يجب أن تجلو القوات الأجنبية من أراضينا جلاءً كاملاً

يجب أن تجلو القوات الأجنبية من أراضينا جلاءً كاملاً

يتزعم "اللورد كيلرن" - السفير البريطانى الأسبق - حملة ضد مصر، قوامها تلك العناصر الرجعية التى لا تؤمن إلا باستعباد الشعوب، وهو أمر يدعو إلى الأسف البالغ. يخطئ من يظن أن "اللورد كيلرن" وجماعته قد انغمسوا فى هذه الحملة الطائشة بدافع من الإشفاق على مصالح الشعب البريطانى، فالحقيقة الواضحة بذاتها أن هذه الجماعة لا تعادى شعباً دون آخر، وإنما هى تعادى الشعوب جميعاً بما فيها الشعب البريطانى ذاته.

يريد أمثال "اللورد كيلرن" تضليل الشعب البريطانى حتى  يستهين بالحركات الوطنية المتأججة فى مصر والسودان، بل وفى جميع أنحاء الشرق الأوسط. إننا نعرف تماماً وعن وعى وإدراك كيف نفرق بين غلاة الاستعماريين وأصحاب الامتيازات والسلطات والمصالح الذاتية من البريطانيين، وبين الشعب البريطانى الذى نراه يئن تحت أثقال تلك السياسة الاستعمارية، وما تجره عليه من تكاليف وعدوان وخسائر.

إن "اللورد كيلرن" طراز عتيق لا ينسجم مطلقاً مع روح العصر الحاضر؛ الذى أضحت فيه المساواة بين الشعوب مبدأً مقرراً لا سبيل إلى إنكاره، أو حتى مجرد المناقشة فيه. إنه يمثل تلك الآراء التى كانت تقوم على أسس الفتح والغزو والاستغلال، واستخدام القوة فى فرض السيطرة على الشعوب.

ومع ذلك فـ"اللورد كيلرن" رجل صريح، ولكن صراحته من النوع الذى يسىء إلى مواطنيه بالذات؛ إذ تنسب إليهم أهدافاً ذاتية ومطامع استعمارية حرص السياسيون والمسئولون من البريطانيين على إخفائها أو إنكارها، وما ذلك إلا لأنه مازال متأثراً بآراء ونظريات فى العلاقات الدولية تعود إلى القرن التاسع عشر، بل ما قبله بكثير.

إنه يقول: "لقد شرعت قبضتنا على الشرق الأوسط تتراخى"، ثم حين يعرض لاتفاقية السودان يقول بلسان أحد أنصاره: "إن الحكم الذاتى لشعب أمى (يقصد الشعب السودانى) عبث"؛ ومعنى هذا أن إنجلترا فى سياستها إزاء الشرق الأوسط عامة ومصر خاصة؛ إنما تستهدف السيطرة المجردة، ولا تريد أن تتضاءل هذه السيطرة بأى حال من الأحوال.

أما وصفه للسودان بأنه يضم شعباً أمياً فإنه فى الحقيقة ينطوى على اتهام صريح للإدارة البريطانية بالسودان خلال فترة أكثر من نصف قرن، فضلاً عن أن الرجل يناقض الساسة البريطانيين المسئولين حين كانوا يرددون دائماً أن هدفهم هو تمكين السودان من الحكم الذاتى، وبهذا أثبت أن ما رددوه فى هذا الصدد لا يمثل الحقيقة والواقع.

ولكننا لا نعجب لهذه الحملة على اتفاقية السودان؛ ذلك أنها وليدة الشعور بالغضب؛ إذ سلبت أمثال "اللورد" مظاهر ومغانم الحكم والسيطرة فى السودان.

ويتابع "اللورد كيلرن" حملته على مصر فيقول فى مقال آخر له: "إننا نطارد بسرعة فائقة من مكان إلى آخر، من عبدان ومن قناة السويس ومن السودان".

وهنا لا يسعنى إلا أن أشفق على الرجل ومنطقه، فما يسميه مطاردة إن هو فى الحقيقة إلا انتصار الحركات القومية فى هذه المنطقة من العالم؛ ذلك أن أهلها لم يعودوا يطيقون أن يفرض عليهم سلطان خارجى. فإذا كان الإنجليز يطاردون من إيران ومصر والسودان، فإن الذنب واقع عليهم؛ ذلك أن سياستهم لم تعرف كيف تدرك الروح الجديدة فى هذه البلدان.

