هل أضاع عبد الناصر السودان؟!!

هل أضاع عبد الناصر السودان؟!!
بقلم / عمرو صابح
انفصال السودان عن مصر من التهم التى يحاول خصوم جمال عبد الناصر إلصاقها به وبعهده، فهل كان عبد الناصر هو سبب ضياع السودان وانفصاله عن مصر؟
لنراجع معاً بعض الحقائق التاريخية عبر السطور التالية:
بعد ١٧ سنة من الاحتلال البريطانى لمصر عام ١٨٨٢ ، تم توقيع إتفاقية الحكم الثنائي للسودان بين حكومتى مصر وبريطانيا في ١٩ يناير عام ١٨٩٩، كانت حكومة مصر برئاسة مصطفى فهمي باشا ، وقد وقع الاتفاقية عن مصر بطرس غالي باشا وزير الخارجية المصري وقتها، وعن بريطانيا اللورد “كرومر” المعتمد البريطاني لدى مصر، ونصت المادة الأولى من الإتفاقية على أن الحد الفاصل بين مصر والسودان هو خط عرض 22 درجة شمالاً، وما لبث أن أُدخل على هذا الخط بعض التعديلات الإدارية بقرار من وزير الداخلية المصري بدعوى كان مضمونها منح التسهيلات الإدارية لتحركات أفراد قبائل البشارية السودانية والعبابدة المصرية على جانب الخط، وقد أفرزت التعديلات فيما بعد ما عُرف بمشكلة حلايب وشلاتين والتى تثار حتى الأن بين الحين والأخر من الطرف السودانى ، وقد حدث ذلك قبل ميلاد جمال عبد الناصر بحوالى ١٩ سنة.
الجيش المصري تم طرده من السودان عام ١٩٢٤ بسبب مقتل السير لى ستاك ، وكان جمال عبد الناصر وقتها عمره ٦ سنوات ويستعد لبدء الدراسة الابتدائية.
النحاس باشا وافق على منح السودان حق تقرير المصير عام ١٩٣٧ ، وجمال عبد الناصر عمره ١٩ سنة وقد التحق بالكلية الحربية فى نفس العام.
إطلاق أسم ملك مصر والسودان على فاروق تم بعد إلغاء معاهدة ١٩٣٦ فى أكتوبر ١٩٥١ وكان مجرد مسمى لا قيمة له فعلياً فى بلد محتلة ب80 ألف عسكرى إنجليزى وبها أكبر قاعدة بريطانية بقناة السويس.
مجلس النواب السوداني صوت بالإجماع علي الانفصال عن مصر سنة ١٩٥١ قبل ثورة جمال عبد الناصر بسنة.
محمد نجيب عندما زار السودان بعد ثورة ١٩٥٢ هاجمه السودانيون بالأحذية وهتفوا فى وجهه : لا مصري ولا بريطانى .. السودان للسودانى.
إسماعيل الأزهرى رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي ، نجح البريطانيون فى إغواؤه بأبهة الرئاسة واستقلال السودان فتحول من وحدوي إلى انفصالي ، وما حدث في مؤتمر باندونج لدول عدم الانحياز عام ١٩٥٥ هو خير دليل على رفض الرئيس عبد الناصر لإنفصال السودان ومحاولته عرقلته بكل السبل.
خلال المؤتمر ذهب وفد السودان برئاسة اسماعيل الأزهري لحضور المؤتمر ومعه مبارك زروق و حسن عوض الله وخليفة عباس، وجاء الوفد المصري برئاسة جمال عبد الناصر ،واعترض جمال عبد الناصر على أن يكون الوفد السوداني مستقلاً ،وطلب من الوفد السوداني أن يجلس في المؤتمر خلف الوفد المصري باعتباره جزءاً من مصر ،فرفض إسماعيل الأزهري ،وقال له “نحن على أبواب الاستقلال وسنكون دولة مستقلة ولابد أن نمثل الشعب السوداني لأن هذا المؤتمر يمثل الشعوب”،فرفض عبد الناصر ذلك وقال للأزهري «أنتم بلا علم يمثلكم وعليكم بالجلوس خلف العلم المصري» ، فتدخل عضو الوفد السودانى مبارك زروق على الفور وقال: نحن لدينا علم وأخرج منديله الأبيض من جيبه ،وقال هذا هو علمنا بعد أن وضعه على رأس قلمه ، وجلس وفد السودان بزعامة الأزهري منفردين عن الوفد المصري.
وما زال هذا المنديل حتى الأن موجوداً فى المعرض المقام عن مؤتمر دول عدم الإنحياز في باندونج بأندونيسيا.
