قضيَّتا الاندماج واستخدام العنف: قراءة في فكر كل من مالكوم أكس ومارتن لوثر كينج الأبن
الحلقة الثالثة
كتابة وتحليل: سهر العنطوزي
الباحثة في الشؤون الأفريقية
استكمالا لما بدأناه معكم في الحلقة السابقة، وبعد تقديم الرؤية الفكرية لمالكوم أكس فيما يتعلق بقضيَّتا الاندماج واستخدام العنف، في تلك الحلقة سيتم مناقشة أهم الأفكار التي تناولها مارتن لوثر كينج في خطاباته ومناظراته المختلفة للعامة والأكاديميين سواء كانت مسجلة تلفزيونية أو كتابية أو تم نشرها، وقد تم التركيز على الخطابات التي تناولت رؤيته و توجهاته حول مفهوم الاندماج مع الرجل الأبيض في إطار الكفاح في الحقوق المدنية للأمريكان ذو الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية، وموقفه من استخدام العنف لأجل الحصول على حقوق السود المهدرة.
الاندماج واستخدام العنف في فكر مارتن لوثر كينج الأبن.
أما مارتن لوثر كينج فقد تميز بقدراته الخطابية العالية خاصة في ظل مكانته المهنية في الأبرشية وأسلوبه الخطابي المقارب لأسلوب العديد من الأمريكيين ذو الأصول الأفريقية المنضمين إلى الكنيسة واقتباساته المتعددة من الإنجيل، من تلك الخطابات المتعددة: الخطاب العام الذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في العاصمة واشنطن في يوم 28 أغسطس 1963 إثناء مسيرة واشنطن للحرية، تلك المسيرة تكونت من حوالي ربع مليون شخص من مناصري الحقوق المدنية للسود في أمريكا وكان من ضمنهم سود وبيض، وتعتبر تلك المسيرة من أكبر التظاهرات السياسية للحقوق المدنية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وقد كانت لها انعكاسات سياسية واجتماعية إيجابية، ألقي مارتن الأبن خطابا في هذا المسيرة عٌرف إعلاميا وتاريخيا باسم خطاب "لدي حلم"[1].
بدأ مارتن الأبن في خطابه بالإشارة إلى إعلان تحرير العبيد الذي تم توقيعه في عام 1863، الذي وفقا لهذا الإعلان تم تجريم تملك وتجارة العبيد قانونيا في الولايات المتحدة، ومع ذلك فمازال العبيد غير محررين، حيث أوضح مارتن الأبن في خطابه بأنه: "بعد مائة عام، لا يزال الزنجي غير حر"، حيث أن الزنوج مازالوا مقيدين بأغلال الفصل العنصري و التمييز ضدهم على أساس اللون، بل أنهم منعزلين اجتماعيا ومعاشيا حيث يعانوا من الفقر لوحدهم بالرغم من إحاطتهم بالعدد من عوامل الازدهار المادي، وبالتالي فإن سبب هذه المسيرة هي المطالبة بوعد قديم من الولايات المتحدة فيما يتعلق بتحقيق العدالة لجميع الأفراد: الأبيض منهم والأسود، هذا الوعد الذي صاحب إعلان تحرير العبيد وإعلان الاستقلال، لكنه لم يتحقق، وإن الوقت حان لتحقيق هذا الوعد وتحقيق العدل وتجاوز ظلم قوانين الفصل العنصري الممارس ضد الزنوج، وأنه وفقا لمارتن الأبن لن يكون هناك راحة أو فترة هدوء أو سكينة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى يحصل الزنوج على حقوقهم المدنية وعدالتهم[2].
أما بالنسبة للاندماج مع الرجل الأبيض في المجتمع الأمريكي، فوضح مارتن الأبن التوجه إليه بحقيقة المصير المشترك، وإدراك "الإخوة البيض بأن حريتهم متربطة ارتباطا وثيقا بحريتنا" كما دلل على ذلك بوجودهم في المسيرة إلى واشنطن، وأكد مارتن الأبن في هذا الخطاب بأنه "لا يمكن السير لوحدنا"، وأضاف مقولته الشهيرة تأكيدا على رغبته بالاندماج كوسيلة لحصول الزنجي على حريته، حيث قال" لدي حلم بأنه يوما ما أبناء العبيد السابقين سيجلسون مع أبناء مالكي العبيد السابقين على طاولة واحدة، وأن تنتهي كلمات مثل الفصل والبطلان من قاموس حكام الولايات الجنوبية شديدة العنصرية، وإن يسير على أرضها جنبا بجنب أولاد وفتيات سود مع أولاد وفتيات بيض ممسكين الأيدي كأخوة وأخوات"، وأضاف كذلك بأن يحلم بأن يعيش أبناءه الأربعة في وطن يكون الحكم فيه على الشخصية بدلا من الحكم عليهم للونهم، وبالنسبة له هذا سوف يتحقق عندما يتم إزالة لافتات "للبيض فقط" و تحقيق العدالة والحرية بين أبناء الرب كلهم على هذه الأرض، ليصبح غناء النشيد الوطني الأمريكي له معني للسود والبيض سواسية[3].
