الزاندي: الشعب واللغة والدين
بقلم الأستاذ الدكتور/ كمال محمد جاه الله الخضر
مدخل:
تعد قبيلة الزاندي إحدى القبائل الإفريقية الكبرى، التي حكم عليها الاستعمار الأوروبي (البلجيكي والبريطاني والفرنسي) بأن تتقاسمها ثلاث دول في أواسط قارة إفريقيا، هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية جنوب السودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى. وللخصوصية التاريخية والديمغرافية واللغوية والثقافية، التي تتمتع بها هذه القبيلة، تحاول هذه المقالة تسليط الضوء حولها، تعريفا بها، من منظور تكوين تاريخها، ولغتها، والأديان التي يعتنقها المنتسبون إليها.
الزاندي: دلالة اللفظة وإشكالية صفة "النيام نيام":
تطلق لفظة الزاندي Zande على قبيلة كبرى تعيش في أواسط إفريقيا، ويقال إن الأصوب أن تدعى باسم الآزاندي Azade ، إذ الشخص المفرد منها يسمى الزاندي، وهذه الألف الممدودة من علامات الجمع، في لغتهم، لكن اسم الزاندي طغا على الآزاندي في الكتابات التي تحدثت عن هذه القبيلة في العقود الأخيرة، لذلك سوف نعتمده هنا.
تعني كلمة الآزاندي الأشخاص الذين يمتلكون الكثير من الأراضي، وتشير إلى تاريخهم كمحاربين أشداء. وانطلاقا من ذلك فإن كلمة الزاندي (بصيغة الإفراد)، تطلق على الشخص الذي يمتلك الكثير من الأراضي، وتعبر عن تاريخه كمحارب أشدّ.
عرف الزاندي تاريخيا باسم آخر، هو "النيام نيام"، ويرى محمد عوض محمد أن هذا الاسم أطلقه الجغرافيون العرب في العصور الوسطى على سكان أواسط إفريقيا، والذي اشتقت منه كلمة "النمنمية"(في الأصل محاكاة مضغ الطعام). وكان أؤلئك الكتّاب لا يميزون بهذا الاسم شعبا بذاته، بل مجموعة سكان الإقليم الأوسط، الذي يشمل الكونغو وأعالي النيل، والذي اشتهر سكانه بالنمنمية. وبذلك يكون إطلاق هذه الاسم على الآزاندي دون غيرهم خطأ.
المهم في هذا المجال أن الأجانب كثيرا ما استخدموا اسم "النيام النيام" للإشارة إلى الزاندي في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. ومن المفترض إلى أنه يشير إلى نزعات أكل لحوم البشر. وقد كان هذا الاسم مستخدما للزاندي من قبل قبائل أخرى في جنوب السودان، ثم تبناه الغربيون لاحقا. ويعد إطلاق هذا الاسم اليوم تحقيرا لمن يوصف به.
الحق أن وصف قبيلة الزاندي بأنها آكلة للحوم البشر، ليس بمستغرب في بيئة تكثر فيها الخرافات والأساطير واللامعقول من الأخبار. وكثير من قبائل السودان (على وجه التحديد)- تورد عنها العجائب، لا سيما في كتابات من زاروا السودان في فترات محددة من تاريخه.
الحق أن وصف الزاندي بهذا الوصف يقف في الغالب خلفه أن المنطقة الواسعة، التي يسكنون فيها تشيع فيها ذبابة التسي تسي، التي تصعب فيها تربية الأبقار، وبالتالي تقل فيها اللحوم، فيفكر العقل الشعبي الجمعي، في كيف يعيش هؤلاء بغير لحوم؟ فلا يجد تفسيرا لهذا الموضع غير أن هؤلاء يعيشون على أكل لحم البشر، وذلك تفسير يروج له أعداء الزاندي، فيصبح بمرور الزمن وصفا لصيقا بهم.
الزاندي: الموطن الأصلي والتاريخ المشترك:
يرى س. ج. سليجمان أن الزاندي يختلفون عن غالبية قبائل السودان والكونغو في إمكان اعتبارهم "أمة" إلى حد ما، إذ يتألف الزاندي من اتحاد ينتظم مجموعة من القبائل، تخضع لرئيس واحد أو سلطان، ينتمي إلى طبقة معينة. وتنقسم أرض كل قبيلة إلى أقسام لكل منها رئيس، وهذه هي صفات الأمة (أو الشعب)، التي تتكون عادة من مجموعة من القبائل المتباينة- تراضت على العيش معا، وتنازلت عن خصوصياتها لتدين بخصوصية شاملة للجميع.
