جمال عبد الناصر ويهود مصر

بقلم : عمرو صابح
في عام 1954 قال الرئيس جمال عبد الناصر:
" إن المعركة بيننا وبين الصهيونية لم تنته بعد، بل لعلها لم تبدأ بعدُ، فإن لنا ولها غداً قريباً أو بعيداً، نغسل فيه عاراً، ونحقق أمنيةً، ونسترد حقاً ".
على امتداد سنوات حكمه بل وقبلها ومنذ اندلاع حرب فلسطين عام 1948 ، خاض جمال عبد الناصر ضابطاً وحاكماً صراعاً ضارياً ضد الصهيونية العالمية ممثلة فى دولة إسرائيل .
كان جمال عبد الناصر أحد أبطال حرب فلسطين عام 1948، فقد دخلت الكتيبة السادسة من الجيش المصرى التى كان يشغل منصب رئيس أركانها إلى فلسطين فى يوم 15 مايو 1948 ، وقد أصيب عبد الناصر برصاص اليهود مرة قبل حصار الفالوجة ، وكان واحد من أفراد القوات المصرية التى حوصرت فى الفالوجة بدءً من يوم 21 أكتوبر 1948 ، وأصيب خلال الحصار مرتين ، وكاد أن يفقد حياته ، و حصل على نجمة فؤاد العسكرية لشجاعته فى القتال.
كانت حرب فلسطين وفساد الإدارة السياسية والعسكرية المصرية وحصار القوات المصرية فى الفالوجة هى الأسباب الرئيسية التى دعت جمال عبد الناصر للبدء فى الإعداد للقيام بالثورة ، فقد رأى جمال عبد الناصر أن الحل لمأساة مصر يتلخص فى الإطاحة بنظام الحكم الفاسد الذى قاد البلاد إلى الهزيمة .
فى فجر يوم 23 يوليو1952 يفجر جمال عبد الناصر الثورة المصرية ، ويطيح بالنظام الملكى المصرى الذى تسبب بتخبط قراراته وسوء إدارته فى خسارة الحرب عام 1948، قبل أن تنتصر إسرائيل فعلياً على أرض المعركة وتغتصب 78% من مساحة فلسطين .
لمس جمال عبد الناصر مأساة فلسطين على الأرض عن قرب ، وأدرك الهدف الحقيقى من زرع إسرائيل فى قلب العالم العربى ، وأيقن أن أمن مصر القومى موجود خارج حدودها ، لذا عندما كتب كتابه الشهير ( فلسفة الثورة ) حدد الدوائر التى سوف تتحرك من خلالها السياسة الخارجية المصرية من خلال نظرية الدوائر الثلاثة المتداخلة ، وهى الدائرة العربية ثم الدائرة الأفريقية ثم الدائرة الإسلامية ، ومن خلال العمل عبر تلك الدوائر ، وأولها الدائرة العربية حدد جمال عبد الناصر هوية وانتماء مصر العربى ، وعقب استقرار الأمور للرئيس جمال عبد الناصر على الصعيد الداخلى فى مصر ، قام بتكليف أجهزته بدراسة أوضاع العالم العربى ووضع الخطط لتحريره من الاستعمار ، إيمانا منه أن حرية العرب من حرية مصر ، وان استقلال مصر سيظل منقوصا طالما لم تتحرر كل الدول العربية .
عندما قرأ دافيد بن جوريون مؤسس إسرائيل كتاب ( فلسفة الثورة ) لجمال عبد الناصر ، قال أن هذا الكتاب أسوأ من كتاب ( كفاحى ) لهتلر ، لأن قيام النظام الجديد فى مصر بدور قيادى نشط فى الشرق الأوسط سيدفع بالأمور تجاه الحرب مع إسرائيل .
لم تكن حروب مصر مع إسرائيل من أجل العرب فقط بل من أجل مصر فى المقام الأول ، لقد أُنشئت إسرائيل لعزل مصر فى أفريقيا و للاستيلاء على دورها فى العالم العربى .
يقول رئيس الوزراء الإسرائيلى دافيد بن جوريون لوزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس فى 14 مايو 1953:
" انكم مهتمون بمصر وأود أن ألفت نظركم إلى أن إسرائيل تملك نفس المزايا التى تملكها مصر ، فكلاهما يطل على البحر الأبيض والبحر الأحمر وما بين ميناء إيلات و ميناء حيفا يمر نفس الشريان الحيوى الذى يمر بين بورسعيد و السويس وهو مهيأ لحفر قناة جديدة تصل مابين البحرين ، وأنا لا أعرف لماذا يريد المصريون أن نخرج من النقب ، إن لديهم صحارى بأكثر مما يكفيهم و لديهم أرض تزيد عن حاجتهم وحجم بلادهم يساوى 36 مرة حجم إسرائيل ".
