أرى فى هذا الاجتماع بداية لعهد جديد تتمثل فيه مصر الحديثة

أرى فى هذا الاجتماع بداية لعهد جديد تتمثل فيه مصر الحديثة

مواطنى الأعزاء:

إنى سعيد جداً بهذا الاجتماع البسيط فى مظهره، العميق فى معناه، وهذا الاجتماع إن دل على شىء فإنما يحمل بشائر المستقبل الذى سيكون - بعون الله - مستقبل عزيز كريم. فأنا أرى فى هذا الاجتماع بداية لعهد جديد تتمثل فيه مصر الحديثة، مصر القوية التى ستعتمد دائماً على المحبة بين أبنائها، وعلى التكاتف وعلى التعاون وعلى الاتحاد.

لقد قاسينا كثيراً من التنابذ ومن الخلاف ومن الحزبية، وصرفتنا هذه العلل جميعاً عن الأغراض السامية التى تتعلق بالوطن وبمستقبل الوطن، كما تتعلق بالجماعة وبمستقبل الجماعة، كما تتعلق بالفرد وبمستقبل الفرد. صرفنا عن كل هذا الخلاف الذى كان يولد دائماً البغضاء والكراهية، صرفنا عن كل هذا التفرق والتفكك. وإننى استبشر خيراً من هذا الاجتماع الذى تظهر فيه مظاهر الوحدة ومظاهر التآلف ومظاهر التعاون، وهذا هو ما نطلبه - يا إخوانى - حتى نستطيع أن نبنى وطننا بناءً قوياً سليماً حراً كريماً.

يا إخوانى:

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا تركنا الماضى وأساليب الماضى وآثار الماضى، وبدأنا عهداً جديداً نحو المستقبل، فإننا - بعون الله - سنتخلص من كل المصاعب، وسنقضى على كل المتاعب، وسنقطع الطريق إلى النهاية مهما كان هذا الطريق شاقاً، ومهما كان هذا الطريق عسير؛ لإننا تركنا أساليب الماضى، وبدأنا أساليب جديدة نحو المحبة ونحو التعاون ونحو التآلف فى سبيل بناء الوطن، وفى سبيل بناء الجماعة، وفى سبيل حرية الفرد.

يا إخوانى:

لنذكر دائماً أن هذه الخلافات وهذه البغضاء وهذا التفرق كانت العامل الأكبر الذى مكن منا قلة لا تعمل من أجل الوطن، ولا تعمل من أجل أبناء هذا الوطن، ولكن تعمل من أجل نفسها، وتعمل من أجل مصالحها، تأثرت مصالحكم جميعاً وتأثرت مصالح أبناء الوطن جميعاً، وكان السبب فى هذا - يا إخوانى- الحسد والخلاف.

أما اليوم إذا أردنا أن نسير فى سبيل بناء وطن قوى يتمتع فيه كل فرد بحريته، ويتمتع فيه كل فرد بكرامته، ويتمتع فيه كل فرد بمصلحته، ولا نقع فيه تحت تأثير الاستبداد أو تحت تأثير الاستغلال، أو تحت تأثير فئة قليلة من الناس، وتعمل الجماعة وتعمل الحكومة لمصلحة أغلبية هذا الوطن لا لمصلحة أقليته. إذا أردنا أن نحقق هذا، وإذا أردنا أن نسير فى الطريق الجديد على هذه الأسس وعلى هذه المبادئ؛ فيجب أن نغير أساليب الماضى، يجب أن يتعاون كل فرد مع أخيه، ويجب أن تتعاون كل عائلة مع الأخرى فى صالح الجماعة، صالح الفرد، صالح العائلة، صالح الجماعة، صالح المجموعة التى تمثل هذا الوطن.