كما يرى سليجمان أيضا أن الزاندي أعظم قوة وأوفر ذكاء من معظم القبائل، التي تجاورها مثل: البونجو Bongo، والجورJur، والندوجوNdogo. ويضيف محمد عوض محمد في هذا المجال، أن بعض الكتّاب يرون أن الزاندي من أذكى سكان إفريقيا جنوب الصحراء، ولاحظوا أن لهم شغفا بأشياء عديدة. وأن أكثر أولئك الكتاب يرى أن أهم خصال الزاندي، تتمثل في: النظام والاحترام، والروح الحربية والنظام العسكري، والمهارة في العمل بأيديهم، وسرعة تقليدهم للأوروبيين، وقوة الاحتمال والشجاعة، ومظاهر النظافة، وهي صفات مميزة لها تقدير خاص في المجتمعات الإفريقية، قديما وحديثا، كما لها تقدير خاص أيضا لمن زار تلك المجتمعات من خارج قارة إفريقيا، وفي ذهنه أن إفريقيا موطن لغير تلك الخصال.
يشير المصطلح الإثني الزاندي Zande، وفقا لموقع الموسوعة، إلى مجموعة متنوعة ثقافيا من الشعوب، التي تمّ جمعها معا على مدى ٢٠٠ عام الماضية، تحت حكم عدد من الممالك المتميزة. وأن هؤلاء الزاندي لا يعرف سوى القليل من تاريخهم قبل هذه الفترة. وبدأت الروايات الموثوقة عن الزاندي في الظهور في منتصف القرن التاسع عشر فقط. مع ذلك، وبحلول الخمسينات من القرن الماضي، أصبح الزاندي معروفين جيدا لعلماء الأنثروبولوجيا من خلال الدراسات الإثنوغرافية، التي كتبها عالم الأنثروبولجيا البريطاني إدوارد إيفان برتشارد.
المهم في الأمر أنه كان اتحاد قبائل الزاندي، وفقا لسليجمان، إبان استعادة السودان (من الدولة المهدية)، وتنظيم الكونغو البلجيكية (بعد استعماره من قبل بلجيكا)، وهناك في السودان المستقل انقسمت هذه الأفواج، وسرعان ما طغت على الغالبية العظمى من أصحاب الرؤوس المتوسطة القاطنين على ضفاف روافد بحر الغزال، التي تتجه شمالا. وأصحاب الرؤوس المتوسطة تعني تلك القبائل التي تجاور الزاندي، مثل: البونجو والجور والندوجو.
أما في ما يخص الموطن الأصلي للزاندي- فإنه من المقبول على نطاق واسع أن أسلاف مجتمع الزاندي هاجروا من الغرب، ما يعرف الآن بجمهورية إفريقيا الوسطى إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، والمنطقة الجنوبية من السودان (جمهورية جنوب السودان حاليا)، ربما منذ ٣٠٠ عام. وتأتي تلك الهجرة للزاندي من الموطن الأصلي ضمن أهم الأحداث في تاريخ القارة الإفريقية، وهو تدفق هجرات قبائل الزنوج من غرب إفريقيا إلى وسطها. وقد تدفقت هذه الهجرات في تيارين متزامنين، هما: هجرات قبائل الزاندي، وهجرات قبائل البانتو، وعادة ما يشار إلى المنطقة التي انطلق منها الزاندي والبانتو إلى مناطقهم الحالية بمنجم اللغات والسلالات الإفريقية.
تذكر الموسوعة البريطانية أنه في القرن الثامن عشر، بدأ شعب يطلق على نفسه اسم أمبومو Ambomu، ويعيش على نهر مبومو Mbomu، تحت قيادة عشيرة أفونقارا Avongara الحاكمة، في غزو مساحات شاسعة من الأراضي في الجنوب والشرق، متغلبين على العديد من الشعوب التي احتفظ بعضها بلغاته الخاصة، بينما تم استيعاب الآخرين بالكامل. يشكل هذا المزيج شعب الزاندي الحديث. وخلال فتوحاتهم- قام سلسل العشيرة الملكية بتشكيل ممالك لأنفسهم، وكانت الحروب بين هذه الممالك المختلفة متكررة.
