الدكتور على الحفناوي يكتب: هل كانت السودان مصرية؟

الدكتور على الحفناوي يكتب: هل كانت السودان مصرية؟

من الاتهامات الموجهة لثورة ٥٢ أن رجالها فرطوا في السودان وتسببوا في انفصالها عن مصر.

وللتحقق من صحة هذا الاتهام، ما علينا إلا الرجوع إلى أوراق التاريخ الصحيح الثابتة في كتب تاريخ بريطانية وفرنسية، بعيدا عن التوجهات السياسية المصرية، والتزاما بموضوعية الأحداث التاريخية.

بداية علينا أن نعرف أن ما يسمى السودان لم يكن متواجدا منذ قرون طويلة، فهي كلمة عربية استخدمت للإشارة إلى "بلاد السود". وكانت تلك البلد في الماضي منقسمة إلى عدة مناطق تحكمها قبائل متفرقة، بعضها خاضع لقبائل وملوك مناطق وسط أفريقيا (مثل الكونغو)، وبعضها خاضع للحضارة الحبشية بروافدها المسيحية، والبعض الآخر خاضع للقبائل ذات الأصول العربية التي عبرت البحر الأحمر واستقرت بشمال السودان وجنوب مصر. هذا بالإضافة إلى مجموعات من البدو الذين استوطنوا فيما سُمى لاحقا الدارفور.

وفى العصور القديمة، عاشت مصر العديد من الصراعات مع قبائل الجنوب، حتى أن بعض الأسر الفرعونية خلال عصر الدولة الحديثة كانوا من الفراعنة السود، هؤلاء الذين غزوا مصر واستولوا على السلطة بها لعشرات السنين. أما في العصور الوسطى، خاصة في ظل حكم المماليك، فلم تتوقف النزاعات والمناوشات مع أهل جنوب الوادي. نذكر منها مثلا السلطان المملوكي "الناصر" الذي تخلص من ملك "دونجولا" المسيحي لعدم سداده الجزية، ونصَب بدلا منه ملكا نوبيا مسلما اسمه "عبد الله ابن سامبو".

وعودة إلى العصر الحديث في القرن التاسع عشر، نجد أن علاقتنا مع جنوب الوادي سارت في اتجاه سياسة استعمارية وضعها وطبقها محمد على. ففي عام ١٨١٨ انتهت حروب محمد على مع الثورة الوهابية في الحجاز - والتي مات خلالها ابنه طوسون باشا – تلك الحروب التي كان قد خاضها بتكليف من السلطان العثماني. وفى ١٨٢٠ أصدر الباب العالي تكليفا جديدا لمحمد على بغزو السودان، باعتبارها ولاية عثمانية تضاءلت مواردها الضريبية، وظهرت بها بوادر تزمر... بناء عليه، أعد محمد على حملة عسكرية معظم رجالها من بقايا الجيش العثماني الذي جاء مع محمد على إلى مصر، فكانوا من الأتراك والألبان والشراكسة، فأرسلهم بقيادة ابن آخر هو "اسماعيل كامل".

احتل جيش محمد على مناطق السودان المختلفة المقسمة إلى ملكيات، وأزال ملوكها. (مملكة السينار، الفونج، الكوردوفان والدارفور)، وتم تقسيمها كمحافظات مصرية تابعة لمحمد على. وقام هذا الجيش "المصري"، بفرض نظم ادارية جديدة وصارمة، مع فرض كل المعاملات باللغة التركية العثمانلية. وسميت هذه السياسة العنيفة بتتريك السودان (أى جعلها تركية). ثم تم وضع نظام ضريبى قاسى فرضه محمد على على الأهالى، يتم بناء عليه سداد ضريبة عن كل الأراضي القابلة للزراعة، وعلى ملكية الأراضي الغير منزرعة، وعلى سواقي الري، على أشجار النخيل. أما شباب السودانيين، فتم تجنيدهم وارسالهم في مهام عسكرية خارج السودان، لاحتلال بلاد أفريقية أخرى (طنجانيقا، الكونغو،..)، وتم وضع قواعد جديدة تسمح للمصريين بشراء "عبيد" من السودانيين.

تسببت هذه السياسة الاستعمارية العنيفة في ثورة السودانيين عام ١٨٢٢، نتج عنها حرق اسماعيل كامل ابن محمد على حياً... استمرت المعارك مع الثوار، وكان يقودها من الجانب المصري الدفتردار "قوصروة"، حتى تم استبداله بعثمان شركس البرينجى عام ١٨٢٤، والذى أقام مقر له عند تلاقى النيل الأبيض مع الأزرق، وهو الموقع الذى تحول فيما بعد إلى مدينة سميت "الخرطوم" (أو رأس الخرطوم نظرا لموقعها)، فصارت بعد ذلك عاصمة للسودان بالتعريف الحديث.

ظلت المعارك والمناوشات في مختلف أنحاء السودان قائمة حتى ظهور المهدى (محمد أحمد ابن عبدالله) عام ١٨٨١. استطاع المهدى التغلب على القوات المصرية المتناثرة في أرجاء السودان. ولأول مرة، تتدخل بريطانيا وتصدر أمرها للخديوى توفيق بسحب الجيش المصري من السودان، ثم ترسل قوة عسكرية بريطانية بقيادة الجنرال جوردون، الذى استطاع أن يقاوم قوات المهدى داخل الخرطوم حتى عام ١٨٨٥، ولكنها انتهت بمقتله على يد ثوار السودان عند تحرير العاصمة.

