منذ فترة ليست بالقصيرة، بدأت في القراءة عن تاريخ نهضة سنغافورة: تلك الدولة-المدينة عديمة الموارد، ولكنها استراتيجية الموقع، التي رحل عنها المستعمر البريطاني ونبذها الاتحاد الكونفدرالي الماليزي، ثم حاربها، لأسباب عرقية، فأضحت كتلة من الفقر والعشوائيات التي تفتقد أبسط مقومات الحياة في ستينيات القرن الماضي.
إلى أن جاء لي كوان يوو: "الطاغية الداهية"، الذي حول سنغافورة من دويلة يهيمن عليها الفقر ويسودها العنف والتوترات العرقية وإدمان الأفيون، إلى دولة رفاه متطورة، وثاني أسهل مكان لأداء الأعمال في العالم، ودولة تسحر كل من يزورها، بمن فيهم أنا عندما زرتها عام ٢٠٠٨.
باختصار شديد ومجحف، يمكنني تلخيص مسار لي كوان يوو للنهوض ببلاده في "خطة سباعية"، سبقتها قناعته بأن البلاد بحاجة إلى قبضة حديدية وتوجيه من أعلى هرم السلطة لا ينازعه أحد، من أجل تركيز كل القوى الشعبية والحكومية في الخروج من دوامة الفقر والعوز، دون تغير في القيادات أو الأجندات السياسية، والتي كثيراً ما يصاحبها تغيير في البوصلة والخطط. لذلك تلاعب حزبه (حزب العمل الشعبي "People's Action Party") بنتائج كل الانتخابات لضمان بقاء لي كوان يوو في السلطة.
"الخطة السباعية" الكبرى لنهضة سنغافورة، بحسب قراءتي لسيرة لي كوان يوو الذاتية (قصص سنغافورة "The Singapore Stories") كانت:
١. القضاء على العشوائيات والأحياء الفقيرة، واستبدالها بمساكن اجتماعية كبيرة تشبه ما ساد الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، ثم تشجيع الانتقال إليها من خلال طرح شققها بأسعار رخيصة، مع جعل السكن في منازل مستقلة أكثر صعوبة (مالياً وإدارياً).
٢. اقتطاع نحو٢٥٪ من رواتب الموظفين في صندوق خاص (في البداية كان صندوقاً للتقاعد، ولكن سُمح فيما بعد باستخدامه لشراء الشقق السكنية)، مع إلزام أرباب عملهم بدفع ٢٥٪ مماثلة في ذات الصندوق. هذا الصندوق أصبح فيما بعد نواة للاستثمار السيادي السنغافوري، والذي يتألف اليوم من ثلاثة صناديق بأصول مدارة تبلغ قيمتها ١٫٦٤ تريليون دولار أمريكي!
٣ الاستثمار بشكل هائل (ضع تحت كلمة هائل ألف خط) في التعليم العالي والتقني.
٤. تخفيض التعرفات الجمركية، إلى درجة الإلغاء التام، على البضائع المنتجة، ومنح الشركات والمستثمرين الأجانب فترات إعفاء ضريبي تصل إلى عشر سنوات.
٥. إنشاء شركات مملوكة للدولة تتلقى حوافز كبيرة، ولكنها تدار كالشركات الخاصة: الشركات الرابحة تبقى، والخاسرة تغلق (في التسعينيات، أجريت خصخصة جزئية لبعض هذه الشركات، مثل الطيران السنغافوري، وسُمح للعامة بامتلاك حصص فيها، مع حصول مواطني سنغافورة على أسعار أفضل للسهم من الأجانب).
٦. منع تكوين النقابات العمالية، وتشجيع أرباب العمل على تسريح موظفيهم بالكامل في حالة الإضراب (الهدف هنا هو تسريع عجلة الإنتاج وضمان عدم تعثرها).
٧. فرض عقوبات صارمة ورادعة، تصل إلى حد الإعدام، على موظفي الدولة المتهمين بالفساد. وفي نفس الوقت أيضاً، رفع رواتب موظفي الدولة بشكل كبير لتشجيعهم على عدم قبول الرشوة أو اتجاههم إلى الفساد (العصا والجزرة في نفس الوقت).
هذا الحكم والقيادة والرؤية جعل سنغافورة من بين الدول ذات متوسط الدخل الأعلى في العالم، وبلداً سياحياً واقتصادياً وصناعياً من العيار الأول، والدولة رقم ١٢ عالمياً على مؤشر التنمية البشرية، وذلك بعد أقل من ٥٠ عاماً فقط على صعود لي كوان يوو إلى الحكم.
للعلم، رئيس وزراء سنغافورة حالياً هو لي شيان لونغ، ابن لي كوان يوو.