مهما يكن الأمر فإن تاريخ الزاندي- يشير إلى أن أساس السكان في هذا الإقليم الواسع في أعالي الكونغو والغزال، كان عبارة عن جماعات متفرقة من الأقزام، وقليل من الزنج مبعثرين متفرقين بأعدادهم في هذه البيئة الواسعة، التي تبدأ بالغابات الكثيفة في الجنوب، وتنتهي إلى الحشائش العالية في الشمال. ويبدو أن هذا الإقليم تعرض لبعض الضغط من الجنوب والشرق من بعض سلالات البانتو، ولكن هذا الضغط لم يلبث أن تلاشى أمام الموجات الزاندية المتتالية من الغرب من عناصر سودانية غربية (بمفهوم السودان التاريخي)، وقد ترتب على هذه الموجات الزاندية انتشار سلالات جديدة، واندماج القديم في الجديد، وتوحيد الثقافة، وتكوين ممالك منظمة في هذه المساحات الشاسعة.
الحق أنه لا يعرف الكثير عن تاريخ الزاندي، ولا الكيفية التي تعاملوا بها مع السكان الأصليين من أقزام وزنج ممن وجدوهم في المهجر الجديد، ولا الكيفية التي تكونت بها السلالات الجديدة، بعد هجرة الزاندي إلى المناطق التي يسكنونها حاليا. كما لا يعرف الكثير عن كيفية اندماج الزاندي مع غيرهم، ولا عن الممالك التي أسسوها.
الزاندي: المكونات العشائرية والمميزات الجسمانية والاقتصاد:
تشير بعض الكتابات التي تحدثت عن السلالات الإفريقية إلى أن من أكبر عشائر الزاندي عشيرة أفونقرا، وكورنقبو، وباندية. وتعد هذه العشائر الثلاث أصحاب السلطة في عهد مملكة الزاندي. وكذلك من العشائر الأخرى لقبيلة الزاندي عشائر: بنقاكوي، وبامبيا، وباندوقو، وبوقورو. وترتب نتيجة لكبر حجم قبيلة الزاندي كثرة العشائر المنضوية تحتها. ومن جهة أخرى لوحظ أن منصب القيادة العامة والزعامة في الأقاليم والمقاطعات، مقصور على طبقة الأفونجارا Avungara، ويقوم نظام السياسي على وجود زعيم بارز يحكم قبيلة، تتخذ حدودها الجغرافية حدودا مائية، بينما يحكم المقاطعات الصغرى أخته وأبناؤه، كما يقوم بعض أفراد الطبقة الدنيا بدور السفراء، حين يلزم الأمر.
أما الصفات الجنسية (الجسمانية) للشعوب العديدة التي تتألف منها أمة الزاندي- فإنها تختلف اختلافا كبيرا بين قبيلة وأخرى، كما هو متوقع. فقد رجح بعض الكتّاب أن البشرة الضاربة للحمرة، والتي يتصف بها كثير من الزاندي، تنهض دليلا على وجود اختلاط بالدم الحامي، كما أنه ظهر عند قياس إحدى مجموعات الزاندي في السودان كبر النسبة الرأسية، إذ بلغت ٧٩ في المتوسط، وبلغ طول القامة في المجموعة ذاتها ٦٥ بوصة (١٦٣٫٥ سم). ودلت الأقيسة في مجموعة أكبر تقيم في الكونغو على نقص النسبة الراسية بمقدار وحدتين (٧٧)، كما وصل طول القامة في بعض المجموعات الصغرى إلى ٦٩ بوصة (١٧٢٫٥سم).
اقتصاديا، يقوم الزاندي بالزراعة في المواسم الملائمة، مع شيء من المرونة في مواعيد البدء بالزراعة والحصاد، وهم يبذلون كل جهد في أعمالهم الزراعية بقدرما وسعهم الجهد، مع اتباع نظام الزراعة البدائية، الخالية من التسميد. ولعل انعدام الماشية (في مناطقهم بسبب تفشي ذبابة التسي تسي) من الأمور التي حالت دون التفكير في التسميد، ولذلك فإن المزارع من الزاندي يكتفي بزراعة ثلاثة محاصيل تبدأ مثلا ببعض البقول مثل الفول أو الحمص يليه الذرة ثم السمسم. كان ذلك في قديم اقتصاد مناطق الزاندي.
حديثا، وبعد الحرب العالمية الثانية، حاولت الحكومة البريطانية (المستعمرة للسودان وقتها)- تشجيع زراعة القطن جنوب السودان، في برنامج يُعرف باسم مخطط الزاندي. وقد فشل هذا البرنامج إلى حد كبير، ويرجع ذلك جزئيا إلى العزلة النسبية للزاندي عن الموانيء التجارجية. وبسبب هذه العزلة انتقل العديد من الزاندي إلى مدن أقرب إلى الطرق الرئيسية.