تطرق كذلك مارتن لوثر كينج في هذا الخطاب إلى فلسفته تجاه استخدام العنف في ظل النضال لأجل الحصول على الحقوق المدنية للسود، فهو يتجه إلى استخدام سياسة اللاعنف بهدف "الحصول على مكاننا الصحيح"، حتي لا يكون السود في مشوار هذا الكفاح "مذنبين بالأفعال غير المشروعة"، تلك الأفعال كما وضحها تؤذي هذا الكفاح "الإبداعي" حيث يدعو مارتن الأبن من خلال سياسة اللاعنف الارتقاء بالقوة البدنية إلى مستويات عالية مع قوة الروح، فالمستويات العالية من الكرامة والانضباط وسيلة للحصول على الحرية للزنوج كما أوضحها "دعونا لا نسعي لإرضاء تعطشنا للحرية من خلال شرب كوب من المرارة والكراهية"[4]. توجه مارتن لوثر كينج الأبن لسياسة اللاعنف ورفضه القاطع للسعي لأجل الحصول على الحقوق المدنية من خلال العنف كان واضحة من قبل خطاب (لدي حلم) بل كان منذ بداية تفاعله في حركة الحقوق المدنية، لكنه تأكد من خلال خطابه الذي كتبه من السجن.
كتب مارتن لوثر كينج الابن خطابه الذي يٌعرف إعلاميا باسم "خطاب من سجن برمنغهام"، حيث في إبريل عام 1963، كنتيجة لقيادته ومشاركته المظاهرات والمسيرات اللاعنيفة ضد الفصل العنصري في مدينة برمنغهام بولاية ألاباما، سُجن عدد من المشاركين في المظاهرة من بينهم مارتن الأبن، هذه المسيرة تحدت الأمر الصادر عن محكمة الولاية بعدم إعطاء التصريح لهذه المسيرة، في يوم 12 أبريل كتب مارتن الابن خطابه الذي نُشر في الصحف كرد فعل عن بيان من ثمانية من قادة الدين ذو اللون الأبيض ينتقدوا فيه سياسات مارتن الأبن وأساليبه، فكتب الخطاب دفاعا عن إستراتيجية المقاومة اللاعنيفية ضد العنصرية وسياسات الفصل العنصري[5].
بناء على إستراتيجية مارتن الأبن للمقاومة السلمية، فإن هناك اربع خطوات يجب المرور بها قبل القيام بأي حملة سلمية، وهم: توافر حقائق لتحديد ما إذا كانت المظالم موجود، و خطوة التفاوض بنية سليمة، وخطوة تطهير النفس وأخيرا خطوة العمل المباشر، تلك الخطوات الأربعة يجب تطبيقها قبل القيام بأي مسيرة سلمية أو حملة مقاطعة، كما أوضح ماتن الأبن على توقيت المقاومة السلمية وحملات المقاطعة، فهي لا تتم عشوائيا وإنما بعد تخطيط، حيث بيتم التخطيط للمقاطعات في فترة التسوق الهامة للأعياد، ليكون هناك تأثير اقتصادي للمقاطعة وبالتالي استخدام السياسة الاقتصادية للضغط على التجار لتحقيق التغيير المطلوب، إن هدف المقاومة السلمية وحملات المقاطعة من خلال العمل المباشر هدفها إجبار المجتمع والقائمين على صنع القرار على اتخاذ أسلوب التفاوض، بعدما كان مخيرا فيه ويرفضه باستمرار، أصبح مع الضغط المجتمعي مجبرا عليه ولم يعد بذلك متجاهلا القضية المطروحة[6].
بالتالي فإن الهدف من المقاومة السلمية هو خلق توتر مجتمعي، هذا التوتر وفقا لمارتن الأبن هو توتر بناء سلمي ضروري للنمو، وقد شبه مارتن الأبن هذا التوجه بتوجه سقراط بخلق توتر عقلي يسمح بالأفراد من خلاله من الخروج من عالم مقيد بالأساطير والخرافات والأوهام إلى عالم غير مقيد يسمح بالتحليل الإبداعي والتقييم الموضوعي للقضايا، و بالتالي هذا التوتر الناتج من المقاومة السلمية من شأنه إن يساعد في نمو المجتمع بطريقة صحية، ومن الاهداف الأخرى التي أوردها مارتن الابن أن المظاهرات والوقفات السلمية تتيح للزنجي بأن يفرغ الإحباط والغضب والمرارة التي يكتمها جراء السياسات العنصرية ضده والأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشها، وهذا وسيلة لمنع تحول الولايات الجنوبية إلى بحر من الدماء كنتيجة لإحباط وغضب الزنجي المتراكم الذي يجعله ينضم للحركات المتطرفة العنيفة[7].
يمكن القول بأن دعوة مارتن لوثر كينج الابن للتفاوض من خلال المقاومة السلمية دليل على توجه الفلسفي والحركي نحو الاندماج مع الرجل الأبيض وليس الانفصال عنه كليا، بل هو يطالب بالعدالة والمساواة ضمن الاندماج. بالإضافة إلى تأكيده على المقاومة السلمية وأهميتها في تحريك الوضع الراكد المجتمع وتحقيق هدف الحصول على الحقوق المدنية، فأنه في هذا الخطاب يرفض رفضا قاطعا إي نوع من أنواع الفصل القائم على اللون لأن الفصل " يشوه الروح ويدمر الشخصية، فهو ليس فقط غير سليم من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل أنه خطأ أخلاقيا وأثم كبير"، سواء كان هذا الفصل رغبة من البيض أو السود على السواء[8].
إلي لقاء اخر في حلقة تالية ...
المصادر
[1] Drew D. Hansen, “The Dream: Martin Luther King Jr. and the Speech that Inspired a Nation”,( New York: Harper Collins eBooks, 2003), P. 177.
[2] Martian Luther King, Jr., “I Have A Dream …”, Speech at the March on Washington, (Maryland: The U.S. National Archives and Records Administration, 1963), Pp. 1:2.
[3] Ibid., Pp.: 3:5.
[4] Ibid., Pp: 2.
[5]Martin Luther King Jr., “‘Letter From Birmingham Jail’, The Atlantic, (Boston : The Atlantic Monthly Group, 1963), AT: https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2018/02/letter-from-birmingham-jail/552461/
[6] Idem.
[7] Idem.
[8] Idem.