الدكتور سعيد البطوطي يكتب: السياحة المفرطة Overtourism

ببساطة نعرفها على أنها "تأثير السياحة السلبي على الوجهة السياحية أو أجزاء منها، وعلى جودة حياة المواطنين و/ أو نوعية أو جودة تجارب الزائرين".
والسياحة المفرطة Overtourism عكس السياحة المسؤولة Responsible Tourism التي تدور حول استخدام السياحة لإنشاء أماكن ومجتمعات أفضل بالنسبة للسكان المحليين للعيش فيها، وأفضل للزيارة للزائرين.
هناك تحديات كبيرة تواجه العديد من الوجهات السياحية، وعلى رأس تلك التحديات إدارة التدفقات السياحية المتزايدة إلى المناطق الحضرية وتأثير السياحة على المدن وسكانها.
بحسب آخر إحصائيات قسم السكان بإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، يعيش ٥٥ ٪ من سكان العالم في المناطق الحضرية، وبحلول عام ٢٠٥٠ متوقع أن ترتفع النسبة إلى ٦٨٪ . التوقعات تشير إلى أن التوسع الحضري، والتحول التدريجي في الإقامة للسكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية يمكن أن يضيف نموا يقدر بحوالي ٢٫٥ مليار شخص آخر إلى المناطق الحضرية بحلول عام ٢٠٥٠، وأن ما يقرب من ٩٠٪ من هذه الزيادة تحدث في آسيا وأفريقيا.
وزيادة عدد السائحين عن الطاقة الاستيعابية لأي منطقة، بالقطع يؤثر سلبا على الموارد الطبيعية، إضافة إلى التأثيرات الاجتماعية الأخرى، كما يشكل ضغوطا على البنية التحتية والتنقل وغيرها من المرافق.
ولذا فالإدارة السليمة للمناطق والقياسات المستمرة للطاقة الاستيعابيةCarrying Capacity والتوازن ما بين مصلحة الزائرين للمكان والمقيمين على حد سواء، قضية أساسية في قطاع السياحة وواجب رئيسي للسلطات المحلية بالوجهات السياحية والقائمين على السياحة والحكومات.
وقد عرفنا الطاقة الاستيعابية للسياحة Tourism’s Carrying Capacity على أنها "الحد الأقصى لعدد الأشخاص الذين قد يزورون مقصدا سياحيا في نفس الوقت، دون التسبب في تدمير البيئة المادية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أو التأثر السلبي على جودة رضا الزائرين للمكان Quality of visitors’ satisfaction السياحة مستحيل أن تكون مستدامة إلا إذا تم تطويرها وإدارتها للأخذ في الاعتبار كل من الزائرين والمجتمعات المحلية.
تعد مواجهة التحديات التي تواجه السياحة الحضرية اليوم مهمة أكثر تعقيدا، وهناك حاجة ملحة لوضع خريطة طريق مستدامة للسياحة الحضرية ووضع القطاع في جدول الأعمال الحضري الأوسع.
وبالرغم من أن السياحة تقدم مساهمة مهمة من الناحية الثقافية والاجتماعية وتساهم ماليا في استقرار البلدان الناشئة والنامية، إلا أننا يجب ألا ننسى أن السفر مسؤول أيضا عن حوالي ٨٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية - والاتجاه آخذ في الارتفاع.
في العام الماضي، أدت الكوارث الطبيعية مثل إعصار إيان في فلوريدا أو الجفاف المرتبط بالحرارة في أوروبا إلى زيادة التحديات الوجودية للعالم. وفقا لتحليل أجرته شركة إعادة التأمين الألمانية Munich RE فإن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الكوارث المرتبطة بتغير المناخ بلغت ٢٧٠ مليار دولار أمريكي في عام ٢٠٢٢ (ما يعادل ٢٥١٫٥ مليار يورو)، ومن المرجح أن تستمر المخاطر وبالتالي التكاليف في الارتفاع في المستقبل.