مهما يكن الأمر فإن الزاندي هم، حاليا، من صغار المزارعين. وتشمل المحاصيل التي يزرعونها: الذرة والأرز والفول السوداني والسمسم والكسافا والبطاطا الحلوة، كما تشمل الفواكه المزروعة في مناطقهم المانجو والبرتقال والموز والأناناس وقصب السكر. كما أن أراضي الزاندي في الوقت الحالي مليئة بزيت النخيل وزيت السمسم.
ومن الواضح أن التركيز على الزراعة في مناطق الزاندي مردّه إلى أن الحيوانات لا سيما الأبقار، يصعب عليها العيش في مناطقهم بسبب تفشي ذبابة التسي تسي، كما تمت الإشارة، وهي نوع من الذباب يصيب الإنسان والحيوان بما يسمى "مرض النوم". وفي المقابل تعد الأبقار الثروة الأساسية للقبائل الأخرى التي تجاور قبيلة الزاندي، وتعدها مصدر اقتصادها وفخرها.
الزاندي في الوقت الحاضر وتأثير الاستعمار الأوروبي:
حاليا، يعيش الزاندي بشكل أساسي في الجزء الشمالي الشرقي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي الجزء الجنوبي الأوسط والجنوب الغربي من جنوب السودان (المنفصل من السودان في يوليو ٢٠١١)، وفي جنوب شرق جمهورية إفريقيا الوسطي. يعيش الزاندي الكنغوليون في المقاطعات الشرقية، وتحديدا على طول نهر أويلي، وإيسيرو، وكيسجاني، ودوروما. ويعيش زاندي إفريقيا الوسطى في مناطق: رافاي، وبانجاسو، وأوبو. وأما زاندي جنوب السودان، فيعيشون في غرب الإستوائية وغرب بحر الغزال، في مدن: ياي، ومريدي، ويامبيو، وطمبرا، وديم الزبير، وواو، ومومواي.
تغطي أراضي الزاندي مساحة شاسعة من الأراضي- حوالي ٥٠٠ ميل من الشرق إلى الغرب- من أطراف حوض النيل الأعلى في جنوب السودان، إلى حدود الغابات المطيرة شبه الإستوائية في جمهورية الكونغو الديمقراطية. والمناطق التي تشكل كانت تشكل في الأصل جزءا من مملكة الأزاندي العظيمة التي دمّرها البلجيكيون، والفرنسية، والمهدية في السودان، وأخيرا البريطانيون في سياق التدافع الأوروبي على إفريقيا، بعد مؤتمر برلين الشهير عامي ١٨٨٤- ١٨٨٥.
هذا، إضافة إلى أن وجودهم في حدود ثلاث دول قومية حديثة- كانوا أكثر تعرضا لتأثيرات اقتصادات السوق، والتعليم التبشيري، والظواهر ذات الصلة، لذلك من الصعب إجراء تعميمات حول الزاندي ككل. وذلك بسبب الاختلاف الاقتصادي والديني والثقافي في البلد الذي ينتمون إليه، علاوة على طبيعة الاستعمار التي تعرض لها الزاندي في كل بلد.
يشير تاريخ الزاندي، إلى أنهم في فترات الاستعمار كانت مساكنهم متفرقة بشكل نموذجي. وكان النمط الشائع أن يعيش الرجال، الذين يتشاركون النسب الأبوي في نفس المنطقة العامة. وقد كان الكوخ الدائري هو مكان المعيشة الأساس، وكان محاطا بحدائق بمساحة فدان إلى فدانين. وخلال الفترة الاستعمارية أجبر العديد من الزاندي على الانتقال من هذا النوع من المستوطنات في محاولة مزعومة للقضاء على مرض النوم. وكانت النتيجة أن العديد من الزاندي، وجدوا أنفسهم يعيشون في قرى على الطراز الأوروبي، ذات شوارع متوازية ومستقيمة، وغالبا ما يعيشون بجوار أشخاص غرباء، وليس أقرباء. كان لهذا التغيير تأثير كبير على ثقافة الزاندي بشكل عام، وخاصة على مفاهيم الزاندي في السحر.
أخيرا، أشارت الموسوعة البريطانية إلى أن عدد الزاندي بلغ أكثر من ٣٫٨ مليون في نهاية القرن العشرين. وفي عام ٢٠٠٨، أشار موقع "الموسوعة" إلى أنه قدر أن ٣٫٨ مليون شخص يعتبرون أنفسهم من أصل زاندي، وذلك في الدول الإفريقية الثلاث، حيث توجد ما يمكن تسميته "أرض الزاندي" Zande land.
