الارتزاق في إفريقيا: من أدوات الاستعمار إلى شركات الأمن العابرة للحدود

الارتزاق في إفريقيا: من أدوات الاستعمار إلى شركات الأمن العابرة للحدود
themalteseherald

بقلم: كريبسو ديالو

من يتتبع جذور ظاهرة الارتزاق في القارة الإفريقية يدرك أن الفاعلين فيها لم يكونوا مجرد مغامرين عسكريين أو أشخاص يسعون لتحقيق مكاسب مالية فحسب، لكن جزءًا لا يتجزأ من منظومة تعمل ضمن إطار مشروع سياسي واقتصادي أوسع يسعى إلى تأمين مصالح قوى دولية محددة في القارة. وقد مهدت هذه المنظومة الطريق لظهور جيل جديد من المرتزقة وشركات الأمن الخاصة التي استمرت في أداء أدوار مماثلة بواجهات وأساليب معاصرة.

أدت لحظة الاستقلال في إفريقيا، منذ ستينيات القرن العشرين، إلى نشوء فراغات أمنية مؤسساتية متعددة الأسباب استغلتها قوى دولية استعمارية سابقة وقوى ناشئة صاعدة عبر دعم مجموعات مسلحة غير نظامية (المرتزقة). وقد شكّلت الكونغو الديمقراطية، منذ استقلالها عام 1960، أول ساحة لاختبار هذه الديناميكية الجديدة، حيث تدخل مرتزقة أوروبيون، لا سيما الفرنسيون والبلجيكيون، لدعم انفصال إقليم كاتانغا بقيادة تشومبي. تم استخدامهم كأداة لتفكيك الحراك الثوري التحرري في البلاد بقيادة باتريس لومومبا، الذي اغتيل في يناير 1961 في مؤامرة تورطت فيها قوى بلجيكية وأمريكية. برز في تلك الفترة أسماء مثل روجر فوك، وجان شومالي، والمرتزق الفرنسي الشهير بوب دينارد، الذي أصبح رمزًا كلاسيكيًا للارتزاق المرتبط مباشرة بمصالح الشركات وأنظمة بعينها.

اشتهر بوب دينارد بكونه النموذج الأكثر بروزًا للمرتزق في إفريقيا ما بعد الاستعمار، حيث تدخل في أكثر من ثماني محاولات انقلابية ناجحة وفاشلة بين الستينيات والثمانينيات، لا سيما في جزر القمر وبنين وتشاد. كان دينارد يعمل غالبًا بعلم أو تواطؤ أجهزة الاستخبارات الفرنسية، ضمن سياسة "فرانس أفريك" غير الرسمية، التي حافظت بها باريس على نفوذها في مستعمراتها السابقة. شكّل جيشًا شخصيًا قوامه من مرتزقة أوروبيين وأفارقة من جنوب الصحراء، واستمر لسنوات في إدارة الأمن الداخلي للجزر وبعض دول غرب أفريقيا.

إلى جانب دينارد، برزت أسماء أخرى مثل البريطاني مايك هور، المولود في الهند البريطانية عام 1919، كان ضابطًا بريطانيًا خدم في الحرب العالمية الثانية. بعد انتهاء الحرب، انتقل إلى جنوب إفريقيا وعمل مرشدًا سياحيًا قبل أن يتحول إلى مرتزق. ارتبط اسمه بالحروب في الكونغو، خاصة خلال أزمة كاتانغا والانقلاب ضد باتريس لومومبا. في عام 1964، جُنّد هور من قبل الحكومة الكونغولية المدعومة من الغرب لقيادة وحدة مرتزقة تُدعى "5 Commando"، أغلبهم من جنوب إفريقيا وروديسيا. تم تكليفه بمحاربة متمردي سيمبا، وهم فصيل ثوري ماوي واسع الشعبية في شرق الكونغو. تحت قيادته، ارتكب "الكماندوز الخامس" مذابح وعمليات تعذيب واسعة، بدعم جوي أمريكي وبلجيكي. ورغم تقديمه في الإعلام الغربي كمغامر نبيل، فإن سجله مليء بالجرائم ضد المدنيين الكونغوليين. وقد دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في إطار مساعيها لاحتواء الشيوعية في إفريقيا. في 1981، عاد هور للأضواء بمحاولة انقلاب فاشلة في جزر سيشل، واعتُقل وسُجن في جنوب إفريقيا.

