عبد النـــاصر وأثار مصر 

عبد النـــاصر وأثار مصر 
بقلم / عمرو صالح
هل فرط الرئيس جمال عبد الناصر فى أثار وكنوز مصر وقام بتوزيعها على دول العالم حسب أهوائه كما يشيع خصومه؟!!
لمعرفة حقيقة تعامل الرئيس جمال عبد الناصر مع أثار مصر سوف نراجع معاً كتاب " مذكراتى فى السياسة والثقافة " ، والذى يحتوى على مذكرات وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشه ، وتحديداً الفصل السادس من الجزء الثانى من المذكرات ، بعنوان " تجربتى عضواً بالمجلس التنفيذى لمنظمة اليونيسكو .. الحملة الدولية لإنقاذ أثار النوبة ".
شغل الدكتور ثروت عكاشه منصب وزير الثقافة فى الفترة ما بين عامى 1958 1962 ثم فى الفترة ما بين عامى 1966 – 1970 ، كما شغل منصب رئيس الوفد المصرى إلى المؤتمر العام لليونسكو من عام 1962 حتى عام 1970 .
يقول الدكتور ثروت عكاشه فى مذكراته ، ان نظام ثورة 23 يوليو هو أول من أنشأ مركز متخصص لتسجيل ودراسة تاريخ الفن والتراث والحضارة المصرية من أجل حفظ وتسجيل وتوثيق كل الأثار المصرية .
وان نظام ثورة 23 يوليو منذ عام 1954 وهو مهتم بكيفية إنقاذ أثار النوبة فى مصر ،والتى تشمل أكثر من 17 معبد مصرى قديم منهم أيقونات أثرية تمثل ذروة الحضارة المصرية القديمة مثل معبدى أبى سمبل ومعبد فيله ومعبد كلابشه ، خاصة وان إنشاء خزان أسوان عام 1902 أدى لتهديد أثار النوبة بالغرق بعد ان بدأت مياه نهر النيل تغمرها فى وقت الفيضان من كل عام ، ويستشهد الدكتور ثروت عكاشه بكتاب للعالم والأديب الفرنسى بيير لوتى بعنوان ( موت فيله ) يتنبأ فيه بإختفاء أثار النوبة كلها.
كما يذكر الدكتور ثروت عكاشه قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى " أَيها المنتحي بأَسوان داراً" ، التى كتبها عام 1910 ، وفيها يصف حال أثار أسوان بأبيات قال فيها:
قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا
سابحات به، وأبدين بضا
مشرفات على الزوال وكانت
مشرفات على الكواكب نهضا.
يقول الدكتور ثروت عكاشه ان بداية الحملة الفعلية لإنقاذ أثار النوبة جاءت فى عام 1958 ، مع بدء تنفيذ مشروع بناء السد العالى والذى أثبتت الدراسات ان البحيرة التى ستنشأ خلفه سوف تغرق كل أثار النوبة ، ويروى الدكتور عكاشه ان تفكير الحكومة المصرية فى حملة إنقاذ الأثار بدأ بعد زيارة قام بها السفير الأمريكى بالقاهرة وقتها يرافقه مدير متحف المتروبوليتان الأمريكى لمكتب الدكتور ثروت عكاشه ، لكى يطلب منه السفير الأمريكى شراء كل معابد واثار النوبة المنتظر غرقها بعد بناء السد العالى.
يقول الدكتور عكاشه انه طلب مقابلة الرئيس عبد الناصر بعد عرض السفير الأمريكى ، وان العرض الأمريكى أثار سخرية الرئيس الذى تهكم على رفض الأمريكيين المساهمة فى بناء السد العالى ثم سعيهم لاستغلال عملية بناءه فى الاستيلاء على أثار مصر.
خلال لقاءه مع الرئيس عبد الناصر عرض الدكتور ثروت عكاشه على الرئيس خطته لإنقاذ أثار النوبة ، وطلب دعمه له فى كل المحافل الدولية حتى تنجح حملة إنقاذ الأثار.
بدعم سياسي ومالى من الحكومة المصرية خلال الفترة من عام 1958 حتى عام 1968 ، وبالتنسيق مع منظمة اليونسكو والعديد من دول العالم تم تنفيذ مشروع إنقاذ أثار النوبة.