وبسبب طبيعة أرض الزاندي، التي تنتشر فيها أمراض تؤثر على الإنسان والحيوان معا، وبسبب التركيز على الزراعة، وقلة تربية الحيوان- فإنه يتوقع أن تزداد نسبة عدد السكان الزاندي، ولكن ببطء. ومن المتوقع أيضا أن تزداد المدنية وسطهم تأثرا بما تركه الاستعمار من تقاليد غربية، وجدت حظها وسط الزاندي في الدول الثلاث، التي ينتمون إليها.
تصنيف لغة الزاندي: الأسرة والفرع:
أورد بيرند هايني، في كتاب له عن اللغات المشتركة في إفريقيا، وهي حوالي ٤٠ لغة- أورد خمس لغات أبان أنها تمثل لغات التواصل المشتركة في السودان الأوسط وشمال إفريقيا، التي يعيش الزاندي في جزء منها، وهي: لغة الزاندي، ولغة السارا، ولغة الكانوري، ولغة المابا، واللغة العربية.
وقبل أن نتحدث هنا عن لغة الزاندي، لا بد من تقديم معلومات مختصرة عن اللغات الأربع الأخيرة، ابتداء من لغة السارا، التي تعد إحدى اللغات المحلية الكبرى، التي تتحدث في جنوب وجنوب شرقي تشاد. ومرورا بلغة الكانوري (البرنو)، التي تتحدثها ملايين عديدة حول بحيرة تشاد. وأكثر متحدثيها يعيشون في ولاية برنو شمال شرق نيجيريا، كما يوجد لها متحدثون في الأجزاء الشرقية من النيجر. ومرورا بلغة المابا (البرقو) التي تتحدث بصورة رئيسية في الجزء الشرقي من تشاد، وقد ارتبطت تاريخيا بإمبراطورية وداي. وانتهاء بالعربية التي تمثل اللغة الأولى واللغة الأكثر من حيث عدد المتحدثين في إفريقيا.
رجوعا إلى لغة الزاندي- فقد أورد بيرند هايني أن ملامح الوضع اللغوي لهذه اللغة لم تحدد بعد، إلا إن غرينبيرج قد أشار إلى أنها تنتمي لمجموعة أدماوا الشرقية في أسرة لغات النيجر كردفانية. وأبان أنه في وقت ما عبَر حوالي ١٨٠٠ شخص من المهاجرين عرفوا بـ"أفونقارا Avongara (فونقورا Vungura) نهر مبومو غرب شنكو، ودخلوا المنطقة ما بين نهر أوليلي ونهر مبومو، وتمكنوا من احتلال كل المنطقة بين بنقاسو في الغرب مريدي في الشرق، وسرعان ما فرضوا ثقافتهم ولغتهم على القبائل التي استولوا منها السلطة. وبذلك انتشرت لغة الزاندي كلغة مشتركة في كل تلك المنطقة، وتعلمها أفراد القبائل التي لم تكن تنتمي للزاندي، مثل: المادي في أعالي نهر أوليلي. وقد تخلت مجموعة كبيرة من القبائل عن لغاتها، وتبنت لغة الزاندي كلغة أم.
واسترسل بيرند هايني في القول بأنه إبان فترة الاستعمار قسمت أراضي الزاندي بين بلجيكا وبريطانيا وفرنسا- فقدت أمة الزاندي أهميتها. وبالتالي تراجع تأثيرها. وتبع ذلك أن استعادت اللغات التي توقفت عن الانتشار بسبب تراجع هيمنة لغة الزاندي- استعادت قوتها ومقدرتها على الانتشار. ولكن على الرغم من ذلك ما زالت لغة الزاندي تتمتع بانتشار واسع لم تحظ به كثير من اللغات الإفريقية، ويتحدثها كثير من الناس في الرقعة الواقعة بين خطي عرض ٣ و٦ شمالا، وخطي طول ٢٣ ٢٩ شرقا. وليس أدل على قوة انتشار هذه اللغة من تمتعها بالانتشار بين قبائل عديدة، وحظيانها بصفة لغة تواصل مشتركة.
تأكيدا لما أورده بيرند هايني أعلاه- فإن التصنيفات الحديثة للغات إفريقيا قد اعتمدت تصنيف جوزيف غرينبيرج للغة الزاندي، ضمن أسرة اللغات النيجر كردفانية، مجموعة لغات النيجر كونغو، فرع الأدماوا أوبانغي. وفي ما يلي سنقدم معلومات تفصيلية عن مجموعة النيجر كونغو، وفرع الأدماوا أوبانغي.