أيضًا جان شومالي، الذي وُلد عام 1929 في بلجيكا وكان مستوطنًا في الكونغو قبل الاستقلال. بعد إعلان استقلال الكونغو عام 1960، رفض التخلي عن الامتيازات الاستعمارية، وقرر القتال للحفاظ على النظام القديم. قاد شومالي في عام 1967 تمردًا مسلحًا في شرق الكونغو، بالتعاون مع جنود من كاتانغا والمرتزق الفرنسي روجيه فوك. أعلنوا العصيان على الحكومة المركزية في محاولة لإحياء سيطرة المستعمرين والموالين للغرب. عرف هذا التمرد باسم "تمرد المرتزقة"، وكان دموياً وعشوائيًا في قسوته. رغم دعمهم بتسليح غربي غير رسمي، فشل التمرد بعد تدخل القوات الحكومية بدعم من ميليشيات موالية لموبوتو سيسي سيكو. بعد فشل التمرد، فر شومالي إلى رواندا ثم إلى بلجيكا، حيث عاش في الظل حتى وفاته عام 1988 دون أن يواجه أي محاكمة على جرائمه.

فرانسوا باوتيست هو أحد أبرز الشخصيات في تاريخ الارتزاق في جنوب إفريقيا وروديسيا (التي تعرف اليوم باسم زيمبابوي)، حيث أسس شبكة واسعة من المرتزقة لدعم النظامين العنصريين في المنطقتين خلال فترة الفصل العنصري والحكم الاستعماري. وُلد باوتيست في منتصف القرن العشرين، وبدأ مسيرته العسكرية في صفوف القوات النظامية قبل أن ينتقل إلى العمل ضمن مجموعات المرتزقة الخاصة التي كان هدفها الأساسي حماية الأنظمة الاستبدادية البيضاء. لعب دورًا محوريًا في تنظيم وتجنيد المرتزقة الذين شاركوا في قمع الحركات التحررية ومواجهة المقاومة الشعبية ضد السياسات العنصرية، خاصة خلال النزاعات المسلحة في روديسيا وجنوب إفريقيا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. يُعتبر نشاطه مثالًا واضحًا على كيفية ارتباط الارتزاق بالمشاريع السياسية والاقتصادية الهادفة إلى استدامة أنظمة القمع والتمييز في إفريقيا، حيث استخدمت هذه الشبكات كأدوات فعالة لتثبيت النفوذ الاستعماري الجديد تحت ذرائع الأمن ومكافحة "الشيوعية" أو "الإرهاب".

روجيه فوك، المولود عام 1924، كان ضابطًا في الجيش الفرنسي وشارك في الحرب العالمية الثانية، ثم خدم في فيتنام والجزائر، حيث اتُهم بارتكاب أعمال تعذيب أثناء الحرب ضد جبهة التحرير الوطني الجزائرية. كان ينتمي إلى التيار اليميني المتطرف في الجيش الفرنسي، وعمل بعد خروجه كـ"مستشار عسكري" ومرتزق في الكونغو إلى جانب شومالي. في أزمة الكونغو، عمل مستشارًا للميليشيات الانفصالية في كاتانغا ثم شارك في التمرد المسلح عام 1967. استخدم خبرته في حرب العصابات والتعذيب ضد المدنيين والمناضلين المناهضين للاستعمار. ارتبط اسمه بعدة مجازر لم يُحقق فيها أبدًا. عاد فوك إلى فرنسا وتوارى عن الأنظار دون محاسبة، مثل كثير من جنود الاستعمار القدامى الذين انتقلوا بسلاسة من جيوش الدول إلى سوق المرتزقة.

