسماه بثورة التصحيح وكان اغلبهم له صلات وثيقة بالاتحاد السوفييتي، وتوافقه مع هيكل ذو الفكر اللبرالي الذي يؤمن بضرورة إشراك الولايات المتحدة في المعادلة وجس نبضها، وكانت هذه رسائل اطمئنان اخرى للولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل تحسب له استغلالها قبل المعركة.
يحسب على السادات تدخله بشكل فردي لتنفيذ قناعاته السياسية اثناء سير المعركة رغم معارضة كل من كانوا في ميدان القتال تقريبا وهنا استشهد بكلمات قالها الفريق عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني في حرب اكتوبر وهو الوحيد الذي لا زال الله على قيد الحياة ممن شاركوا في كل حروب مصر بداية من حرب ٤٨ (أن التدخلات السياسية الفردية اثناء سير العمليات العسكرية تسببت في كوارث ولا سيما كارثة الثغرة والتي ألزمت تواجد أدوار دولية لفك الاشتباك وصولا لاتفاقية الكيلو ١٠١).
اللواء عبد المنعم خليل - قائد الجيش الثاني أثناء حرب أكتوبر وهو الوحيد على قيد الحياة من قادة حرب أكتوبر ويبلغ عمره ٩٨ عاما:
" إن ما تعرضت له في القيادة هو نفس ما تعرض له الفريق الشاذلي من تقييد لحرية القائد في تحريك وتنظيم وتوجيه قواته وهذا اكبر مسبب لضعف القيادة والسيطرة ، فعندما أرسل الرئيس السادات الفريق الشاذلي إلى الجيش الثاني بعد ظهر ١٨ أكتوبر ١٩٧٣ لمواجهة الموقف بالثغرة لم يعطه الحق او السلطة التي يجب ان تكون معه للمناورة بالقوات ومحاولة تكوين احتياطي للتعامل مع الثغرة التعامل العسكري السليم، وهو الأمر الذى كان لا بد ان لا تتدخل فيه القيادة مطلقا وتحرم القائد من هذا الحق بل وتتوعده بالعقاب إذا أقدم عليه فكيف يمكن للقائد السيطرة على قواته وهو لا يملك حتى الحق في توجيهها . وهذا مخالفا لكل التعاليم العسكرية ومبادئ القيادة التي تعتبر مبدأ المناورة بالقوات مبدأ حيوي من مبادئها وهي نفس الظروف التي واجهتنى كقائد للجيش عند تولى المسؤولية عندما حرموني من حريه المناورة وتكوين احتياطي لإن ذلك اثار غضب الرئيس". يحسب للسادات أن شخصيته كانت كفيلة لإنجاح خطة الخداع الإستراتيجي الذي مارسته الدولة على جميع الأطراف في الداخل والخارج.
أي قرار كان سيتخذ في عهد ما بعد عبد الناصر لم يكن ليتوافق مع الأغلبية الساحقة من المصريين خاصة من مجلس قيادة الثورة لأن الوحيد الذي كان له قدرة السيطرة التامة والتحكم بشخصيات مجلس قيادة الثورة وتوحيد توجهاتهم المتضادة والاستفادة من اختلافاتهم الفكرية لإثراء تجربته في الحكم وتوحيد الجبهة الداخلية على قلب رجل واحد هو جمال عبد الناصر.
وهي معادلة صعبة، امتلاك جبهة داخلية متوحدة في ظل موقف دولي غير ملائم وغير مرحب أفضل أم خلق موقف دولي ملائم ومرحب في ظل جبهة داخلية ضعيفة غير متوحدة؟
ولكن يحسب للسادات تجاوزه لبعض التعقيدات التي صاحبت عملية اتخاذ القرار اثناء الحقبة الناصرية بسبب ارتباطها بالتزامات وتحالفات ارتبطت ضمنيا بوجود شخصية عبد الناصر وكاريزمته وكان من الطبيعي أن تختفي بغيابه وإدراكه أن مرحلة الاستعداد للمعركة تتطلب تحالفات جديدة مع ضبط أدوار التحالفات القديمة لما يخدم جو المعركة.
فالسادات أرى من وجهة نظري المتواضعة أن عبقريته في انتصاره لذاته ولرؤيته وكيفية تهيئة الأوضاع الداخلية والخارجية لترجيحها رغم وجود معارضة قوية داخل مصر لصفة أي شخص له فكر مختلف عما كان يدور في فلك جمال عبدالناصر في هذا الوقت، وهنا انا لست بصدد تأييد رؤيته او رفضها بقدر توضيح أن ليس بالضرورة كل ما كان يحارب من أجله وانتصر فيه يصب في مصلحة الوطن، بل من الممكن أن يتضرر به الوطن عاجلا أم آجلا بالتسليم بأنها تجربة بشرية لا تخلو من الخطأ.