تصنّف مجموعة النيجر كونغو ضمن أسرة اللغات النيجر كردفانية، كما تصنف مجموعة اللغات الكردفانية ضمنها (ليست محل تركيزنا هنا). ومجموعة لغات النيجر كونغو تعد أكبر المجموعات من حيث عدد اللغات من أي مجموعة لغوية أخرى في قارة إفريقيا، إضافة إلى أنها أيضا أوسعها انتشارا(لانتماء لغات الفصيلة البانتوية إليها). وتضم هذه المجموعة ستة أفرع رئيسة، هي: فرع اللغات غرب الأطلسية: وتنتشر اللغات المنضوية تحته من موريتانيا والسنغال في الشمال إلى سيراليون وليبيريا في الجنوب، باستثناء اللغة الفولانية، التي تنتشر بعيدا إلى الشرق حتى الهضبة الإثيوبية، ومن لغاته: الفولانية، والولوفية. وفرع لغات الماندي: الذي تتحدث اللغات التي تنتمي إليه، بصورة رئيسية، في مالي، كما تتحدث في السنغال وغينيا وسيراليون وليبيريا وساحل العاج وبوركينافاسو. ومن لغاته: الماندنقو، والبمبرا. وفرع لغات غور أو فولتا: وتنتشر اللغات التي تكوّن هذا الفرع، أساسا، على امتداد نهر الفولتا في بوركينافاسو وغانا وتوجو وساحل العاج ومالي. ومن لغاته: الموسى، وتيم، ودوقون.
أما الأفرع الثلاثة الأخرى من مجموعة لغات النيجر كونغو، فتشمل فرع لغات الكوا: ويضم هذا الفرع أكثر من ٨٠ لغة، تنتشر بصورة واسعة، من ليبيريا في الغرب عبر ساحل العاج وغانا وتوجو وبنين، إلى نيجيريا في الشرق. ومن لغاته: الإيبو، واليوروبا. وفرع لغات بنوي كنغو: الذي تنتشر لغاته في مساحات واسعة، تبدأ من شرق وشمال شرق نيجيريا، ثم الكاميرون، ثم مساحات معتبرة من غرب إفريقيا، نزولا إلى دول الجنوب الإفريقي، حتى كيب تاون. ويقسم هذا الفرع إلى أربع مجموعات، وهي: بلاتو (دكركري). وكروس- ريفر (إفيك). والجوكونية (جوكون). والبانتوية (البانتو)، وهي أكبر مجموعة لغوية، إذ تحتوي وحدها على حوالي ٥٠٠ لغة. وأخيرا فرع لغات أدماوا أوبانقي، الذي تنتمي إليه لغة الزاندي، وينقسم هذا الفرع إلى قسمين: قسم أدماوا، وتوجد لغاته في جنوب شرق نيجيريا على الحدود مع الكاميرون، وأيضا في تشاد. ومن لغاته: واجا، وفالي. وقسم أوبانقي، ويشتمل على حوالي٣٠ لغة تتحدث في إفريقيا الوسطى والكاميرون والسودان. ومن لغاته: الزاندي، والبندا، والندوجو.
لقد قمنا بذكر معلومات شبه تفصيلة عن الأسرة اللغوية، التي تنتمي إليها لغة الزاندي، بالإضافة إلى الفرع الذي تنتمي إليه ضمن هذه الأسرة، وذلك بغية إعطاء صورة متكاملة لعلاقة لغة الزاندي باللغات الأخرى، في ضوء تصنيف جوزيف غرينبيرج للغات إفريقيا، التصنيف الأشهر في عالم اليوم.
من جهة أخرى أشارت تقديرات المتحدثين بلغة الزاندي التي تم الإعلان عنها في SIL Ethnologue، إلى ٧٣٠٫٠٠٠ في جمهورية الكونغو الديمقراطية، و٦٢٫٠٠٠ في جمهورية إفريقيا الوسطى، و٣٥٠٫٠٠٠ في (جمهورية) جنوب السودان. وهي إحصاءات لا تعبر عن العدد الحقيقي للزاندي، الذين قدرت أعدادهم، كما تمت الإشارة بأكثر من ٣٫٨ مليون نسمة، وذلك، على الرغم م أهميتها، فإنها تعود إلى عقود مضت، ولم يتم تحديثها، إضافة إلى أنها تعبر عن متحدث اللغة، وليس الانتماء الإثني.
