إن الطريقة التي يفكر بها الذكاء الاصطناعي ويتخذ بها قراراته تختلف تماماً عن تلك التي يفكر بها البشر، فهؤلاء محكومون في تصرفاتهم وقراراتهم بخبراتهم الذاتية ومبادئهم الإنسانية والمواقف التي مروا بها ومنظومة القيم التي تسيطر على الأفراد والقوانين التي تحكم المجتمع، في حين أن ما يحكم الذكاء الاصطناعي هو منطق رياضي بحت، يقوم على مبدأ بسيط للغاية وهو "تحقيق المصلحة أو النفعية".
فالهدف من إنشاء الذكاء الاصطناعي هو تحقيق منفعة للبشرية أو القيام بمصلحة لها. ومبدأ المصلحة
ثابت ومترسخ في منظومة القيم البشرية، ومع ذلك لا يوجد اتفاق على تعريفه أو آلية لتحقيقه؛ فالرأسمالية تُعظم من دور المصلحة الفردية، وترى أن الانسان في سعيه لتحقيق مصلحته الشخصية سوف يؤدي إلى تحسين المجتمع ككل، بافتراض رشادة البشر. في حين تأتي المصلحة العامة في الفكر الاشتراكي باعتبارها سبيل نجاة المجتمع، وتعلو على نظيرتها الفردية. بينما تُعتبر المصلحة القومية للدولة في نظريات العلاقات الدولية هي الغاية الأسمى التي تسعى لتحقيقها، لضمان سلامة الأفراد وأمنهم والحفاظ على حياتهم وبقائهم، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحتهم الشخصية أو حتى العامة.
هذا الاختلاف حول مفهوم "المصلحة" سوف يندرج أيضاً على الفكر الاصطناعي الجديد، فالآلة الذكية إذا وجدت في طريقها شجرة تعوقها عن تحقيق هدفها سوف تقطعها، وإن وجدت مريضاً لا يُرجى شفاؤه سوف تخطو فوقه، وإن رأت موظفاً لا يقوم بعمله بكفاءة مثلما كان يقوم به من قبل سوف ترشح فصله من وظيفته دون نظر للأسباب التي جعلت منه موظفاً أقل إنتاجية.
وليس فقط مفهوم "المصلحة" هو الذي لم يتفق عليه البشر، بل أن كثيراً من هذه المفاهيم التي ما زال البشر مختلفين في فهمها، مثل القوة والذكاء والإرهاب والعنف والنجاح والسعادة، جميعها مفاهيم نسبية من مجتمع لآخر، وتتوقف على مصدر القيم التي يتبناها هذا المجتمع، فإذا كانت قيماً مادية مثل الحضارة الغربية، أو قيماً معنوية مثل الحضارات الآسيوية، أو قيماً وسطية تجمع بين المادية والروحية مثل المجتمعات الإسلامية، فكيف سوف تفهمها الآلة وتُعرفها؟
هذا الفكر الصناعي القائم على مفهوم "المصلحة" يستند إلى عدة مبادئ أخرى أكثر مادية، مثل "العصمة من الخطأ"، فالمعارف التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي - والتي تفوق قدرات البشر- تعصمه ولو نظرياً من الوقوع في الخطأ، كما أنه يتميز بالخلود، فهو لا يموت مثل البشر. كل ذلك يصب في وعاء القيم المادية النفعية التي تُعظم من تفرد الآلة "Machine Singularity"، فيتم النظر إلى "قيم التفرد" على اعتبارها النموذج الصحيح والحصري للتفكير السليم والمنهج الصحيح الذي يجب أن يسير عليه البشر والمصدر الجديد الذي يجب أن تأخذ منه البشرية قيمها وتشريعاتها وسلوكياتها بعدما كان الدين أو الفلسفة أو التاريخ.