الدكتور على الحفناوي يكتب: السياسة والمثل العليا في الوطنية

الدكتور على الحفناوي يكتب: السياسة والمثل العليا في الوطنية

فى شتاء سنة ١٩٣٣، كانت الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة الزعيم الشاب مصطفى باشا كامل، وكنت مشبعا بروحه إلى حد جعلنى أجهر وحدى على صفحات الأهرام بالدعوة لتمجيد هذه الذكرى الغالية. وفى ذلك التاريخ، كانت الوفدية آخذة بألباب الشبان لدرجة أن كثيرين من زملائي الجامعيين غضبوا على لمجرد الوفاء لأقدس رجل ثار ضد الاحتلال فى غفلة الشعب وخيبة الأمل. ولكن إيمانى بالفكرة مكننى من احتلال أفئدة بعض الزملاء، فتعاونوا معى وجعلنا نادى الجامعة المصرية معهدا ينبعث منه نور جديد يمزق حجب الأباطيل.

وقد أمكننا، نحن المجهولون المغمورون، أن نعيد إلى الأمة نشوة الوطنية الشابة، فقام منها من ألَف لجانا قومية لتمجيد مصطفى كامل وبعث تاريخه الذهبى. ونذكر بهذه المناسبة مقدار الجهد المبرور الذى بذله المرحوم داود بك بركات، رئيس تحرير الأهرام وقتئذ، فهو الذى غمرنا بعطفه وأتاح لنا فى صحيفته مكانا فسيحا بشرنا فيه بالفكرة القويمة، وكذلك صاحب السعادة على بك المنزلاوى، وكان وقتئذ وكيلا لمجلس النواب، فهو الذى سعى لدى الحكومة سعيا جديا فى ضرورة ترك حركتنا طليقة لأنه من أصدقاء الزعيم الخالد مصطفى كامل وممن تعاونوا معه فى فجر النهضة. ولا يفوتنى التنويه برجولة الزعيم الوقور محمد على علوبة باشا، الذى بدأت صلتى الوثيقة به من هذا التاريخ، والذى قام على رأسنا يدعو إلى تمجيد زميله ورئيسه القديم.

ولم يكن نشاطنا مقصودا به حفلات الذكرى بالذات، كما يفعل غيرنا ممن يتسترون بالأوهام، وانما كان غرضنا إحياء فكرة الكفاح ضد المغتصبين ودعوة الشباب إلى التطرف فى المثل الأعلى وهو طرد آخر جندى بريطانى من وادى النيل وجعل مصر كاملة الحرية لا يحدها احتلال أو حماية أو شبه حماية أو أى أثر من آثار التسلط الأجنبى.

والإنجليز قوم بعيدو النظر يقدرون مبلغ ما تؤول إليه مثل هذه الحركة الفتية البريئة، فأزعجهم مجرد ذكر مصطفى كامل الذى حطم بيده الصارمة عرش اللورد كرومر اثر فظيعة الفظائع فى دنشواى، ولم يسعهم إلا أن سلطوا علينا استبداد حكومة صدقى باشا وخصومة الصحف الوفدية فى نفس الوقت، حتى لقد صدر ضدى بلاغان رسميان، أحدهما من وزارة المعارف والآخر من وزارة الداخلية. وتلك الأخيرة صادرت الاجتماع ومنعت الموكب بقوة رجال الجيش والبوليس المدججين بالسلاح. وبجانب هذا، قاومتنا صحيفتا الجهاد وكوكب الشرق.

عندئذ عرفت أن عملى الضئيل لا شك محدث أثره، بدليل اهتمام الغاصب وأعوانه به وخوفهم من استفحاله. فمضيت فى سبيلى حتى كونت جماعة صغيرة لاتخضع لبرنامج حزبى وإنما تنشد الفكرة السليمة، وهى إقصاء الغاصب عن أرض الوطن. ورغم انقطاعى عن الجامعة اثر هذه الحركة سنتين قضيتهما بين جدران الحكومة، واصلت عملى دون أن أخضع لقيود الوظيفة أو أستسلم لأغلالها، فعاودت نشاطى فى نفس الدائرة فى فبراير سنة ١٩٣٥، حيث اجتمع بنا خلق كثيرون يعدون بالأولوف فى دار التمثيل العربى، وقد جردوا عقولهم من جراثيم التعصب الحزبى وأظهروا صادق إخلاصهم للمبدأ الخالد ونضامنهم مع الداعين إليه. وقد جاءت الأهرام فى ذلك الوقت بوصف دقيق لروعة الحفل وجلاله.

ومنذ سنة ١٩٣٣، اتصل بى شبان الحزب الوطنى القدماء، وعرفونى بالبقية الباقية من رجاله الكرام، ولكنى لم أتعاون معهم تعاونا جديا طوال فترة سكونهم وتخليهم عن الميدان. فلما قام حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا فى أوائل نوفمبر سنة ١٩٣٥ خطيبا فى اجتماع الجزيرة، ورأيت بعينى رأسى مبلغ التحول العظيم فى عقلية الطبقات المستنيرة، قابلت أستاذى الكبير عبد الرحمن بك الرافعى وأقنعته بضرورة العمل بلا تردد مظهرا فى حديثى كل تفاءل واهتمام.

وفعلا، عاود أولئك الأبرار من رجال الحزب الوطنى حركة الجهاد بصورة مرضية، فافتتحوا نادى الحزب، ورأيت ضرورة ضم جهودى وجهود زملائى أعضاء اللجنة القومية إليهم بصدق وإخلاص. وكنت قد قدمت استقالتى من الوظيفة بلا تردد حتى أقوم فى شئ من الحرية بواجبى الوطنى وأستكمل ثقافتى القانونية أيضا. واجتمعنا أول اجتماع على قبر الزعيم الخالد مصطفى كامل، حيث خطب الأستاذ الكبير حافظ بك رمضان فى يقين وقوة، وعاهدنا الحاضرين على التضحية فى سبيل مصر مهما كلفتنا من عمل ومال.

توقيع:

الطالب الجامعى مصطفى الحفناوى.

الصورة المرفقة من عام ١٩٣٣ (من ٩٠ سنة) على قبر الزعيم مصطفى كامل.