الدكتور إيهاب خليفة يكتب: وعي الآلة

الدكتور إيهاب خليفة يكتب: وعي الآلة
إن القوة التي تتميز بها نظم الذكاء الاصطناعي تفوق بالطبع قدرات البشر ومهاراتهم، فإذا كانت قدرة البشر على الحساب عالية جداً لدرجة خلق نُظم ذكية، فإن نظم الذكاء الاصطناعي لديها قدرات حسابية أعلى بكثير وأعقد من قدرة البشر مجتمعين على استيعابها. وإن كان البشر موهوبين في حفظ الأشياء، فهذا لا يقارن بذاكرة الذكاء الاصطناعي، حيث إن الأخير قادر على التعلم السريع المستمر غير المحدود، وتحصيل جميع أنواع المعارف والعلوم والآداب بصورة تفوق أي طاقة بشرية ممكنة، وقادر أيضاً على مشاركتها مع غيره من نظم الذكاء الاصطناعي الأخرى، مكوناً عقلاً واحداً صناعياً، يمثل العقل الجمعي للذكاء الاصطناعي، فما يدركه أحدهم، يدركه الجميع ويراكم عليه خبراتهم.
تدريجياً، سوف يصبح هذا النموذج هو الأمثل للمعرفة لدى الإنسان، فهو لا يخطئ، ويتذكر ما يعجز البشر عن تذكره، ويقوم بأعقد العمليات الحسابية في لحظات، ويستطيع القيام بجميع المهام التي يقوم بها الإنسان وبصورة أكثر كفاءة منه، فيبدأ البشر في الشك في قدراتهم وأفكارهم ومعلوماتهم، لكنهم لن يشكوا أبداً في قدرة النظام الذي خلقوه بأنفسهم وأوجدوه، فيتم ترقية هذا النظام الصناعي لكي يعلو على مرتبة البشر، ويصبح مصدر الحكمة الإنسانية والمعرفة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع.
فإذا تعرض أحد الأفراد لمرض وشخّصه نظام الذكاء الاصطناعي على أنه سرطان، سوف يبدأ الأطباء بالتعامل معه على أنه كذلك حتى لو أن لديهم من الدلائل ما يشير إلى العكس؛ وذلك لأن هناك ثقة مطلقة في النظام تفوق الثقة في النفس البشرية، وتبدأ حينها مقولة "ما هو رأي النظام؟" في الانتشار بدلاً من مقولة "ما هو رأي الدين أو القانون أو حتى العلم؟"
هذه الثقة المطلقة في الآلات والنظم الذكية قد تجعل البشر يحاولون تقليد سلوكها وأفكارها، حيث يفكرون بطريقة تفكير الآلة نفسها، بل ويتحركون مثلما تتحرك، فتحدث عملية محاكاة لأنماط تفكير الآلة وسلوكياتها، ويبدأ البشر في تكوين وعي جديد يحاولون فيه تقليد وعي الآلة التي خلقوها في البداية.
وقد يجادل البعض بأن وعي الآلة من خُلق الإنسان نفسه، وأن المهندسين هم من قاموا ببرمجتها ووضعوا لها قيمها وسلوكياتها مسبقاً، لكن في الحقيقة هذه الرؤية منقوصة. فالأتمتة تختلف عن الذكاء الاصطناعي تماماً، حيث يحاول المهندسون في الأولى صُنع آلة تتبع منهجاً محدداً للقيام بوظيفة ما من خلال عدد من الخطوات المنطقية، كأن يقوم مثلاً "روبوت" يعمل داخل مستودع للبضائع بتنظيمها بطريقة محددة وفقاً لخطوط الإنتاج والتوزيع، فهذه أتمتة، لكن في حالة الذكاء الاصطناعي لا يحاول المهندسون بناء وسيلة لتحقيق هدف، بل عقل قادر على التعلم واكتساب المهارة، وليس الحصول على أوامر مبرمجة سلفاً.
ولذلك يحاول نظام الذكاء الاصطناعي إنشاء وعيه الخاص بناءً على المعارف التي يكتسبها، والبيانات الضخمة التي يحللها، والخبرات التي يتعرض لها. وتسير عملية التعلم هذه بمتوالية أُسية تضاعفية، على عكس طريقة تعلم الإنسان التي تسير بمتوالية حسابية متذبذبة، فيقوم النظام الذكي بتشكيل وعيه في وقت قصير جداً مقارنةً بالوقت الذي يستغرقه الإنسان في تشكيل وعيه الشخصي، وبالتالي يسبق وعي الآلة وعي الإنسان ويؤثر عليه ويساهم في تشكيله.