وقد غضب الرئيس عبد الناصر من ذلك الموقف وقال لإسماعيل الأزهري «لن أسمح لك بالعودة للسودان عن طريق مصر» ، وبالفعل عاد الوفد السوداني عن طريق جدة بالمملكة العربية السعودية،وعند وصولهم لجدة لم يكن لديهم أموال كافية لشراء تذاكر للاستكمال رحلة العودة للسودان،فاستقبلتهم الجالية السودانية بجدة ، وذهبت بهم لمقر اتحاد أبناء دنقلا وقطعت لهم تذاكرالعودة للسودان ،وعندما تم الاستفتاء على الوحدة أم الانفصال عن مصر ، قام النواب السودانيون بالتصويت بالإجماع لصالح الانفصال.
فى كتاب (عبد الناصر والثورة الأفريقية) للسيد/محمد فائق رجل عبد الناصر للمهام الخاصة فى أفريقيا، قال فائق: رغم سعى مصر للوحدة مع السودان وبذلها كل المستطاع لتحقيق ذلك إلا أن إصرار السودانيين على الاستقلال جعل عبد الناصر يوافق على مضض ، وتكون مصر أول الدول التى تعترف باستقلال السودان ، ويضيف فائق كان لهذا القرار أثر هائل على صورة مصر فى أفريقيا لأنها رفضت حق الفتح ومنحت السودانيين حقهم فى تقرير مصيرهم،كما قرر الرئيس عبد الناصر إستمرار عمل المؤسسات التعليمية والثقافية المصرية فى السودان، كما ترك أسلحة الجيش المصرى هدية للجيش السودانى، ويرى السيد/محمد فائق أنه لكل ذلك عندما قرر الرئيس عبد الناصر بناء السد العالى لم يجد ممانعة من حكومة السودان التى وقعت مع مصر اتفاقية ١٩٥٩ .
وفى حوار صحفى للسيد/محمد فائق حول انفصال السودان كانت تلك إجاباته :
ما حقيقة انفصال مصر عن السودان وكيف تم هذا الانفصال؟
محمد فائق : قبل قيام الثورة كان الملك فاروق قد توج نفسه أسميا ملكا لمصر والسودان، بدافع من تأييد القوى الوطنية وللعلاقة التاريخية بين مصر والسودان والترابط الأسري، وقد نحت الثورة منحى مختلفا وذلك لوجود تيار كبير جداً داخل السودان يعارض الوحدة مع مصر.
كانت بريطانيا وأمريكا تغذيان هذا التيار وتحثانه على ضرورة الانفصال عن مصر، وعندما قبل الرئيس عبد الناصر فكرة تقرير مصير السودان أصاب الاستعمار الانجليزي بالذهول.
كان قبول عبدالناصر بهذه الفكرة لإيمانه بأن فكرة حق “الفتح” باتت أمرا لا يتماشى مع روح العصر، رغم إيمانه بأهمية الوحدة في وادي النيل، لكن من منطق أن تأتي الوحدة بإرادة شعبية جامعة وليس إكراهاً، وهذه النقطة حكمت علاقة الرئيس عبدالناصر بكل مشروعات الوحدة التي أتت بعد ذلك، لأنه كان يؤكد ضرورة أن تكون هذه الوحدة لا إكراه فيها ولا حتى شبهة إكراه، لكنها وحدة تقوم بإرادة الشعوب، وكان السبب الأساسي في ذلك أن عبدالناصر أراد إدخال تقرير مصير السودان في مفاوضات الجلاء مع الإنجليز عن مصر، لأنه كان ينظر إلى ضرورة تحرير السودان من الاستعمار الانجليزي أيضا، لأنه لا معنى لأن يخرج الإنجليز من السويس (مصر) ويبقوا في السودان، وبالإضافة إلى أنه سواء كان السودان في وضع الوحدة مع مصر ، أو قرر مصيره بالاستقلال فإن أمنه بالنسبة لمصر مهم جدا، وإذا ظل متحدا مع مصر فسيكون هناك ٧ حدود إفريقية أخرى واقعة تحت الاحتلال، وكان ذلك دافعا لدخول مصر في مواجهة شاملة مع الاستعمار، ففرنسا كانت موجودة في تشاد وإفريقيا الوسطى، وانجلترا موجودة في كينيا وأوغنداوبلجيكا موجودة في الكونغو.
الأمر الثاني كان عبدالناصر ينظر إلى أمن السودان من خلال حدوده لدول إفريقيا، وهو ما أدخل مصر في مواجهة شاملة مع الاستعمار القديم، وبالفعل بعد فشل عدوان عام ١٩٥٦ انتهت الإمبراطورية البريطانية.