وبالإشارة لما ذكرته أن أي رئيس بعد عبدالناصر كان سيضع في اعتباراته امريكا كطرف في المعادلة وكجزء من الحل ويجب ان يحسن التعامل معها وفقا لحديث جمال عبدالناصر لهيكل ليلة التنحي، فيجب الإحاطة بأن المقصود بذلك أنها طرف في المعادلة وليست المعادلة كلها..
فيحسب على السادات أنه اعتمد على امريكا كليا وكأنها المعادلة كلها بقوله أن جميع اوراق اللعبة في يد امريكا مما قيده سياسيا واحجب عنه سبل المناورة بقوى اخرى او حتى اللعب على تناقض القوتين الأعظم في هذا الوقت، وبذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الشاهد الوحيد في معارك السياسة بعد انتهاء معارك السلاح باعتبار خاطئ ان امريكا ستقف بالحياد بين مصر واسرائيل.
بل وتجاهل اشراك الاتحاد السوفييتي في جولات مفاوضات الكيلو ١٠١ رغم اشتراكه في الحرب بالسلاح الروسي، واكتفى بالرعاية الأمريكية. وذلك مخالفا حتى للوجدان الشعبي الذي يرفض ان يكون الوجود الأمريكي جزء من الحل، وقد تجلى ذلك في الأغنية الوطنية لعبد الحليم حافظ احتفالا بنصر اكتوبر.. (ابنك بيقولك يابطل هاتلي انتصار...ابنك بيقولك انا حواليا الميت مليون العربية...ومفيش مكان للأمريكان بين الديار....).
تجاهل اشراك الاتحاد السوفييتي في كل جولات التفاوض التي تلت اتفاقية الكيلو ١٠١ وما استتبعها من اجتماعات فض الاشتباك.
الاعتذار للمندوب الروسي عن الاستمرار في مشاركة مؤتمر جنيف للسلام ١، ثم مؤتمر جنيف للسلام ٢ والذي كان برعاية الأمم المتحدة وذلك تنفيذا لرغبة المندوب الاسرائيلي الذي رفض استمرار المؤتمر الا بانسحاب الوفد الروسي بحجة أنه دولة معادية مما أضعف من فرص مصر السياسية امام حليف امريكي منحاز لإسرائيل.
تجاهل سوريا وهي التي شاركت معه في التخطيط للحرب وكان بإمكان تواجدها يزيد من صعوبة المفاوض الاسرائيلي والامريكي بدلا من التفاوض على جبهة واحدة وهو الشيء المحبب دوما للاستراتيجية الاسرائيلية فضلا عن عدم التنسيق معها في وقف إطلاق النار وما تلاه من مباحثات عكس ما تم في بداية الحرب من تنسيق مشترك ناجح اتى بثماره.
عدم استثمار توحيد الجبهات العربية بشكل يتماشى مع ما تم تتويجه من مواقف الدول العربية في حرب اكتوبر من قطع للبترول والدعم المالي وصفقات السلاح لمساندة مصر وسوريا وصولا للمشاركة بالقوات وسقوط شهداء منهم في صورة ناضل من اجلها عبدالناصر و لم يراها في حياته.
ولن اتطرق لقرارات اتخذت في اطارات ليس لها دخل مباشر للحرب ،وكتابته لمذكراته البحث عن الذات وذلك لتبرير وجهة نظره او قناعاته الشخصية ، وما استتبعه من ابخاس حق الأخرين الذين خططوا وشاركوه في الحرب ، والتقليل من شأن ادوار عربية كان لها دور بارز وهام في انتصار اكتوبر وصولا الى اعلان القطيعة مع الاتحاد السوفييتي بل والدخول في حرب غير مباشرة معه دعما للمجاهدين الأفغان، مما دفع الفريق سعد الدين الشاذلي لإصدار بيان للنائب العام يتهمه فيها بالتضليل ، ثم كتابة مذكراته عن حرب اكتوبر للرد على السادات ولكن بكل اسف ارتكب نفس الخطأ وابخس دور السادات اولا ثم ادوار الاخرين ليوضح انه رجل الحرب الأول .
