أم كلثوم... صوت يحمل ملامح مصر

في فضاء الطرب العربي، لم يسطع نجم كما سطع نجم كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم، تلك الصوت الاستثنائي الذي جمع العرب على عشقٍ واحد، وألهب المشاعر من المحيط إلى الخليج. لم يكن صوتها مجرد وسيلة للغناء، بل كان مرآةً لروح أمة كاملة، تجلى فيه وجدان الشعوب، ونبضت عبره أحلامهم وآلامهم. لقد أصبحت أم كلثوم أكثر من مطربة، بل أيقونة ثقافية وقومية، وصوتًا للوطن العربي في لحظاته الكبرى.
وُلدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، الشهيرة بأم كلثوم، في الرابع من مايو عام 1898 بقرية طماي الزهايرة التابعة لمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية. نشأت في بيت متواضع، وكان والدها يعمل مؤذنًا ومنشدًا دينيًا، فنشأت في أجواء روحانية أثرت وجدانها، وكانت نواة لتكوينها الفني. منذ نعومة أظافرها، لفتت الأنظار بعذوبة صوتها، وبدأت تردد أناشيد أبيها وأخيها خالد، حتى اصطحبها والدها معه إلى حفلاته، لتنطلق معه في جولات عبر قرى ومدن مصر، وتخوض أولى تجاربها الفنية على أرض الواقع.
عام 1922، حطت أم كلثوم رحالها في القاهرة، بدعوة وتشجيع من الشيخ أبو العلا محمد، أحد رموز الموسيقى آنذاك. وسرعان ما تعرّف إليها الشاعر الكبير أحمد رامي عام 1924، عندما سمعها تؤدي إحدى قصائده، فبدأت بينهما رحلة طويلة من التعاون الفني والإنساني، تركت بصمات خالدة في تاريخ الأغنية العربية.
ومع انطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، فتحت أمامها أبواب الشهرة الواسعة، لتصبح صوتًا يوميًّا في بيوت المصريين والعرب. قدمت أم كلثوم خلال مسيرتها ما يزيد على 700 أغنية، وتعاونت مع نخبة من كبار الملحنين، مثل زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب، محمد الموجي، بليغ حمدي، وكمال الطويل، وغيرهم.
لم تكن أم كلثوم فنانة تكتفي بالطرب، بل كانت حاملة لقضايا الوطن والأمة. بصوتها شاركت المصريين والعرب أفراحهم وأحزانهم، فغنت لمصر قائلة:
"مصر التي في خاطري وفي فمي.. أحبها من كل روحي ودمي"
وغنت من شعر حافظ إبراهيم:
"وقف الخلق ينظرون جميعًا.. كيف أبني قواعد المجد وحدي"
لم تكتفِ بالغناء داخل الوطن، بل سخّرت فنها لدعم القضايا الوطنية، فجابت العواصم العربية والأوروبية في حفلات خصصت عائدها لصالح مصر، وخاصة بعد نكسة 1967. وبهذا، لم تكن مجرد مطربة، بل "سفيرة للفن العربي" بأرقى معاني الكلمة.
خاضت أم كلثوم أيضًا تجربة السينما، فشاركت في ستة أفلام ناجحة كان أولها "وداد" عام 1936، ثم "نشيد الأمل" (1937)، "دنانير" (1939)، "عايدة" (1942)، "سلامة" (1944)، وأخيرًا "فاطمة" عام 1946، الذي حقق نجاحًا كبيرًا. لم تكن هذه الأفلام مجرد استعراض لصوتها، بل كانت جزءًا من مسيرتها الفنية المتكاملة.
حصلت أم كلثوم على جواز سفر دبلوماسي تقديرًا لقيمتها الفنية والوطنية، كما كرّمتها عشرات الدول العربية والأجنبية. لكن يبقى أعظم أوسمتها هو ذلك الحب العارم من الجماهير، الذي بقي خالدًا في القلوب حتى بعد رحيلها.
في 4 فبراير 1975، ودّعت أم كلثوم الحياة، في جنازة مهيبة قلّ نظيرها، حضرها أكثر من أربعة ملايين مشيع. كانت جنازة وطنية وشعبية بامتياز، سارت فيها جموع المواطنين حزينة، مودعة الصوت الذي شكّل وجدانها لعقود، وظلت دموع الملايين تفيض كلما انبعث صوتها من إذاعة أو شاشة.
ختامًا، تبقى أم كلثوم حالة فنية وإنسانية فريدة، حملت صوت مصر إلى آفاق العروبة، وجعلت من الغناء لغة للمقاومة، ورسالة للوحدة، وأداة للتنوير. ستظل خالدة في الذاكرة، كصوت لا يُنسى، وملامح مصرية لا تغيب.
المصدر:
الهيئة العامة للاستعلامات المصرية