بعد الاستقلال عن البرتغال عام 1975، البريطاني كوستاس جورجيو (العقيد كالان)، الذي كان يدعم القوي المناهضة للثورة أثناء الحرب الأهلية ارتكب مجازر مروعة داخل أنغولا، وانتهى به المطاف إلى الإعدام في محاكمة شهيرة في لواندا عام 1976. في التسعينيات، مع إعادة اشتعال النزاع، ظهرت شركات أمن خاصة بارزة مثل "Executive Outcomes" التي لعبت دورًا محوريًا في دعم الحكومة الأنغولية مقابل عقود في النفط والماس. مثلت هذه المرحلة تحولًا نوعيًا من الارتزاق الفردي إلى النشاط العسكري الخاص المنظم، ضمن شركات تقدم خدمات قتالية وتقنية وتدريبية لدول مقابل امتيازات في قطاع الموارد.

استعان الانفصاليون في بيافرا بعدد من المرتزقة الأوروبيين، أبرزهم: رولف شتاينر، ضابط ألماني سابق في الفيلق الأجنبي الفرنسي، أصبح أحد قادة الوحدات العسكرية البيافرية ولعب دورًا في التدريب والقيادة وتنظيم هجمات ضد القوات النيجيرية، واعتقل وسُجن بعد الحرب؛ وكارل غوستاف فون روزن، طيار سويدي قاد "سرب أطفال بيافرا"، نفذ عمليات قصف محدودة بطائرات مدنية معدلة ضد أهداف نيجيرية، وكان متطوعًا إنسانيًا مقاتلًا ضمن قوة غير نظامية؛ وتوفالد هيلفرشون، مرتزق نرويجي شارك في القتال مع قوات بيافرا، يعد مثالًا على التجنيد الأوروبي في الصراع.

مع دخول الألفية الثالثة، أصبحت ظاهرة الارتزاق أكثر تعقيدًا وانتشارًا، مدفوعة بعوامل مثل اتساع سوق الصناعات العسكرية الخاصة. مع تفكك المنظومة السوفييتية في مطلع تسعينيات القرن العشرين، واجهت بلدان أوروبا الشرقية موجة من "الإصلاحات" النيوليبرالية التي أدت إلى خصخصة مؤسسات الدولة، وتفكيك الجيوش، وتسريح أعداد ضخمة من الضباط والجنود دون توفير شبكات أمان اجتماعي. تزامن هذا التحول مع أزمة اقتصادية حادة دفعت آلاف العسكريين السابقين إلى البحث عن فرص بديلة للبقاء، الأمر الذي أدى إلى انخراط عدد كبير منهم في شبكات الارتزاق الدولية.

برزت جمهورية الكونغو الديمقراطية، في ظل حروبها الممتدة وصراعاتها الداخلية، كوجهة رئيسية لهؤلاء المرتزقة بالاخص من رومانيا، حيث استُخدموا في توفير الحماية لشركات التعدين الأجنبية العاملة في مناطق شرق الكونغو الغنية بالمعادن. وقد عمل بعضهم ضمن شركات أمنية خاصة مثل Saracen International، أو من خلال وسطاء محلّيين ودوليين. وفي هذا السياق، قدد تجدد الحضور الإسرائيلي من خلال شركات أمنية خاصة مثل Beni Tal Security وMER Group Security، اللتين قدّمتا خدمات أمنية واستخباراتية مباشرة للرئاسة الكونغولية. شملت هذه الخدمات تدريب الحرس الجمهوري، وتزويده بمعدات متطورة، من بينها مركبات مصفحة من طراز Plasan Sand Cat، وبنادق هجومية من نوع Tavor وNegev، إلى جانب أنظمة مراقبة وتشويش متقدمة. كما تولّت هذه الشركات مهام التأمين الشخصي للرئيس فليكس تشيسيكيدي منذ توليه السلطة، وذلك في إطار اتفاقات غير معلنة رسميًا.