قام الدكتور ثروت عكاشه بتوثيق كل أعمال حملة إنقاذ أثار النوبة فى كتابه " إنسان العصر يتوج رمسيس " وصدرت طبعته العربية الأولى عن هيئة الكتاب المصرية عام 1971 ، ثم قامت منظمة اليونيسكو بترجمته للفرنسية على نفقتها ووزعته فى العالم.
كلفت وزارة الثقافة المصرية المخرج الكندى " جون فينى " بعمل فيلم تسجيلى عن أثار النوبة وملحمة إنقاذها ، استغراق انتاج الفيلم 4 سنوات ، وصدر تحت اسم " الأعجوبة الثامنة " ، وعنوان الفيلم يصف عملية إنقاذ أثار النوبة كثامن عجائب الدنيا.
تسببت الحملة المصرية فى إنقاذ أثار النوبة السودانية أيضاً.
لم تقتصر حملة إنقاذ أثار النوبة على الأثار المهددة بالغرق فقط ، بل استطاعت بفضل عشرات البعثات الأثرية المصرية والأجنبية التى قامت بمسح أثرى لمنطقة النوبة طوال فترة الحملة من اكتشاف ألاف القطع الجديدة من الأثار المصرية القديمة ، والتى تشكل حالياً معظم مقتنيات متحف النوبة للأثار.
تكلفت حملة إنقاذ أثار النوبة 80 مليون دولار أمريكى ، دفعت مصر ثلثهم بينما تكفلت الولايات المتحدة الأمريكية ، وألمانيا ، وفرنسا ، وأسبانيا ، وهولندا ، ومنظمة اليونسكو بالثلثين المتبقيين من الثمانين مليون دولار.
تعتبر حملة إنقاذ أثار النوبة هى أول وأكبر مشروع ثقافى لحفظ التراث العالمى فى التاريخ الحديث ، كما ان عملية تفكيك وإعادة بناء معبدى أبى سمبل فوق هضبة أبو سمبل تعد عملا معماريا وهندسيا وجيولوجيا لم يسبق له مثيل ، وتكلفت بأسعار وقتها 36 مليون دولار من تكلفة الحملة بالكامل.
اشترطت الدول المانحة أن تحصل على بعض القطع الأثرية المصرية مقابل مساهماتها فى إنقاذ أثار النوبة ، فتم تشكيل لجنة من علماء هيئة الأثار المصرية لتحديد واختيار تلك القطع الأثرية .
استقرت اللجنة على إهداء معبد دندو لأمريكا ، ومعبد دابود لأسبانيا ، ومعبد طافا لهولندا ، وهى معابد صغيرة كانت متناثرة كقطع غير مكتملة فى النوبة ، وقد تم نقلها إلى الدول الثلاث حيث تم ترميمها ونصبها من جديد ، كما تم إهداء مقصورة الليسيه لإيطاليا ، ورأس أمنحتب الرابع لفرنسا .
تلك هى القصة الحقيقية عبر شهادة موثقة من البطل الرئيسى لحملة إنقاذ أثار النوبة .
الطريف ان الشماشرجية والليبرالجية والإخوان وهم يلقون بتلك التهمة الباطلة على الرئيس عبد الناصر ، يتناسون ان أكبر عملية نهب لأثار مصر بدأت مع الحملة الفرنسية عام 1798 وامتدت طوال عهد الأسرة العلوية .
على سبيل المثال :
فى فرنسا توجد 4 مسلات مصرية ، ثلاثة منها تمت عملية سرقتها خلال الحملة الفرنسية التى غزت مصر (1798-1801) ، والرابعة أهداها محمد على باشا لفرنسا عام 1833 ، وكانت توجد فى مدخل معبد الأقصر، وتنتصب الأن فى ميدان الكونكورد بباريس .