الزاندي: الانتقالية المتسارعة من الأديان الإفريقية التقليدية:
قبل مجيء الإسلام والمسيحية إلى أراضي الزاندي- يضحى تصور عبادة الزاندي للديانات الإفريقية التقليدية أمرا مقطوعا به، بحكم شيوع هذه الديانات في أقاليم إفريقيا المختلفة. وبمجيئهما تغير الحال إما إلى المسيحية وإما إلى الإسلام، وأصبحت الديانات الإفريقية التقليدية في حالة انحسار مستمر، عبرت السنين، والأجيال، حتى أضحت تمثلها جيوب متناثرة في عدد من الأقطار الإفريقية.
قبل نحو قرن من الزمان- أوضح سليجان بأن عشائر الزاندي تسير بمقتضى النظام الطوطمي. وأن الراسخ في أذهانهم أن للفرد روحين، وأنه عند موته تنتقل إحداههما إلى الحيوان الطوطمي (المعبود)، بينما تظل الثانية ترفرف قريبة من القبر، ثم تذهب فيما بعد إلى أعالي مجاري المياه، حيث تنضم إلى أرواح أسلافها. وأن الأرواح هي معبوداتهم الأولى، وأن لكل بيت هيكلا تقدم إليه القرابين. أضف إلى ذلك أنهم يعتقدون في وحدة الكائن الأعظم، ويعرف لديهم باسم مبولي Mbole، يبتهلون إليه في أزمات الحرب والقحط.
وفي السياق نفسه أبان محمد عوض محمد أن الديانة عند الزاندي- تبدو كأنها تتألف من عناصر مختلفة متفاوتة الأهمية، وأن الآراء اختلفت في أهمية الديانة في حياة الزاندي. ثم أورد أهم العناصر التي ذكرها الكتّاب عن تلك الديانة، نوردها هنا باختصار:
١- التوكا Tuka: عندما يبني الزاندي كوخه يجعل في وسطه شيئا كالمحراب أو النصب لذكرى والده Tuka. وهذا النصب عبارة عن كومة من الطين، ثبت فيها عمود من الخشب مفتوح أعلاه بما يشبه السَبَت، حتى يمكن أن تلقى فيه الهبات.
٢- أجاليزا The Agalisa: وهؤلاء عبارة عن أرواح شريرة تختبيء وراء الصخور أو الأحجار، وتؤذي الزاندي في تجوالهم منفردين... ولا يعرف أن هناك صلوات أو عبارات تقال لتقلل من أذاها، وإنما هي مجرد عقيدة.
٣- مبوري Mbore: الكائن الأعلى، ويقال عن الزاندي إنهم يعبدون كائنا أعلى اسمه مبوري، وإنه يخلق الأرض والهواء والنار والماء والحيوان وسائر الكائنات، وإنه تحيط اسم مبوري خرافات وأساطير، ترقى لمستوى التفطير إلى الإله الواحد. ويقال إن الفكرة السامية التي تحيط باسم مبوري جاءت نتيجة للتعاليم المسيحية، كما إنه ليس للزاندي كهنة أو قسس أو هياكل أو طقوس أو مظاهر تقديس خاصة بهذا الإله.
ومن جانب آخر تشير الموسوعة البريطانية إلى أن دين الزاندي يركز على عبادة الأسلاف. كما يشير موقع الموسوعة إلى أن الزاندي، تاريخيا، مارسوا الأرواحية (الروحانية)، وأن معتقداتهم التقليدية تدور حول السحر والأوراكل Oracles. والأوراكل المشار إليها هنا تعني "طريقة لتحديد مصدر السحر المشتبه به، وكانت لفترة طويلة السلطة القانونية والنهائية والعامل الرئيس المحدد في كيفية استجابة المرء للتهديدات". كما يشير موقع ستنرغفكسر إلى أن المعتقدات التقليدية عند الآزاندي تشمل السحر والشعوذة. وأن من بين الزاندي من يعتقد أن السحر أو مانقو Mangu، وهو سائل أسود موروث في البطن يؤدي إلى وجود مستقل إلى حد ما، ولديه القدرة على أداء السحر السيء على أعداء المرء.
وبدخول الأوربيين إلى قارة إفريقيا حاملين معهم النسخة الثانية من المسيحية- شهد أواخر القرن التاسع عشر بداية تحول العديد من الزاندي إلى المسيحية، حتى صار ٨٥٪ من الزاندي مسيحيين، بينما يتبع ١٥٪ دينهم التقليدي. ويعرف أكثر من نصف الزاندي بأنهم رومان كاثوليك.