دى الواجبات المطلوبة من كل فرد منكم، دى الواجبات المطلوبة من كل واحد مننا. والله إذا نسيناها أو إذا تناسيناها، إذا فكرنا فى صالح الفرد ونسينا صالح الأسرة، أو إذا فكرنا فى صالح الأسرة ونسينا صالح الجماعة، أو إذا فكرنا فى صالح الجماعة ونسينا صالح المجموع أى صالح الوطن، فلن نستطيع مطلقاً أن نسير إلى نهاية الطريق، ونحقق الآمال العظام التى نحلم بها، ونحقق المطالب التى يطلبها الفرد، وتطلبها الأسرة، وتطلبها الجماعة، ويطلبها الوطن الأكبر.

لم تتمكن أى فئة قليلة فى الماضى من أن تتحكم فينا إلا بواسطتنا نحن، كانوا يتحكمون فينا وكانوا فى نفس الوقت يستخدمون أبناء هذا الوطن كعبيد لقضاء مصالحهم ولو تفاوتت العبودية، ولكنا كنا جميعاً نعمل كعبيد؛ عبيد على درجات مختلفة فى سبيل مصلحة عدد قليل من الناس. كانوا يستخدموننا فى هذا مستغلين خلافاتنا، ومؤلبين البعض منا على الآخر. مين اللى كان بيستفيد من هذا؟ فئة قليلة.

يمكن احنا عدد مننا كان بيستفيد بالقشور، لكن الفائدة الكبرى كانت بتروح لفئة قليلة من الناس، ما كناش بنشعر بكرامتنا، كانت بتسلب مننا، ما كناش بنشعر بعزتنا، كانت بتسلب مننا وكان كل واحد فينا بيشعر إنه غريب فى بلده وإنه عبد المأمور، فيه واحد بيأمر وهو عبد مطيع بينفذ هذا الأمر، قد يحصل على شىء قليل وقد يحصل على شىء كثير، ولكنه فى النهاية كان يفقد عزته؛ عزته القومية، ويفقد كرامته ويفقد إنسانيته فى سبيل كسب قليل وفى سبيل كسب صغير. وكان فى نفس الوقت يرى أبناء هذا الوطن، والمجموعة العظمى من أبناء هذا الوطن بتعمل وبتخدم، بتخدم مين؟ بتخدم أقلية، أقلية معينة، أقلية معروفة. وكان كل واحد منكم بيتكلم، وكل واحد منكم بيهمس، وكل واحد مننا كان بيتكلم، وكل واحد مننا كان بيهمس، وكل واحد مننا كان يشعر فى قرارة  نفسه انه غير راضى عن هذه الحالة؛ لسبب بسيط إن عزته غير كاملة، وإن كرامته غير كاملة.

كانت الخلافات - يا إخوانى - هى السبب الأول للوصول بنا إلى هذه النتيجة، كان بعضنا بيستعمل ضد البعض الآخر، وبعدين بييجوا ناس تانيين بيستعملوا البعض الآخر ضد البعض الأول، وكنا فى كلا الحالتين احنا اللى خسرانين، احنا وأبنائنا وعائلاتنا والمواطنين جميعاً.

النهارده - يا إخوانى - إذا أردنا.. إذا أردنا أن نسير فى طريق العزة الحقيقة، وفى طريق الكرامة الحقيقة يجب ألا نمكن هذه الحالة من أن تعود مرة أخرى، كل واحد فينا لازم يشعر إن المواطن الآخر تتمثل فيه عزته، عزتى أنا تتمثل فيك وكرامتى أنا تتمثل فيك؛ لأن عزتك جزء من عزتى، وكرامتك جزء من كرامتى، وحريتك جزء من حريتى.

وبهذا - يا إخوانى - إذا دافعت عن عزة الآخرين فأنت بتحمى عزتك، وإذا دافعت عن كرامة الآخرين فأنت بتحمى كرامتك، وإذا دافعت عن حرية الآخرين فأنت بتحمى حريتك، وإذا وجدت أن عزة الآخرين قد سلبت ومثّل بها، وكرامتهم قد سلبت ومثّل بها، وحريتهم قد سلبت ومثّل بها، يجب ان كل واحد منكم يتأكد إن الدور جاى عليه، ما يقعدش ويقول انى ماليش دعوى بهذا الموضوع على أساس انه بعيد عنى، ولكن أنا كرامتى محفوظة! أبداً.. استنى دورك وتأكد ان عزتك حتتأثر كما تأثرت عزة الآخرين، وكرامتك ستتأثر كما تأثرت كرامة الآخرين، وحريتك ستتأثر كما تأثرت حرية الآخرين.

