هاني نديم يكتب: في ذكرى مولد داليدا الهائلة

هاني نديم يكتب: في ذكرى مولد داليدا الهائلة
في ذكرى مولد داليدا الهائلة الذي يصادف يوم أمس، أقتطف من نص طويل نتتفة مما كتبته عنها في كتابي "بورتريهات حزينة من استوديو الأفراح":
سيدة الخذلانات بجرعةٍ زائدة من النوم
نفد المال الذي بحوزتها ونفد الوقت على طوله وهي تسمع نفس العبارة من استوديوهات باريس كل يوم: "اتركي لنا رقمك .. سنتصل بك". نفد كل شيء ما خلا إيمانها بما تفعل. ولأن الحياة سياقات كما أسلفنا؛ فقد كان "آلان ديلون" يسكن في الشقة المقابلة وكان فقيراً مغموراً يبحث مثلها عن فرصة عمل في التمثيل، وبالضرورة كان معجباً بتلك الغامضة الممشوقة كالرمح والمكوية بشموس الفراعنة، أصبح صديق عمرها مذاك، يرافق كلٌ منهما الآخر في مقابلة أو "تيست"، ويأكل الواحد منهما ما بثلاجة الآخر كلما أفلس، إلا أن صانع حياتها الأول كان "رولاند بيرغر" مدرب الصوت الذي أصر على أن داليدا مغنية وليست ممثلة، وهذا ما يفسر أنها تركت لنا إرثاً غنائياً تجاوز الخمسمئة أغنية في تسع لغات، بينما لم تمثل سوى اثني عشر فيلماً! وبالفعل.. تحقق لها انتشار مرعب في وقتٍ قصير، كان شريكها في هذا المنتج "لوسيان موريس" الذي تزوجها فترة قصيرة اتسمت بالبرود والفشل. نعم؛ انتشرت انتشاراً مرعباً نحتاج إلى صفحات وصفحات لرسم ملامحه ونجاحاته.
من أغنية Bambino حتى أغنية "حلوة يا بلدي"، مرت داليدا بآلاف المخاطر والانزلاقات والعلاقات والمنعطفات والخذلانات، أحبت عشرات الرجال باحثةً عن أبيها الذي رحل باكراً فعطبتهم جميعاً، "الشمس السوداء" كما أطلقوا عليها لانفعالاتها وعصابيتها ونوبات الكآبة التي أعدت الجميع من حولها، فسبقها إلى الانتحار اثنان من عشاقها على مرأى عينها، أحدهما حبيبها الإيطالي لويجي تينكو الذي عشقته بجنون وكانا يخططان للزواج. يقول محضر التحقيق: "قبل ضباط الشرطة الموقعون أدناه، شهادة المواطنة الفرنسية "يولاندا جيجليوتي" التي تقول: "بعد مهرجان الأغنية مع فنانين وصحافيين ذهبنا إلى مطعم يدعى "Nostromo" حيث كان لدينا حجز. كان تينكو مكتئباً وخصوصاً بعد استبعاد اغنيته "Ciao amore" من الفوز، لم يمض وقتٌ حتى غادرنا وقال بأنه يريد ان يكون وحيداً وذلك عند الساعه 0:30 في منتصف الليل إلى غرفته، وكان الجميع مدركاً حالته النفسية السيئة. اتصلنا بالفندق للاطمئنان عليه، وأكد أنه وصل وهو موجود في غرفته، وعند الساعة الثانية والعشرة دقائق صباحاً عدت إلى الفندق وذهبت مباشرة إلى الحجرة رقم 219 للاطمئنان على حالة تنكو، وجدت الباب مفتوحاً جزئياً والمفتاح ظاهراً على الباب، طرقت عدة مرات قبل الدخول إلا أنني لم أتلق أية إجابة فدخلت الحجرة كان الضوء ساطعاً وتينكو ممداً على الأرض وتغطيه الدماء. اتصلت فوراً من الغرفة للإبلاغ عن الحدث وطلب طبيب مختص ثم وصل عدد من الناس وأخبرتهم بما حدث، وأوكد بأنني وجدت رسالةً مكتوبةً على ما يبدو بيد تنكو على ورق خطابات الفندق وقد بدأ بهذه الكلمة: "I loved" وانتهى بكلمة أغنية "Ciao Luigi". انتهى التحقيق.