وفي هذا المجال- تورد موسوعة المعرفة بأن قبيلة الزاندي تعتنق الديانة المسيجية، حيث إن الأغلبية من الطائفة الكاثوليكية، وهناك أقلية مسلمة بالإضافة إلى معتنقي المتعقدات التقليدية. وأن للكنيسة الكاثوليكية في مناطق الزاندي (في السودان تحديدا) وجود من زمن بعيد، حيث تمثل منطقة مومبوي المعقل الرئيسس للنشاط الكنسي الكاثوليكي، تحت أبرشية مطرانية يامبيو وطمبرا، وهما من المدن الكبرى في مناطق الزاندي في جمهورية جنوب السودان.
يرى موقع الموسوعة أنه خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني في هذا الجزء من إفريقيا، فرضت السياسة توفير التعليم الرسمي من قبل ممارسين من مختلف الديانات المسيحية، وبالتالي، فإن التحول إلى المسيحية كان في كثير من الأحيان نتيجة لتعلم القراءة والكتابة. وتضيف موسوعة المعرفة في هذا السياق بأن الكنيسة لعبت دورا كبيرا في تنظيم المجتمع داخل مناطق الزاندي من تربية وتعليم لأبناء الزاندي بواسطة فتح المدارس، وتقديم الخدمات للمواطنين، ومن المعروف أن مجتمع الزاندي بعد احترام المملكة والخضوع للسلاطين- يحترم كذلك إنسان الزاندي نظام الكنيسة.
في الوقت الحاضر، يعتنق بعض الزاندي الإسلام، كما يدين آخرون بالمسيحية، لكن المعتقدات حول السببية والموت والمصائب لا تزال تدور حول مانجو Mangu. وبذا يكون الزاندي قد جمعوا بين الديانة المسيحية، الغالبة في مناطقهم، والإسلام دينا للأقلية، والديانات الإفريقية التقليدية، التي تتقلص مساحاتها إما إلى المسيحية أو إلى الإسلام.
خاتمة:
نخلص مما تم عرضه من محاور في هذا المقال- إلى جملة من النقاط، لعل أهمها:
أولا: أن الزاندي ليسوا قبيلة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنهم أشبه بالأمة أو الشعب؛ لأن الزاندي يتألفون من اتحاد، ينتظم مجموعة من القبائل، تخضع لرئيس أو سلطان واحد.
ثانيا: أن مناطق الزاندي في الدول الثلاث التي يعيشون فيها- تشكلت عن طريق الهجرة، إذ الموطن الأصلي لهم يقع في منطقة ما تعد جزءا من جمهورية إفريقيا الوسطى حاليا، وهي منطقة توصف عادة بأنها منجم السلالات والقبائل الإفريقية.
ثالثا: أن اقتصاد الزاندي قديما وحديثا قائم على التركيز على الزراعة، وذلك لصعوبة تربية الحيوان في مناطقهم، لا سيما الأبقار، بسبب تفشي ذبابة التسي تسي، التي تسبب أمراضا للإنسان والحيوان.
رابعا: أن الزاندي تأثروا كثيرا بالاستعمار الأوروبي، وبسبب هذا الاستعمار الذي برعوا في تقليده، تغيرت أنظمة مساكنهم، وتراجعت ديانتهم التقليدية وثقافتهم، كما تغير نمط حياتهم بصورة عامة.
خامسا: أن لغة الزاندي تنتمي إلى أسرة اللغات النيجر كردفانية، مجموعة لغات النيجر كونغو، فرع لغات الأدماوا أوبانغي، وتشاركها في هذا الفرع لغات تجاورها، مثل: البندا والندوجو وفيري وفيروقي وسنغو.
سادسا: أن مناطق الزاندي شهدت بمجيء المستعمر الأوروبي تحولا متسارعا من الانتساب إلى الديانة الإفريقية التقليدية إلى المسيحية في أغلب الأحيان، وإلى الإسلام؛ مما جعل الديانة التقليدية تتراجع إلى جيوب متناثرة في مناطقهم.
سابعا: أن الغالبية من الزاندي ينتمون إلى الطائفة الكاثوليكية، بسبب نشاط هذه الطائفة، التي لعبت دورا كبيرا في تنظيم مجتمع الزاندي،التي لعبت دورا كبيرا في تنظيم مجتمع الزاندي، وجراء تقديمها خدمات مهمة في مجال التربية والتعليم والخدمات عموما. غير أن ممارسات الكاثوليكية لا تخلو من تأثير الديانة التقليدية.