وفى متحف اللوفر يوجد قناع نفرتيتى الذهبى، وتمثال الكاتب المصرى، وتمثال للملك رمسيس الثانى، وتمثال للملك أخناتون، وتمثال لأمنحتب،وذلك بخلاف العدد المهول الذى يوجد فى المتحف من القطع الأثرية المصرية والتى تزيد عن 50 ألف قطعة حتى أنه تم توسيع المتحف ليشمل 31 قاعة جديدة لكى تستوعب القطع الأثرية المصرية التى استولى عليها الفرنسيون أثناء حملتهم لغزو مصر، والأثار التى أهداها محمد على باشا وأبناءه وأحفاده لفرنسا خلال حكم الأسرة العلوية.
فى بريطانيا يوجد حجر رشيد فى المتحف البريطانى، كما يخصص المتحف البريطانى 7 غرف لعرض الآثار المصرية القديمة التى تبلغ 100 ألف قطعة أثرية ، والتى تتنوع ما بين تماثيل أثرية ومومياوات وأثاث ومجوهرات وبرديات تاريخية .
فى عام 2001 أهديت للمتحف البريطانى مجموعة ووندروف ، وتشمل 6 ملايين قطعة أثرية ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ فى مصر والسودان ، كما توجد المسلة المصرية التى أهداها محمد على باشا للإنجليز عام 1831 ، وتم نصبها فى ميدان يطل على نهر التايمز ، وفى عام 1826 أهدى محمد على باشا إلى ملك فرنسا " لويس فيليب " مسلة مصرية تم نصبها فى ميدان الكونكورد بوسط العاصمة الفرنسية باريس ، وفى عام 1879 قام الخديوى إسماعيل بإهداء مسلة مصرية أخرى للولايات المتحدة الأمريكية وهى منتصبة حالياً فى حديقة سنترال بارك بمدينة نيويورك.
فى عام 1832 باع حاكم مصر " محمد على " باشا - تمثالين رائعين من الجرانيت الوردى لأسد برأس بشرى يصور الملك المصري "أمنحتب الثالث"، تاسع ملوك الأسرة الثامنة عشر، والذي حكم مصر فى الفترة ما بين (1391 ق.م. - 1353 ق.م) إلى القيصور الروسي نيقولا الأول بمبلغ 64 ألف روبل.
محمد على باشا كان قد باع التمثالين فى البداية إلى ملك فرنسا " شارل العاشر " ولكن اندلاع ثورة يوليو 1830 التى أطاحت بحكم شارل العاشر ، جعلت صفقة بيع التمثالين تنتقل إلى قيصر روسيا " نيقولا الأول ".
فور وصول التمثالين إلى روسيا تم نقلهما إلى مدينة " سانت بطرسبرج " حيث تم نصبهما فى الكورنيش المؤدي إلى جامعة المدينة.
فى 1912، تمكن العالم الروسى، فاسيلى ستروفيه، من ترجمة الكتابة الهيروغليفية الموجودة على التمثالين ، والتى كان نصها:
«ليحيا حورس، الثور العظيم المتألق فى الحقيقة وواضع القوانين والمهتم بالأرض، حورس الذهبى، ثور الملوك قاهر الأقواس التسعة، ملك مصر العليا والسفلى، سيد ومالك أرضى أمنوفيس الثالث نجل رع.
ابن رع، أمنحتب المحبوب ، حاكم طيبة، وصورة رع أمام الأرضين.
مالك الخلود الطيب .. مالك الحياة والاستقرار والسعادة والصحة».
تمثالان على هيئة أبو الهول بـ 64 ألف روبل.
Museo Egizie وفى إيطاليا يوجد متحف
الذى يضم 32500 قطعة اثرية معروضة ، تشمل تماثيل الآلهة والتوابيت والمجوهرات الخاصة بالملوك المصريين القدماء وأدواتهم فى الحياة اليومية.
وقد أسس هذا المتحف عام 1824 ، وجميع مقتنياته من الأثار المصرية التى تم نهبها وسرقتها من مصر قبل إنشاءه والتى تواصلت بعد إنشاءه طوال فترة حكم أسرة محمد على ، خاصة فى عهد الملك فؤاد الأول الذى كان مولعاً بالإيطاليين ، وتضم حاشيته الكثير من الإيطاليين المقيمين فى مصر.
.
خريطة الأثار المصرية المنهوبة والمسروقة والتى أهداها حكام أسرة محمد على لا تقتصر على فرنسا وإنجلترا وإيطاليا فقط ، بل تمتد أيضاً للولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وروسيا والدانمرك وغيرهم من دول أوروبا.