لا يقتصر دور المرتزقة الرومانيين العاملين تحت مظلة الشركات الأمنية الإسرائيلية في الكونغو على المهام العسكرية أو الأمنية ذات الطابع المهني، بل يتجاوز ذلك ليأخذ طابعًا سياسيًا–وظيفيًا يخدم بنية السلطة القائمة، من خلال تشكيل ما يشبه اللوبي المتعدد الجنسيات، والذي يسعى إلى تأمين الحماية السياسية للنظام الكونغولي، لا سيما في مواجهة الضغوط والعقوبات الدولية. وفي هذا السياق، كشفت تقارير صحفية عام 2019 عن قيام الحكومة الكونغولية بتوظيف شركة الاستخبارات الإسرائيلية الخاصة Black Cube، التي تضم عناصر سابقين في جهاز الموساد ووحدات النخبة، لتنفيذ عملية سرية أُطلق عليها اسم "عملية الكولتان". استهدفت هذه العملية مراقبة وجمع معلومات عن شخصيات معارضة للنظام، والتجسس على اجتماعات وفعاليات سياسية داخل العاصمة كينشاسا.

شهدت السنوات الأخيرة تغييرات جيوسياسية بارزة على خط ظاهرة الارتزاق، تمثلت في دخول قوى جديدة إلى هذا المجال، من أبرزها الإمارات العربية المتحدة ودول من أمريكا اللاتينية. لعبت الإمارات دورًا محوريًا بتمويل وإدارة شبكات مرتزقة تعمل تحت غطاء "شركات أمن" ذات طبيعة مموهة، من بينها مجموعة "الذئاب الصحراوية" (Desert Wolves)، التي استقدمت جنودًا متقاعدين من دول أمريكا الجنوبية، لا سيما كولومبيا. وأفادت تقارير استخباراتية بأن هؤلاء المرتزقة تم نقلهم من قواعد في الإمارات إلى ليبيا ثم إلى السودان، للقتال إلى جانب مليشيات الدعم السريع (RSF).

اليوم أيضًا، المرتزقة الكولومبيون في بونتلاند، وهي منطقة شبه مستقلة في شمال شرق الصومال أعلنت استقلالها فعليًا في 1998، لكنها ليست معترف بها دوليًا كدولة مستقلة، يمثلون جزءًا من هذه الظاهرة.

لماذا كولومبيا؟ مع توقيع اتفاق السلام في عام 2016، وجد عشرات الآلاف من الجنود الكولومبيين المدربين أنفسهم بلا وظائف، وعندما وصلت الحكومة اليسارية الجديدة في كولومبيا برئاسة غوستافو بيترو، والتي نشأت من خلفية نضالية مسلحة، تبنّت الدولة خطابًا جديدًا للمصالحة وإعادة هيكلة القوات المسلحة، مما أسفر عن تسريح العديد من الضباط والجنود المرتبطين بسجل حافل من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد وجد كثير من هؤلاء، مستفيدين من تدريباتهم السابقة وعلاقاتهم مع الأجهزة الأمنية الأمريكية، سوق الارتزاق الدولي ملاذًا مربحًا وملائمًا.

تلعب المؤسسات الدولية دورًا أساسيًا في التواطؤ مع ظاهرة الارتزاق عبر تغاضيها المتعمد عن نشاطات هذه المجموعات، مما يمنحها حرية حركة شبه مطلقة. هذا التغاضي لا يقتصر على تجاهل وجود المرتزقة فقط، بل يمتد إلى تسهيل تأسيس شركات أمن خاصة تعمل تحت مظلات قانونية تبدو شرعية، لكنها في الحقيقة توفر غطاءً لنشاطات إجرامية تُستخدم لخدمة أجندات سياسية واقتصادية متعددة. هذا التغطية القانونية المزيفة تسمح للمرتزقة بالعمل والانتشار دون رادع، مما يجعلهم أدوات فعالة في توسيع النفوذ الخارجي داخل القارة الإفريقية دون الحاجة إلى تدخل عسكري رسمي قد يثير انتقادات دولية أو محلية.