سؤال : بعد الانفصال هل تخلت مصر عن عمقها الاستراتيجي في الجنوب؟
محمد فائق : لا طبعا، بدليل أنه بعد ١٩٦٧ تم نقل الكلية الحربية إلى الخرطوم وأنشأنا مطاراً هناك، وهو ما يعني أن السودان ظل هو العمق الاستراتيجي لأمن مصر، وقد عملت مصر “الثورة” على إقامة علاقة قوية ومتينة مع السودان ودول إفريقيا وساهمت في تحرير تلك الدول من الاستعمار.
مصر كانت ترغب في الوحدة لكنها كانت تأمل في تحقيقها عبر إرادة شعبية، غير أن حزب الاتحاد الوطني السوداني بقيادة إسماعيل الأزهري سعى إلى الاستقلال، فبادرت مصر بالاعتراف بالسودان كدولة مستقلة حتى تكسب مزيدا من الصداقة والعلاقة مع السودان، بل واستمرت في دعم الاستقلال باعتبار أن تأمين السودان هو بوابة مصر والثورة للدخول إلى إفريقيا لمساندة حركات التحرر من الاستعمار.
وفى إطار نفس القضية يذكر المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى الحقائق التالية عن مصر والسودان.
ان الإنجليز منذ أن احتلوا مصر (١٨٨٢) فرضوا سيطرتهم علي السودان، وترضية للخديوي عباس حلمي الثاني حتي يبتعد عن مصطفي كامل، أبرموا اتفاقيتين لحكم السودان ثنائيا بين مصر وإنجلترا (في ١٩ يناير، ١٠ يوليو ١٨٩٩) ،وكان في حقيقته حكما إنجليزيا خالصا وليس ثنائيا، لأن إنجلترا تختار الحاكم العام للسودان وهو إنجليزي ، وخديوي مصر يصدر أمر تعيينه، هذه واحدة.
أما الثانية فإن إنجلترا انتهزت فرصة اغتيال الجنرال لي ستاك سردار الجيش المصري في السودان (٢٠ نوفمبر ١٩٢٤) ، لتخرج الجيش المصري من السودان.
وظلت الحكومات المصرية تطالب بعودة الجيش المصري للسودان في معظم المفاوضات التي جرت مع بريطانيا من ١٩٢٧ إلي ١٩٣٦ دون جدوى.
وأما الثالثة فإن مصطفي النحاس عندما ألغي معاهدة ١٩٣٦ في ٨ أكتوبر ١٩٥١ومعها اتفاقيتي الحكم الثنائي للسودان ،أعدت حكومته مرسوما بمشروع قانون بأن يكون للسودان دستور خاص تضعه جمعية تأسيسية تمثل أهالي السودان.
فما معني أن يكون للسودان دستور بأيدي أبنائه.. هل يعني تبعية لمصر أم استقلال للسودان؟ وما معني كلمة النحاس في هذا السياق؟!!
والرابعة أن بريطانيا اشترطت في مارس١٩٥٣ للدخول في مفاوضات مع حكومة ثورة يوليو بشأن الجلاء ،أن توافق مصر علي مبدأ استقلال السودان بمقتضي استفتاء، فهل كان يتعين علينا أن نرفض استقلال السودان الذي ضمه محمد علي لولايته بالقوة في ١٨٢٢ ؟!!
وهل من اللائق أن تقوم ثورة في مصر تطالب بالجلاء والاستقلال وتمنعه عن أهالي السودان؟!!
حاول جمال عبد الناصر بكل السبل توحيد مصر والسودان لصالح شعب وادى النيل منذ اليوم الأول للثورة، ولكن الإنجليز خططوا للانفصال بين مصر والسودان منذ اللحظة الأولى لاحتلالهم لمصر عام ١٨٨٢ ، قبل أن يولد "جمال عبد الناصر" بـ ٣٦ سنة ، وقد نجحوا فى ذلك فعلا عبر الزعماء السياسيين السودانيين ، بل ونجحوا فى صناعة مشكلة شمال وجنوب السودان حتى انقسم السودان ذاته لدولتين فى ٩ يوليو ٢٠١١ ، عندما أُعلن عن ميلاد جمهورية جنوب السودان بعد٤١ سنة من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
وللأسف ما زال السودان معرضاً للمزيد من التقسيم.
-----------------------------------------------------------------------
المراجع :
- فى أعقاب الثورة المصرية .. الجزء الأول والجزء الثاني : عبد الرحمن الرافعي
- مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية : عبد الرحمن الرافعي
- حرب النهر :ونستون تشرشل.
- مذكرات الصاغ صلاح سالم.
- مصر والسودان : الانفصال بالوثائق السرية : محسن محمد.
- عبد الناصر والثورة الأفريقية : محمد فائق.
- ملفات السويس : محمد حسنين هيكل.