شكلت الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بكثير من الدول حالياً ريحاً هبت على ورقة التوت، فكشفت بعضاً من عورات الشعوب.
في عالمنا العربي، أبانت ورقة التوت تلك عن عنصرية قديمة متجددة مغلفة بالفقر، وأضيفت إليها توابل العِظامية.
ما هي العِظامية؟
أصلها من العظام، أي الاتكال على عِظام الآباء والأجداد للتفاخر، وتعني هنا الفخر بإنجازات الأولين والسلف فقط، بدل الاعتماد على النفس والمهارات وما هو متوفر الآن من موارد وعقول.
في أزمة المنطقة العربية الحالية، نجد الكثيرين يتندرون على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه لم يعد أمامهن/أمامهم إلا الزواج بثري أو ثرية من منطقة الخليج العربي كمخرج من أزمتهم المالية والاقتصادية.
هذه -برأيي - عنصرية مبطنة بنَفَس فوقي، أجده، حقيقةً، مقلقاً ومقرفاً في ذات الوقت:
تلك النظرة تفترض أن الخليجي مسلوب الحرية فيما يخص اختيار شريك الحياة، أو - وهو أدهى وأمرّ - أن العربي أحسن من المحلي بأشواط ومسافات، لدرجة أن الخليجي سيهرع للزواج بأول طالب للزواج من هناك.
تلك النظرة تغذي الفكرة السمجة بأن مواطني الخليج ما زالوا "عرباناً عرايا وجهلة" يهيمون على وجوههم في الفيافي ويرعون المواشي والإبل، التي تحمل شوالات الدولارات وصُرر الدنانير والدراهم، في انتظار توزيعها على بقية الشعوب العربية دون حسيب أو رقيب، فقط لمجرد أنهم سبقوهم زمنياً في عجلة الحضارة، أو لأن آباءهم وأجدادهم علموهم وعمّروا أساسات دولتهم في مقتبل عمرها (مقابل رواتب وأموال وحوافز، طبعاً، وليس بالمجان أو حباً بهم).
تلك النظرة تتجاهل الدعم المالي والمعنوي اللا منقطع من حكام دول الخليج لخزائن العديد من الدول التي تنبع منها تلك النظرة الفوقية "فيا ليت قومي يعلمون"، وتتغاضى عن ألسنة مواطنيهم التي تلهج دوماً بالمديح والعرفان لما قدمه آباؤكم وأجدادكم لهم من عون في مطلع تاريخهم المعاصر.
تلك النظرة تغذي الفوارق الطبقية، واستمرارها على هذا النسق سينتهي - حتماً - بحالة عامة من الحسد والحقد الأعمى على أولئك الناس، لأنهم الأقل تضرراً من السنين العجاف، ولأن هنالك من يحاول التغرير بالشعوب عبر إشاعة أنهم يستغلون الأزمة لـ"شراء البلاد واسترقاق العباد"، بدلاً من رؤية ما يفعلونه على أنه بالضبط ما تحتاجه دولهم من استثمارات خارجية متسارعة ومتزايدة، ترفع من مستويات الثقة الدولية، وتضيف إلى الشفافية المالية، وتسهم في استقطاب المزيد من الأموال لإبقاء البلد وأهلها فوق سطح الماء.
وأخيراً، فإن تلك النظرة ليست من الدين في شيء: ذلك القاسم المشترك الذي يجمعنا منذ ما يزيد عن ألف عام. وإن لم تكونوا - أعزائي قرّاء هذا المنشور - على دين الإسلام، أو لا تؤمنون بالأديان جميعاً، فإن ذلك ليس من الأخلاق في شيء: فالتندر المستمر على شخص أو مجموعة بعينها من الأشخاص لمجرد أن حكامهم يحسنون استخدام مواردهم الطبيعية، وتصويرهم في صورة أكياس الأموال التي تنتظركم كي تُفرغ فوق رؤوسكم أو تسارع إلى المأذون لعقد قرانها عليكم، هي في أحسن الحالات نزعة فوقية، وفي أسوأها عنصرية طبقية.
لا أقول إن كل مواطني الخليج العربي سواء، وأنه ليس من بينهم من يمارس عنصرية وفوقية مقيتة لمجرد أنه اليوم أغنى من بعض الجنسيات العربية، ولكنهم - بتقديري وخبرتي الشخصية -قلة قليلة تذوب في بحر الخير والطيبة والترقق في الحديث الذي يسود مجتمعات الخليج (ومن عاش هناك يمكنه أن يحدث بما خبر).
أيضاً، لا مانع أبداً من النكات والنوادر هنا وهناك، فالمزاح والفكاهة في أساسهما عرض للأحكام المسبقة والمشاكل الاجتماعية أو السياسية في قالب مضحك. لكن السيل المستمر من الهزل يجازف بتحوله إلى وصمة تلاحق بنات وأبناء مجموعة بعينها من البشر، وتلحق بهم أذى نفسياً، وجسدياً في بعض الحالات (كما شهدت بعض الدول العربية سرقات وحالات سطو، أو نصب واحتيال على مواطنين خليجيين).
ولنا عبرة في قولبة يهود أوروبا عبر القرون الماضية، في الأدب والفن والأفلام، في صورة الثري البخيل المتآمر الشهواني، حتى تحولت تلك القولبة والتهكم إلى موجه كراهية وحملات تطهير عرقي متلاحقة، وصولاً إلى محرقة النازية (الهولوكوست).
أشيعوا المعروف بينكم، واذكروا محاسن من تشتركون معهم في قواسم الدين واللغة وبعض الثقافة العامة (رغم أنف عظاميي القرن الحادي والعشرين)، واشكروهم على دعمهم المستمر السخي - والخفي - لكم في أسوأ مراحلكم، واعلموا أن الدنيا حلقة تدور، وأن الأمم تهوي كما تعلو، وتعلو كما تهوي، ومن كان اليوم في ضيق وكرب، سيكون غداً في سعة ودعة.
ولا تنسوني بالخير في دعائكم (أو كلامكم لو لستم على دين).
نصيحتان لوجه الله (بونص):
١. في الأزمة الحالية، ستجدون انفجاراً حقيقياً في قصص الرعب الفردية، سواء خسارات مالية أو "تسول إلكتروني". نصيحة من خبير في الإعلام والإعلام الرقمي: ٩٨
٪ من تلك القصص مفبرك أو تم تضخيمه بشكل كبير للغاية لاستدرار العواطف (والأموال
في بعض الاحيان). فاستفتِ عقلك، ثم قلبك.
٢. إذا كنت متابعاً لشخص تثق في حكمه المالي أو الاقتصادي، وبدأت تراه يعطي أرقاماً محددة لأسعار الصرف أو توقعات بأرقام محددة لمستقبل الاقتصاد، فخذ ما يقول بـ"كيس ملح"، وليس بذرة ملح، كما يقول الأجانب: لا أحد، حتى حكماء الاقتصاد العالمي، يعلم بدقة ما القادم، وكل التوقعات الرقمية "ضرب في الودع"، وخاطئة حتى لو أصابت بعد حين، لأنها مبنية على مشاعر تفاؤلية أو تشاؤمية، وليس على فهم واعٍ ترفده معلومات دقيقة لحركة الاقتصاد.
(صورة رمزية فقط. الحقوق: Saudi Cup).