لو بصينا للماضى نجد إن كل الكلام اللى باقوله دا طُبق، يمكن طُبق على كل الأفراد، وطُبق على كل العائلات، وطُبق بذلك على مجموع هذا الوطن كله.

إذا أردنا - يا إخوانى - أن نبنى مصر بناءً حقيقياً.. بناءً قوياً نشعر فيه بالعزة الحقيقية، ونشعر فيه بالكرامة الحقيقية، ونشعر فيه بالعدالة الحقيقية، ونشعر فيه بالحرية الحقيقية، يجب أن ننظر إلى الماضى، ونأخذ من الماضى دائماً عظة وعبرة؛ حتى لا نقع فى أخطاء الماضى، وحتى لا نكرر أخطاء الماضى ومآسيه.

وبهذا - يا إخوانى- نستطيع أن نقول: إننا سنحقق لكل فرد فى هذا الوطن حرية وعزة، وسنتخلص من الاستبداد السياسى الذى حاق بنا مئات السنين، وسنقيم بين ربوع هذا الوطن عدالة اجتماعية حقيقية يشعر تحت لوائها المواطنين جميعاً بالكرامة وبالعزة؛ العزة - يا إخوانى - التى لا تقدر بتمن.. التى لا تقدر بمال، والتى إذا شعر بها أبناء هذا الوطن فسينطلقون إلى الأمام، إلى البناء وإلى العمل، هذه العزة قد تحققت فعلاً.. قد تحققت بالتخلص من الحكام الأجانب، وقد تحققت اليوم بالتخلص من الاحتلال الأجنبى.

هذه العزة - يا إخوانى - قد تحققت بالقضاء على الملكية وإقامة الجمهورية، هذه العزة - يا إخوانى - قد تحققت بتطهير أرض الوطن من الاحتلال الأجنبى، هذه العزة - يا إخوانى - قد تحققت بالقضاء على الاتجار بالسياسة، هذه العزة - يا إخوانى - قد تحققت بالقضاء على الحزبية البغيضة التى كانت تهدف إلى خلق المنازعات والخلافات بينكم لتستغلكم لمصلحتها، هذه العزة - يا إخوانى - قامت الآن بين ربوع هذا الوطن، وبين جماعات هذا الوطن، وفى دماء أبناء هذا الوطن، وفى قلوب أبناء هذا الوطن، وفى نفوس أبناء هذا الوطن، وعليكم أنتم.. أنتم جميعاً.. أنتم وأولادكم وعائلاتكم أن تدافعوا عنها لأخر قطرة من دمائكم، فإن هذه العزة إذا سُلبت سنكافح آلاف السنين مرة أخرى لكى نستردها.

لقد كافح آباؤنا وكافح أجدادنا وكافح الأجداد الغابرون.. كافحوا طويلاً واستشهدوا وقُتلوا وعذبوا فى سبيل الحصول على هذه العزة، ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول عليها.

واليوم - يا إخوانى - لأول مرة فى التاريخ تحصل مصر على عزتها كاملة، فعليكم أنتم التمسك بهذه العزة والدفاع عنها، وبهذا - يا إخوانى - سنتمكن بإذن الله من خلق وطن قوى حر أبى عزيز، تتمثل فيه العدالة الاجتماعية، وتتمثل فيه الحرية السياسية الحقة السليمة.

والسلام عليكم ورحمة الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى اجتماع ممثلى مختلف مديريات الوجه القبلى الذى عقد فى قاعة مجلس النواب

بتاريخ ٢٣ أكتوبر ١٩٥٤م.