ووفقا لمجلة السفر الأمريكية Fodor's Travel، فإن بعض وجهات السفر الشهيرة حول العالم تتأثر بشكل متزايد بالسياحة الجماعية التي وصلت إلى مرحلة السياحة المفرطة أو الزائدة عن الطاقة الاستيعابية المستدامة، ومن عواقبها مثل نقص المياه والتلوث البيئي، وبالتالي يجب تجنبها على الأقل في موسم الذروة.
وعلى مستوى العالم، قامت بعض الوجهات السياحية بالفعل باتخاذ تدابير أولية بهذا الخصوص، والتي أهمها:
- مدينة فينيسيا - إيطاليا
من المعروف أن المدينة تعد من أشهر وجهات السفر في العالم، وقد تجاوز عدد الزوار العام الماضي السعة الاستيعابية وتسبب في مخاطر الفيضانات. في الصيف الماضي، كانت المدينة تستقبل حوالي ٨٠ ألف زائر كل يوم - ونتيجة لذلك فرضت إيطاليا قيودا على وصول السفن السياحية إلى بحيرة البندقية للحد من السياحة الجماعية المفرطة. كان من المخطط في الواقع أن يدفع الزوار اليوم رسوم دخول (من ٣ إلى ١٠ يورو) اعتبارا من ١٦ يناير ٢٠٢٣، ولكن تم تأجيل الموعد بمقدار ستة أشهر أخرى.
- ساحل أمالفي Costiera amalfitana - إيطاليا
في موسم الذروة خلال أشهر الصيف، تزدحم المدن الساحلية الخلابة بساحل أمالفي في خليج ساليرنو على البحر التيراني بالزوار لدرجة أن هناك كيلومترات من الاختناقات المرورية على طول طريق Amalfitana الساحلي، ونتيجة لذلك أصبح من الممكن تعطل سيارات الإسعاف أو رجال الإطفاء.
ومن أجل ذلك وضعت السلطات المحلية (قاعدة لوحة الأرقام) في يونيو ٢٠٢٢ بهدف علاج الموقف - والتي تنص على أن المركبات التي لوحاتها تحتوي على أرقام فردية لا يجوز لها القيادة إلا على الطريق بين Meta di Sorrento و Vietri sul Mare في تواريخ فردية، والمركبات التي تحتوي لوحاتها على أرقام زوجية لا يجوز لها السير على الطريق إلا في الأيام الزوجية فقط.
- بلدية إتريتات Étretat التابعة لمنطقة نورماندي شمال غرب فرنسا
تجذب المنطقة بمنحدراتها الطباشيرية الخلابة الناس من جميع أنحاء العالم إلى فرنسا منذ عقود. في عام ٢٠٢١، بلغ عدد زوار المدينة الساحلية الصغيرة ثلاثة أضعاف عدد السكان المحليين، ولم يعد بإمكان المدينة التعامل مع تلك الزيادة، وفي العام الماضي كان لا بد من إغلاق محطة معالجة مياه الصرف الصحي لأعمال الصيانة لأنها لم تعد قادرة على التعامل مع تركة الحشود. ومن أجل ذلك كان على السلطات المحلية التعامل مع الأمر وإيجاد توازن ووضع حد للأعداد خاصة في مواسم الذروة.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك انهيارات أرضية متكررة بسبب حشود السائحين على المنحدرات.
لم يتأثر الساحل الشمالي لفرنسا فقط بالسياحة الجماعية، ولكن تأثرت أيضا جنوب البلاد في مرسيليا، نتيجة لذلك أدخلت حديقة Calanques-National Park الوطنية الشهيرة بالقرب من مرسيليا نظام حجز يسمح بحد أقصى ٤٠٠ زائر يوميا في الخلجان.
- جزيرة بالي Bali في إندونيسيا
يبلغ عدد سكان الجزيرة الإندونيسية حوالي ٤٫٥ مليون نسمة، وبالرغم من ذلك يردها حوالي ستة ملايين سائح سنويا، حيث تعتبر المركز السياحي لإندونيسيا. ولذلك أصبحت المجموعات السياحية مسؤولة عن حوالي ٦٥٪ من الاستهلاك الوطني للمياه، في حين أن المزارعون يفتقرون إلى المياه لزراعة حقولهم. بالإضافة إلى ذلك، تعاني بالي من مشكلة نفايات حادة منذ سنوات وتتراكم النفايات على الشواطئ وفي البحر وغالبا ما يحرقها السكان المحليون للتخلص منها، مما يؤدي إلى تلوث البيئة. من أجل ذلك، هناك دعوات بوضع حد لتلك المشاكل والتوازن ما بين الطاقة الاستيعابية للخدمات وأعداد الزائرين.