كلاهما أبخس حق هؤلاء الأخرين في الإعداد للمعركة، رغم اتفاقهما (السادات والشاذلي) على محدودية الحرب، وسأذكر بعض المنجزات التي تجاهلوها والتي لولاها لم يكن ليتم نصر اكتوبر:
فأبخسوا حق عبدالناصر الذي بفضل مجانية التعليم التي انجزها في مطلع ثورة ٢٣ يوليو مكن الفريق محمد فوزي من ادخال نصف مليون نسمة دفعة واحدة من المؤهلات العليا كمجندين، والالاف غيرهم للكلية الحربية كضباط متخصصين، قللت الفجوة العلمية في القدرات النوعية بين الأفراد في الجيش المصري ونظيرهم في الجيش الإسرائيلي ومما فجر طاقات الإبداع والابتكار في صفوف الضباط والجنود في الجيش المصري مكنتهم من استغلال اسلحة اقل اجيالا من نظيرتها عند العدو بصورة فاجأت كل الخبراء العسكريين.
ان اغلب الوحدات الموجودة في صفوف القوات المسلحة حاليا والتي نعيش بظلالها تم انشائها من العدم ابان حرب ٦٧ وقبل وفاة جمال عبدالناصر.
اعادة تنظيم الهيكلة الادارية في صفوف الجيش المصري وما استتبعه من انشاء هيئات وادارات لم تكن موجودة في القوات المسلحة من قبل ولا سيما هيئة التفتيش للقوات المسلحة والتي تابعت واشرفت على التحضير للمعركة حتى بدايتها.. ونعيش بظلالها حتى اليوم.
القطاع العام المصري الذي تكفل بإعادة بناء القوات المسلحة والمحافظة على الاقتصاد المصري الذي لم يتأثر رغم الاقتصاد الحربي ، بل لم تتوقف وتيرة التنمية الداخلية حيث كان افتتاح مصنع الالمونيوم بنجع حمادي عام ١٩٦٩ بل إن خطة تدمير خط بارليف بمواسير دفع المياه والتي كان بطلها الضابط المهندس زكي باقي يوسف كانت مستوحاه من قصة بناء اكبر مشروع في تاريخ القرن العشرين وهو السد العالي والذي افتتح عام ١٩٧١ و هو الأمر الذي دفع وزير الخزانة الأمريكية بأن يطلب من السادات عام ١٩٧٤ بأن امريكا على استعداد بتعويض مصر عن حروبها في ١٩٦٧ و ١٩٧٣ في مقابل ازالة القطاع العام وتحرير السوق وكان ذلك بمثابة شرطا امريكيا لاستمرار رعايتها التي بدأت بمفاوضات الكيلو ١٠١.
حرب الاستنزاف وهي الحرب المنسية تاريخيا وهي اللبنة الأولى لانتصارات أكتوبر حيث استغلتها القوات المسلحة المصرية في استنزاف قدرات العدو العسكرية والاقتصادية والبشرية فضلا عن تحقيق نجاحات سياسية وكان من نتائجها استعادة الثقة للمقاتل المصري بعد هزيمة ٦٧ واكتسابه بخبرات القتال بقدرات هجومية وتحطيم صورة المحارب الإسرائيلي الذي روجت له اسرائيل والغرب بأنه لا يقهر.
في هذه الحرب حققت افراد القوات المسلحة بطولات وإنجازات ساعدت مصر شعبا وقيادة في كسر الحاجز النفسي أمام غطرسة العدو وإمكانية محو آثار العدوان ولا سيما بناء حائط الصواريخ والذي بفضله تحتفل قوات الدفاع الجوي حتى اليوم بعيدها السنوي (٣٠ يونيو ١٩٧٠) وهو اسبوع تساقط طائرات الفانتوم الأمريكية.
وجب الإشارة هنا ان حرب الاستنزاف شهدت ثلاث انتصارات عسكرية تمثل ٣ أعياد من أصل ٤ تحتفل بها القوات المسلحة، (عيد القوات البحرية - عيد قوات الدفاع الجوي - عيد قوات المدفعية).
كانت حرب أكتوبر امتدادا طبيعيا لنتائج حرب الاستنزاف الإيجابية، ولكن ما لا يدركه البعض ويغفله اغلب المؤرخين أن حرب ٦٧ كانت لها نتائج إيجابية بالنسبة لمصر وسلبية بالنسبة لإسرائيل استغلتها مصر وجعلت حرب الاستنزاف امتدادا لها، حيث أنها كانت كفيلة بإظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل بأنها دولة معتدية وكشفت عن نواياها الإمبريالية عكس الصورة التي نشرتها مسبقا للمجتمع الدولي بأنها دولة ناشئة تحترم المواثيق الدولية، مما جعلها تخسر ما جنته من مكاسب سياسية وعلاقات دبلوماسية مع اغلب دول العالم مما زاد من عزلتها إقليميا وامميا ودوليا.
هذه العزلة شكلت عبئا أكبر اقتصاديا وعسكريا على الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي ثم الجيش الإسرائيلي بعد ما شكلت فرنسا ضغطا على المجموعة الأوروبية بعدم استيراد اي منتجات من الأراضي المحتلة، وتسبب ذلك في أزمة فيض في الاقتصاد الإسرائيلي، بالإضافة إلى إغلاق قناة السويس وارتفاع أسعار البترول نسبيا.