كان صراع مصر مع إسرائيل هو أكبر تحدى خارجى واجهه الرئيس جمال عبد الناصر خلال فترة حكمه ، لعبت إسرائيل خلال ذلك الصراع دور رأس الحربة للاستعمار من أجل اجهاض المشروع الناصرى ، وحتى اللحظات الأخيرة من حياة جمال عبد الناصر كان صراعه مع إسرائيل مستمراً ، ولكنه لم يكن في صراع ضد اليهود المصريين أو ضد الديانة اليهودية.
قبل ثورة 23 يوليو 1952 كان لليهود وجود كبير في المجتمع المصري سياسيا واقتصاديا وفنيا واعلاميا ، وقد ساهم أغنياءهم في دعم الحركة الصهيونية في فلسطين لتأسيس إسرائيل ، كما أن الصحافة اليهودية في مصر في العهد الملكي روجت لقيام دولة إسرائيل ، وعبرت عن أماني الصهاينة ، وعملت على تثبيط همة المصريين عن الدفاع عن فلسطين ،وبعد الثورة لعب بعض اليهود المصريين دورا ضد مصر في عملية لافون الشهيرة لتحطيم العلاقات المصرية الأمريكية في عام 1954 ، ولكن الرئيس عبد الناصر لم يتعامل مع كل اليهود المصريين كأعداء ولم يأمر بطردهم.
بعد نهاية حرب 1956 ومع اتساع إجراءات النظام الناصري في السيطرة على الاقتصاد المصري وتخليصه من سيطرة الأجانب واليهود عليه ، بدأت أعداد كبيرة من اليهود في الهجرة خارج مصر بإرادتها بحثا عن فرص حياة أفضل.
لا توجد وثائق لنسف أكذوبة طرد الرئيس عبد الناصر ليهود مصر أفضل من أقوال الرئيس عبد الناصر ذاته ، والتي أعرضها في السطور التالية:
من حديث الرئيس جمال عبد الناصر مع "وليام أتوود" رئيس تحرير مجلة لوك الأمريكية فى 4 مارس 1968
- سؤال: ما هو وضع اليهود المصريين؟ كم عدد من لا يزالون منهم فى مصر؟ وكم عدد من لا يزالون منهم فى الاعتقال؟
* الرئيس: هناك نحو ٣٤٠٠ يهودى فى مصر، وفى شهر يونيو اعتقلنا نحو ٣٠٠ يهودى حامت الشكوك حول أنهم عملاء لإسرائيل، ولم يبق منهم فى الاعتقال الآن سوى ١٥٠، أما الباقون فقد أطلق سراحهم.
----------
من حديث الرئيس جمال عبد الناصر مع "سولزبرجر" مندوب مجلة "نيويورك تايمز" فى 26 فبراير 1969
سؤال: ما هو رأيكم فى وضع اليهود الذين يعيشون الآن فى الدول العربية بعد عمليات الإعدام فى بغداد؟ وما هو مركز الطائفة اليهودية فى مصر؟ وهل اليهود الذين يعيشون الآن فى مصر أحراراً فى مغادرتها إذا ومتى أرادوا؟
* الرئيس: أريد أولاً أن أتحدث عن موضوع الإعدام فى بغداد، يؤسفنى أن أقول: إن الصحافة فى كل الدول الغربية حاولت أن تصور المشكلة على أساس إعدام اليهود؛ إنها لم تكن إعدام اليهود، بل إعدام الجواسيس، لقد كان بعضهم من المسلمين وبعضهم من المسيحيين، ولم تكن مطلقاً إعداماً لليهود. وحدث فى بغداد أن نفذت بعد ذلك أحكام بالإعدام على عدد من الناس وكانوا جميعاً من المسلمين، ولكنهم كانوا أيضاً جواسيس.. لم تكن مسألة إعدام مسلمين أو مسيحيين أو يهود، بل إعدام جواسيس.
وعندنا هنا فى مصر حوالى خمسة آلاف يهودى، منهم قرابة مائة محتجزون؛ لأنهم صهيونيون ولهم صلات مع إسرائيل، وقد اعتقلوا بعد الحرب، والذين يريدون مغادرة البلاد يستطيعون مغادرتها، وهناك كثيرون حصلوا على إذن بمغادرة البلاد، والباقون يعيشون كمصريين لهم كل الحقوق.