كتب الاستاذ مختار السويفي في مقدمته لموسوعة مصر القديمة -والتي ألّفها العالم الأثري الموسوعي المصرى الدكتور سليم حسن- كاشفاً سبب إحالة د. سليم حسن إلى التقاعد و هو في عامه السادس والأربعين ؟!
الدكتور سليم حسن كان أول مصرى يعمل وكيلًا لمصلحة الآثار المصرية ، وكان ذلك فى عام 1936 ، و بينما هو يطالع جرد بأثار المصلحة ، وجد ان هناك مجموعة أثرية أخذها الملك فؤاد واحتفظ بها فى قصره فاتصل بالقصر الملكى لاسترادادها وبالفعل تم إعادتها للمصلحة وتم عرضها بالمتحف المصرى بالقاهرة، بعد وفاة الملك فؤاد و تولى الملك فاروق ، أرسل فاروق لمصلحة الأثار يطالبها بالأثار باعتبارها ممتلكات له ضمن ميراثه من والده ، رد الدكتور سليم حسن على الملك فاروق بأن تلك الأثار ملك لمصر ورفض إعادة الأثار للقصر الملكي.
تسبب قرار سليم حسن فى غضب الملك فاروق عليه ، لذا ظل يسعى للتخلّص منه حتى نجح فى مسعاه بإصدار قرار بإحالة الدكتور سليم حسن للتقاعد عام 1939 . بعد أن حوصِر فى عمله و ضُيّق عليه.
تفرغ الدكتور سليم حسن بعد إحالته للتقاعد للعمل فى انجاز موسوعته ذات الستة عشر جزءاً لتاريخ مصر القديمة . التي تُعد أهم موسوعات التاريخ المصري القديم . اضافة الى كتابه الهام عن الأدب المصري القديم.
ويضيف الأستاذ مختار السويفى فى مقدمته ان أحوال الدكتور سليم حسن تغيرت للأفضل بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ، فقد تعاطف الرئيس جمال عبدالناصر مع هذا العالم الجليل، وتفهم قدره الذى يشرف مصر والمصريين، فأصدر قرارًا بإيفاده لزيارة متاحف العالم التى تعرض القطع الأثرية المصرية.. وقرر تعيينه مستشارًا للمتحف المصرى بالقاهرة عام 1959».. وفى عام 1960 كرمته «أكاديمية نيويورك التى تضم أكثر من 1500 عالم من 57 دولة فانتخبته بالإجماع عضوًا فيها.
يعتمد الشماشرجية والليبرالجية والإخوان ومن تبعهم من المصابين بارتكاريا جمال عبد الناصر على إطلاق كذبة ثم إعادة ترديدها حتى تتحول لمعلومة مسلم بها ، أو على إبتسار معلومة ووضعها خارج سياقها لكى تشوه حقيقة واقعة تاريخية معينة .
تلك الاساليب القذرة فى تزييف التاريخ وتشويه أبطاله لا يمكن لها أن تصمد فى وجه الحقائق والشهادات والوثائق.
لم يفرط جمال عبد الناصر فى أثار مصر بل قام بإنقاذها من الغرق والضياع ، ودعم حملة إنقاذها بملايين الدولارت ، ورغم هزيمة 1967 لم تتوقف الحكومة المصرية عن دعم حملة إنقاذ أثار النوبة حتى تم الاحتفال رسمياً بانتهاء الحملة بالنجاح فى 22 سبتمبر 1968 ، ليس ذلك فقط بل تم توثيق وتسجيل كل الأثار المصرية للمرة الأولى فى تاريخ مصر ، وبفضل الحملة تم اكتشاف ألاف القطع الجديدة من الأثار المصرية القديمة.
- الصورة لطابع بريد مصري صادر فى عام 1963 ضمن فعاليات الحملة الدولية لإنقاذ أثار مصر.
المصادر:
- كتاب " مذكراتى فى السياسة والثقافة - الجزء الثاني : مذكرات د. ثروت عكاشه.
- كتاب " موسوعة مصر القديمة" : د. سليم حسن