وكان من أهم نتائج حرب ٦٧ الإيجابية لمصر والمنطقة العربية قيام الرئيس الفرنسي شارل ديجول بقطع العلاقات العسكرية مع إسرائيل تنفيذا لوعده لجمال عبدالناصر قبل الحرب بأنه سيقف مع الدولة التي لم تبدأ بالقتال وكان ذلك كفيلا بتغيير نمط التسليح الإسرائيلي كاملة من التسليح الفرنسي إلى الأمريكي مما تطلب تواجد قوات أمريكية على الأرض تساند إسرائيل وتساعد في التدريب على السلاح الأمريكي والذي استلزم سنوات لاستيعابه، هذا القرار من الرئيس الفرنسي كان سببا لجعل فرنسا حتى الآن أكثر الدول الغربية مناصرة للحقوق العربية تأثرا بالحقبة الديجولية وكانت في كثير من الأحيان تقف في وجه مناهض للولايات المتحدة الأمريكية وتتزعم به جبهة الرفض الأوروبية نذكر منها استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن ضد رغبة أمريكا في حرب العراق.
وصولا إلى الأزمة التي تسبب فيها الانتصار الزائف في ٦٧ في عدم قدرة إسرائيل الاقتصادية والعسكرية والبشرية في استيعاب التخمة المساحية بعد احتلال شبه جزيرة سيناء والجولان والضفة وتأمينهم مما جعل القوات الإسرائيلية في مرمى مرابض النيران المصرية يوميا وكلفها خسائر فادحة، مما دفع وللمرة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية في السعي لأكثر من مرة لوقف إطلاق النار والتمهيد لحلول سياسية ترضي الأطراف العربية وهو ما تم تتويجه باتفاقية روجرز.
في ضوء ما سبق.... اتفق دائما مع الرأي الذي يفرق بين دور السادات الكبير في الحرب بشكل عام الذي لا يمكن إنكاره. وبين دوره السياسي في توجيه إدارة الحرب وما تلاها وفقا لرؤيته ظنا من أنها ستتوافق مع مصلحة مصر العليا متخطيا أساسيات ومبادئ والتزامات ترسخت للدور المصري عبر الزمن ومتجاوزا لحقائق الجغرافيا والتاريخ التي شكلت الشخصية القومية المصرية مما انعكس على الدور المصري في المنطقة فيما بعد ...وأكثر الأخطاء انه من أجل أن يثبت صحة مقصده ، قام بسياسات قد اسعفته وقتها وتتفق مع المصلحة القومية ولكنها قد تتضارب مع الالتزام القومي التاريخي وقد تتعارض مع معطيات الأمن القومي والعربي على المدى البعيد داخليا وخارجيا مما انعكس ذلك على تغيرات حادة في ميزان القوى في الشرق الأوسط وانعكاسات مباشرة على الهوية القومية وعلى النسيج الاجتماعي المصري وعلى الدور المصري الذي لم يستطع أحد ملء فراغه فيما بعد.
نهاية...سأستعير كلمات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مقدمة كتاب الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قائلا:
هذا حديث أريد أن أخلصه للحق وأحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه ولا أمالي فيه حزبا على حزب....
فشأني لنشر هذا المقال ليس لهدف سوى إماطة الأذى عن مستقبل مصر الذي لن يرى النور سوى بإصلاح ذات البين بين صفوف مواطنيه، ولاستخلاص نظرة موضوعية لهذه الحقبة من تاريخ مصر التي نريد أن نعلي شأنها لأنها تمثل انتصارا للشخصية المصرية وجدارتها للريادة بدلا من فتح الباب لضعفاء النفوس من تشويه منجزات تاريخية ليس لسبب إلا لأهواء الشخصنة التي فاقت حب وكره الوطن فكما قال شوقي ...من يكذب التاريخ يكذب ربه ويسيء للأموات والأحياء، فبالفعل امثال هؤلاء اساءوا
للأموات والأحياء وأعطوا الفرصة لأعداء الوطن أن يستمتع بالنغم على نفس الوتيرة، فرأيت من واجبي اكتب ما بداخلي عملا بالمثل الكمبودي (اعرف تاريخك تعرف ذاتك، لتعلو الذات ويحيا التاريخ) فإن الأمة التي تستحي من تاريخها هي أمة لا تستحق الحياة.
وفي الختام أذكر نفسي وأذكركم بتحري الصدق والإنصاف والموضوعية امتثالا لقول الله تعالى..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
صدق الله العظيم.