وتحولت الثورة المهدية إلى فتيل أشعل لأول مرة الاحساس الوطنى المنتمى لكل القطر السوداني، وليس إلى قبائل أو مناطق محددة. لذلك بدأ المهدى في تأسيس دولة اسلامية عاصمتها "أم درمان" في الجهة المقابلة للخرطوم.

توفى المهدى بنهاية ١٨٨٥، وتولى خليفته عبدالله ابن محمد (التعايشى) حكم السودان الموحد، وحارب وهزم الحبشة (أثيوبيا)، وحاول احتلال مصر بلا جدوى.

أعد "كيتشنر" قوة عسكرية مصرية بريطانية بقيادته عام ١٨٩٦، وقام بغزو السودان. احتلت تلك القوة دونجولا، ثم أبوحمد وبربر، إلى أن هزمت القوات المهدية في أم درمان عام ١٨٩٨. وبالمناسبة، كاد هذا الجيش بقيادة كيتشنر الاحتكاك بالجيش الفرنسي الذى كان يحمى "السودان الفرنسي" في غرب السودان (والذى سمى فيما بعد بدولة "مالى"). وعرفت واقعة الاحتكاك هذه بموقعة "فاشودا"، ونتج عنها اتفاق بين فرنسا وبريطانيا بتقسيم مناطق نفوذهما الاستعمارية في أفريقيا السوداء.

أهم نتيجة لكل تلك الأحداث، كان توقيع معاهدة الاشراف المشترك (Condominium) بين مصر وانجلترا عام ١٨٩٩ (يوم كان اللورد كرومر حاكما فعليا في مصر) ، تلك المعاهدة التي أصبحت انجلترا بموجبها هى السلطة الفعلية الحاكمة في السودان تحت مظلة القوات العسكرية المشتركة، على أن تتولى مصر الصرف على السودان وتحصيل الضرائب تحت رقابة الادارة الانجليزية. ومثلت هذه المعاهدة ميزة لإنجلترا، فهي لم تحتل رسميا ولاية تابعة للباب العالي العثماني، مما يجعلها تحتفظ بشكل علاقة غير عدائية مع تركيا وفرنسا.

ظلت السودان تحت تأثير تحركات أتباع الثورة المهدية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وكانت مقاطعة الدارفور قد احتفظت بشيء من الاستقلالية والحيادية بين كل الأطراف. ولكن في عام ١٩١٦، قررت بريطانيا التخلص من حاكمها، السلطان "على دينار"، فهجمت على الدارفور وقتلته، وضمت المقاطعة للسودان.

تشكلت من مجموعة السودانيين في عام ١٩٣٨ م، مؤتمرا للخريجين، نادى بتصفية الاستعمار في السودان ومنح السودانيين حق تقرير مصيرهم. وصارت توصيات هذا المؤتمر الأساس في المطالبة باستقلال السودان.

مع عدم اكتمال الاستقلال المصري حتى الخمسينات، ظلت السودان تحت سيطرة وهيمنة انجلترا وفقا لمعاهدة كرومر للإشراف المشترك مع مصر، والموقعة عام ١٨٩٩... وفى عام ١٩٥١، بدأت المفاوضات بين حكومة الوفد في مصر وممثلي السودان حول اتفاقية حق تقرير المصير. ولكن، وفى نفس العام، وبعد اعلان الغاء معاهدة ٣٦ بين انجلترا ومصر من قبل حزب الوفد الحاكم، اتخذ الملك فاروق قرارا منفردا بتغيير اسم الدولة في مصر من مملكة مصر إلى مملكة مصر والسودان، ولكن لم تعترف انجلترا بهذا الاسم ولم تعترف به السودان. لذلك، وعند اعلان الجمهورية في مصر عام ٥٣، أصبح الاسم جمهورية مصر فقط.

بعد قيام الثورة في مصر والغاء الملكية، بدأت المفاوضات بين مصر وانجلترا عام ١٩٥٣ و ٥٤ للحصول على الاستقلال التام وجلاء القوات البريطانية من منطقة قناة السويس، وكذلك جلاءها من السودان التي كان بها ٨٠ ألف جندي بريطاني، فوضعت فيها بريطانيا شرطا أساسيا، وهو حصول السودان على الاستقلال أيضا من مصر، وعدم تدخلها في شئونها. وفي عام ١٩٥٥ م، بدأت المفاوضات بين حكومتي إنجلترا ومصر لتشكيل لجنة دولية تشرف على تقرير المصير في السودان، فضمت كل من باكستان والسويد والهند، وتشيكوسلوفاكيا وسويسرا ويوغوسلافيا.

في ٣٠ أغسطس١٩٥٤ وافق البرلمان السوداني على اجراء استفتاء عام لتحديد مستقبل البلاد السياسي وفى نفس الوقت وافقت وبريطانيا على الانسحاب من السودان في ١٢ نوفمبر١٩٥٥. وفي ١٩ ديسمبر ١٩٥٥ أعلن البرلمان أن السودان دولة مستقلة بعد إجراء الاستفتاء العام. وقد أعلنت جمهورية السودان رسميًا في ١ يناير١٩٥٦. أصبح السودان عضوًا في جامعة الدول العربية في ١٩ يناير، وفى الأمم المتحدة في ١٢ نوفمبر من نفس العام.

الخلاصة: كان الوجود المصري في السودان وجودا استعماريا، سواء كان وجودا منفردا أو مزدوجا مع انجلترا... لذلك لا يوجد في التاريخ الرسمي ما يفيد أن السودان كان جزءاً من مصر ثم انفصل كما يعتقد البعض.

أما اليوم، فأن تتحالف مصر مع السودان لصالح المصير المشترك في وادي النيل، فهذه قضية حيوية أخرى.