- جزيرة ماوي Maui في هاواي
الجزيرة الفاتنة تحظى بشعبية كبيرة لدى السائحين وتعاني حاليا من نقص المياه، حيث تستخدم الفنادق كميات من المياه يوميا أكثر بكثير من السكان المحليين. ونتيجة لذلك، فرضت حكومة هاواي قيودا على المياه العام الماضي، ووضعت حد لأعداد الزائرين.
- تايلاند
في عام ٢٠١٩ بلغ عدد السائحين الذين زاروا تايلاند ٤٠ مليون ، وكانت فرصة للدولة خلال فترة انحسار السياحة في فترة وباء COVID-19 للتجدد ومراجعة الخدمات والطاقة الاستيعابية للمناطق. المثال الأبرز هو خليج Maya Bay في Koh Phi Phi والذي تم إغلاقه تمامًا للتجديد بين يونيو ٢٠١٨ وديسمبر ٢٠٢١. بعد خمسة أشهر فقط من إعادة فتحه ، تم إغلاق الخليج مرة أخرى في مايو ٢٠٢٢ حيث تعرض الشاطئ مرة أخرى لأضرار من الحشود.
ومن أجل مواصلة التطور الإيجابي، أمرت الحكومة التايلاندية بإغلاق جميع المتنزهات، بما في ذلك مناطق الجذب السياحي مثل خليج Maya في Koh Phi Phi وخليج Phang Nga Bay بالقرب من بانكوك لمدة شهر واحد على الأقل كل عام، من أجل إعطاء الفرصة للأنظمة البيئية للتعافي.
- الغرب الأمريكي
استمر الجفاف في الغرب الأمريكي منذ ٢٣ عاما - ونهر كولورادو الذي نحت في الماضي جراند كانيون بدأ في الجفاف، ومنذ عام ١٩٩٨ لم تصل المياه إلى المحيط الهادئ إلا عند ارتفاع المد. نتيجة لذلك، بدأ المنسوب في خزانات المياه في بحيرة Mead وبحيرة Powell، وهما أكبر خزانين في الولايات المتحدة، يتراجع بسرعة.
المنطقة تحظى بشعبية كبيرة بين السائحين، ويعني انخفاض مستوى المياه أنه يمكن للزوار الآن ركوب قوارب الكاياك على الشواطئ المنشأة حديثا - على الرغم من أن حوالي ٤٠ مليون شخص يعيشون في المنطقة يعتمدون على المياه لأغراض الزراعة والأغراض المنزلية.
كما شهدت بحيرة Tahoe في كاليفورنيا أيضا زيادة كبيرة في أعداد الزائرين أثناء وباء COVID-19 حيث أصبحت مسارات المشي لمسافات طويلة المثالية في جبال Sierra Nevada فجأة مكتظة باستمرار وتكدست حركة المرور في كل مكان، مما تسبب في التلوث الكبير للهواء وللبحيرة التي كانت صافية تماما. لذلك تعمل السلطات المحلية على اتخاذ تدابير لتحقيق الاستدامة وقامت بتسيير مكوك مجاني يربط العديد من المواقع السياحية في North Lake Tahoe بالبحيرة وتجنب السيارات.
السياحة هي واحدة من القطاعات الاقتصادية القليلة التي تنمو بلا هوادة في جميع أنحاء العالم، مما يترجم إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والعمالة وتطوير البنية التحتية وعائدات التصدير، لذا من الأهمية بمكان الموازنة بين التأثيرات الإيجابية والسلبية للحركة السياحية، وضمان توافق السياحة مع احتياجات ومصلحة السكان المحليين. كما يجب أن تكون أجندة الأمم المتحدة وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، خاصة الهدف ١١ والذي ينص على: "جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة ومرنة ومستدامة" في مقدمة أولويات الجميع.