وهذه السياسة التى يتغنى بها "اللورد كيلرن" وأمثاله؛ إنما تسير على خط يتعارض تماماً مع المصالح الحيوية والحقيقية للشعب البريطانى، ولست بحاجة إلى أن أضرب المثل؛ ذلك أن الأزمة الإيرانية قد كبدت بريطانيا الكثير من الخسائر المالية والمعنوية، ولو أن هذه السياسة كانت أكثر استنارة؛ لعرفت كيف توفق بين مصالح إيران العادلة ومصالح بريطانيا المعقولة.

يحذر "كيلرن" الشعب البريطانى من محمد نجيب وجمال عبد الناصر، ويدَّعى أننا نضمر الشر لبريطانيا! فليعلم أن المصريين جميعاً - ونحن قادة حركة الثورة من بينهم - لا نضمر شراً مطلقاً- كما يزعم "كيلرن"- لا لبريطانيا ولا للشعب البريطانى، ولا لغيره من الشعوب، ولكنا على العكس من ذلك قوم سئمنا ضروب الشر التى قاسينا مرارتها وآثامها، لقد هب الشعب المصرى ونحن معه للقضاء على الشر وإحلال الخير محله.

إنى أود أن أوجه الخطاب إلى الشعب البريطانى نفسه، لا لأضلله - كما يفعل أمثال "اللورد كيلرن" - وإنما لأنى فقط أبغى الكشف عن الحقائق؛ حتى يكون على بينة من أمرها، فأتساءل: هل يقبل الشعب البريطانى - لو كان مكاننا - احتلال وطنه ضد إرادته؟ وهل كان يقتنع بأية حجة - أياً كان مظهرها - تفرض عليه دوام احتلال أجنبى لو أنهم تعرضوا له مدى سبعين عاماً، فقدمت إليهم خلالها الوعود تلو الوعود بالجلاء والانسحاب من أرض الوطن؟ ما من شك أن أى شعب ليرفض مثل هذا الأمر، حرصاً على حقه المقدس فى الحرية الكاملة.

لقد تحملت بريطانيا الكثير للدفاع عن حريتها خلال الحروب الماضية، ولن تكون أقل استعداداً للبذل والتضحية؛ بل لعل طاقتنا على ذلك أكبر بعد الذى عانيناه من استعباد دام أكثر من سبعين عاماً.

إننا حريصون كل الحرص على الوصول إلى تسوية سلمية، ولكننا فى نفس الوقت نصر إصراراً أكيداً على حقوقنا المستمدة من حق الشعوب الطبيعى فى الحرية والاستقلال، والمستندة إلى ميثاق الأمم المتحدة، فإذا ما تبددت آمالنا، فإننا لن نتردد - كأى شعب يشعر بكرامته وحقه المقدس فى الحرية والاستقلال - فى أن نسلك أى طريق يوصلنا إلى الحصول على حقوقنا؛ مهما كانت التضحيات التى نتحملها؛ لنفوز بالحرية، ولنخلف لأبنائنا من بعدنا أغلى ما يتمتع بلد به؛ الاستقلال والحرية.

إنى أقولها كلمة قصيرة ولكنها صريحة، وفى هذا ما أنا إلا اللسان الذى يعبر عما فى نفوس المصريين جميعاً من أهداف لن يتحولوا عنها أياً كانت الأحوال والاعتبارات: يجب أن تجلو القوات الأجنبية من أراضينا جلاءً كاملاً، وبدون أى قيد أو شرط، فإذا ما أصبحت سيادتنا كاملة وحريتنا تامة؛ فإن مصر فى هذه الحالة ستعرف كيف تتصرف لدفع أى عدوان يهدد سلامتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصريح البكباشى جمال عبد الناصر إلى رئيس تحرير وكالة الأنباء المصرية عن حملة بريطانيا ضد مصر

بتاريخ الخامس من إبريل العام ١٩٥٣م.