الصحافة لم يعجبها الأمر وألمحت إلى أن داليدا قد قتلت حبيبها، تساءلت: لماذا أطلق تينكو النار وهو يميني النار على صدغه الأيسر؟ لماذا لم يسمعه الجيران في غرفهم، بمن فيهم المغنية لوسيو دالا، لماذا في الصور التي التقطتها الشرطة للجثة نرى مقبض مسدس "بريتا" بينما مسدس تينكو "والتر بي كي كي"؟ لماذا ظلت داليدا "الشاهدة الأولى" ثلثي الساعة حتى وصلت من المطعم إلى فندق سافوي القريب؟ ماذا كان يفعل "موريس" زوجها السابق في الأنحاء؟ لماذا سمح لها بالعودة مباشرة إلى فرنسا قبل انتهاء التحقيق تماماً؟ اسئلة كثيرة وشكوك واتهامات زادت من حجم كارثة داليدا.
في ذات العام حاولت داليدا الانتحار وفشلت. لكنها انتحرت بشكلٍ آخر، فقد أقامت علاقةً خاطفةً مع مراهقٍ إيطاليٍ له من العمر ثمانية عشر عاماً بينما كانت في الثانية والثلاثين، فحملت منه واضطرت إلى الإجهاض، وبخطأ طبي أثناء العملية أصبحت عقيمةً إلى الأبد، ما زاد في كآبتها وسوداويتها، ولكنها غنت فوق جراحها أغنيتها الشهيرة التي حولت مسار حياتها برمته: "لقد بلغ للتو ثمانية عشر عاماً وكان وسيماً كطفل قوياً كرجل". تلك الأغنية التي قيل عنها: "كانت بمثابة بلسماً حول الندبة إلى وشم جميل".
وفي نفس العام رمت بنفسها لـ Richard Chanfray أحد نجوم المسرح والسحر بدل ذلك، وكان أمراً يشبه الانتحار أيضاً فريتشارد مضرب المثل في الجنون واللهو، تزوجا زواجاً عاصفاً.. ولكن الغريب أن هذا الساحر المليء بالحياة والصخب وحبّ النساء والسهر، انتحر هو الآخر على طريقٍ ترابيٍ مهجور في سيارته بغاز "الشكمان" المنبعث من سيارته. نعم .. لقد أشرقت عليه الشمس السوداء مجدداً!
هذه السيرة المضطربة والكئيبة والمربكة، لم تعجب الصحافة والنقاد على الدوام وإن اعترفوا بصنعتها الفنية ومستواها الرفيع في عالم الغناء. فأسبغوا عليها صفات كثيرة، "الشمس السوداء"، "المصرية الحولاء"، "الملوثة بالمآسي"، وغيره، بل لاحقتها الصحافة حتى بعد موتها واكتسبت من نجوميتها وهي في قبرها، فقد اضطرت السلطات الإيطالية إلى فتح قبر لويجي تينكو عام 2006 لتشريح الجثة وإعادة التحقيق، ومرةً أخرى أثبت قاض آخر أن الموت كان انتحاراً.
يقول أحد الصحافيين، في باريس؛ كلما وجدت رجلاً مشهوراً وسيماً في حزن عميق، تأكد أنه حبيب داليدا! وهكذا، أصبحت دالي تهمة لكل رجل في باريس، ومن ذلك علاقتها السرية بفرانسوا ميتران رئيس فرنسا الذي كان يأتي إلى شقتها متخفياً، كما ذكرت أختها جاكلين في كتابها الذي صدر عام 2007، قالت أيضاً: كان يلقبها "دالي" ويهديها الزهور يومياً. تلك العلاقة التي شكلت لها فضيحة أخرى بين الأوساط الشعبية، وزادت في عدد مبغضيها، فكانت يومياً تستيقظ على ورد من فرانسوا ميتران، ورسائل شتم وتهديد بالقتل من عامة الناس يرمونها من فوق سور حديقة منزلها في مونمارتر.
بعد عشرين عاماً من موت لويجي تينكو، وفي تاريخ الثالث من ماي 1987 وفي قصرها الكبير بـ Rue Orchampt تركت داليدا رسالةً تشبه هذه تبرر انتحارها كعادتها في حبّ الرسائل تقول فيها: "سامحوني الحياة لم تعد تحتمل".