إن الإسرائيليين يثيرون دعايات كثيرة ضدنا؛ أمس كنت أقرأ تقريراً عن زيارة الصليب الأحمر فى غزة.. هناك ٦٠٠ عربى فى سجون غزة، وإذا تحدثنا عن بقية الأراضى المحتلة وجدنا أن هناك آلافاً اعتقلهم الإسرائيليون، لكن ذلك كله يُنسى ثم يتركز الكلام حول من احتجزناهم من اليهود لدواعى الأمن، وهم قلة قليلة!
- سؤال: هل ترون فى الظروف الحاضرة أن اليهود فى الدول العربية ينبغى ألا يُسمح لهم فقط بالهجرة، بل يشجعون عليها؟
* الرئيس : اليهود ساميون مثلنا، وموسى مولود فى مصر، ولكن (ضاحكاً) لا تركز على هذه النقطة حتى لا تتخذها إسرائيل مطلباً، إنهم يقولون إننا معادون للسامية، وهذا غير صحيح؛ فنحن أنفسنا ساميون، ونحن ننظر إلى اليهود فى بلادنا على أنهم مصريون، واليهود الذين يعيشون فى الدول العربية يشعرون دائماً بأنه من الأنسب لهم أن يبقوا فى الدول العربية على أن يذهبوا إلى دول أخرى، لقد عاش آباؤهم وأجدادهم هنا آلاف السنين دون أى تفرقة.
--------
من حديث الرئيس جمال عبد الناصر إلى "كليفتون دانيال" مدير تحرير "نيويورك تايمز" فى 22 أبريل 1969
- سؤال: هل من الواقع أن ينتظر الآن من إسرائيل - التى ترغب أن تكون، وأنشأت نفسها على أنها أساساً دولة يهودية، يسودها اليهود - أن تقبل عودة الأعداد الكبيرة من العرب إلى أرضهم؟
* الرئيس: ولماذا لا ؟! إن اليهود والعرب؛ مسيحيين ومسلمين، كانوا يعيشون هنا فى الشرق الأوسط منذ قرون.. آلاف السنين، لقد عاش اليهود هنا فى مصر، ويعيشون هنا فى مصر، على الرغم من الدعاية التى استخدمت ضدنا فى بلادك من أننا لا نعامل اليهود معاملة حسنة. يمكنك أن تجوس فى البلاد كلها، وأن ترى اليهود، لقد طلب بعضهم مغادرة البلاد ووافقنا، ولكنهم عادوا ورفضوا مغادرة البلاد، وقالوا إنهم يريدون البقاء هنا. لقد قبضنا على يهود - حوالى ثمانين يهودياً - ولكننا بعد الحرب قبضنا أيضاً على مسلمين ومسيحيين لدواعى الأمن فى البلاد، والإسرائيليون يعتقلون حالياً أكثر من سبعة آلاف عربى من الأراضى المحتلة وغزة، ولذلك أريد أن أقول مرة أخرى إن اليهود والعرب من مسلمين ومسيحيين يعيشون هنا منذ قرون.
- سؤال: على سبيل الاستعلام.. كم عدد أعضاء الجالية اليهودية الذين بقوا فى مصر الآن؟
* الرئيس: لدينا هنا حوالى خمسة آلاف يهودى.
- سؤال: حوالى خمسة آلاف.. وما عدد المعتقلين الآن، تقولون ثمانون؟
* الرئيس: نعم حوالى ثمانين، لقد كان هناك أكثر ولكن..
- سؤال: ولكن بعضهم أفرج عنه.
* الرئيس: نعم البعض.. والآن أريد أن أستكمل توضيحى؛ لقد كنا نعيش معاً، ولم تكن هناك كراهية، وقلنا إن هذا معروف جيداً، ولكننى اعتقد أن بعض الناس قد نسوا أننا واليهود ننتمى إلى الأصل السامى، وموسى ولد هنا فى مصر، ولقد كنا نعيش دائماً على أحسن حال، فلماذا إذن لا يعيش المسلمون والمسيحيون العرب سوياً مع اليهود؟
----
كان الرئيس عبد الناصر معاديا للصهيونية كحركة استعمارية فاشية ولكنه لم يكن معاديا لليهود ، ولم يقم بطرد يهود مصر.