أبعاد أزمة الفن التشكيلي المعاصر

كتبت: نور طارق
باحثة ماجستير – كلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة
تنكشف لنا ملامح الواقع المأزوم الذي يعاصره الفن التشكيلي بمعناه التقليدي، وليس المقصود هنا استخدام مصطلح «الفن المعاصر»، فهو مفهوم غير مستقر بل قد يكون مضللًا بعض الشيء، فالواقع المعاصر في حالة إزاحة مستمرة؛ فالذي نعاصره اليوم، غدًا سيصبح ماضيًّا.
وفيما يلي مناقشة لأهم أبعاد الأزمة، وآثارها السلبية على مثلث العملية الإبداعية:
يُشكل هذا المثلث أركان الأزمة مجسدة في لوحة متكاملة من الصعب علينا قراءتها وفهم بُعد واحد من أبعادها وتحليله بمعزل عن الضلعين الآخرين، ولذلك تم إجراء مجموعة من المناقشات مع عدد من الفنانين التشكيلين في أعمار مختلفة، بالإضافة إلى استطلاع رأي عدد من المتذوقين حول واقع الفن التشكيلي، حيث تجلت أبعاد الأزمة على النحو التالي:
· أزمة فكرية بين الفنان والمجتمع: فمن ناحية المجتمع هناك تراجع ثقافي وانخراط في مشكلات الحياة اليومية، ومن ناحية الفنان فإن أغلب ما يقدمه في المعارض لا يخاطب المتذوق العادي، بل يدعي البعض أنه يخاطب متذوقًا من نوع خاص أو جمهور المثقفين (وهو مصطلح فضفاض يختلف مستخدموه حول تعريفه)، كما يتظاهر بعض «المثقفين» بفهمهم للأعمال الفنية المعقدة ويغوصون في تحليلها لدرجة تظن عندها أنه هو من أبدع هذا العمل أو على الأقل كان مرافقًا للفنان لحظة بلحظة حتى ميلاد هذا المنتج، وقد تبتعد فكرة العمل والهدف منه عن تلك التفسيرات بشكل مطلق. ويرى البعض أنه غير مبني على فكر أو على وعي بمشكلات المجتمع أو حتى ثقافته؛ مما أدى إلى فقدان حلقة التواصل بين الفنان والمشاهد. إلا أن الواقع يكشف عن حضور الفن التشكيلي في ظل أزمة كورونا، حيث عبر العديد من الفنانين عن تأثير الأزمة على المجتمع، موثقين لتلك المرحلة بأعمال فنية ولوحات ورسم على الكمامات، ومعارض افتراضية بسيطة هدفها المشاركة بعيدًا عن الإنتاجية والربحية، ولكنها تتطلب مزيدًا من الجدية في العمل من أجل تأصيل وتأريخ المرحلة.
· وجود فجوة بين المبدعين أنفسهم: فنادرًا ما تجد شاعرًا أو أديبًا أو موسيقيًا أو مسرحيًا يتجول في أروقة معرض تشكيلي، وقليلًا ما تجد فنانًا تشكيليًّا متذوقًا لألوان الفنون الأخرى، حتى إذا وجه بعضهم الدعوات إلى بعض وقبلها الطرف الآخر كان ذلك على سبيل «المجامـلات الاجتماعية» أكثر من كونه تلاقيًا بين ألوان الفنون. وعلى الجانب الآخر، نجد غلبة الطابع الشللي داخل مجتمع الفنانين وشبكاتهم الاجتماعية؛ مما يترتب عليه بعض المحاباة، وتقديم المجاملات على حساب النقد الجاد، بل إن الأمر يصل إلى إتاحة الفرصة لعدد قليل من الفنانين التشكيليين لعرض لوحاتهم داخل قاعات وزارة الثقافة في ظل قلة عدد القاعات، فيشعر البعض بالظلم والتهميش.
· تجريف الساحة الفنية: نتيجة للعديد من الأسباب الاجتماعية التي أفرزتها سياسة الانفتاح، وثقافة العولمة، والاقتصاد الحر ... كان لزامًا على الفنـان إما أن يترك السـاحة الفنية ويبحث عن لقمته في مكان آخـر، أو يجاري الحركة الجديدة ويتبنى اتجاهات معاصرة تحمل دعوى التجديد من أجـل التجديد، ولا تبالي برصد وتحليل المشكلات الاجتماعية، ولا تعبر عن ثقافة مجتمع أو ذوق أفراده. كما أدى سفر العديد من الفنانين الأكاديميين في إعارات للدول العربية بحثًا عن حياة أكثر يسرًا إلى خسارة كبيرة في ساحة الفن المصري. وعلى الرغم من انضمام عدد من الفنانين الهواة (غير الدارسين) إلى ساحة الفن، فإن ذلك لا يروي ظمأ الساحة التشكيلية بعد هذا التصحر الفني.
· معضلة اقتصاديات الفن التشكيلي: يواجه الفن التشكيلي أزمة اقتصادية حقيقية متزامنة مع جميع مراحل العملية الإنتاجية للعمل الفني، وذلك على النحو التالي:
- يُعاني المنتجون في مجال الثقافة بشكلٍ عام، والفن التشكيلي بشكلٍ خاص صعوبة في الحصول على قروض للحصول على الموارد اللازمة لإنتاج عدد من الأعمال الفنية، وإقامة المعارض لتسويقها، وذلك في حالة عدم توفر رأس المال اللازم، فضلًا عن ارتفاع تكلفة اللوحة؛ نظرًا لارتفاع أسعار الخامات الجيدة والبراويز.
- صعوبة تسويق الأعمال الفنية من خلال المعارض، فغالبًا ما يحمل الفنان لوحاته إلى مرسمه - بعد عرضها - دون أن يحقق الربح المأمول، غير أن التسويق من خلال بورصة الفن التشكيلي، أي عرض اللوحات في «قاعات المزادات»، يضع العمل الفني وسط عدد كبير من قطع «الموبيليا»، فيلعب دور «الكومبارس الصامت»، ونظرًا لجمهوره المحدود يلقى قدرًا من التهميش لا يليق به.
- ينتج عن هذا وذاك تفاوت هائل في دخول الفنانين التشكيليين، ففي حين ترتفع دخول عدد قليل جدًا، تعيش جماعة أخرى على حد الكفاف؛ مما أدى إلى تجريف آخر للساحة الفنية نتج عن شيوع ظاهرة هجر ممارسة الفن نهائيًّا والاتجاه إلى ممارسة أعمال أخرى للبحث عن موارد بديلة للرزق، وانتشار مقولة: «الفن ما بيأكلش عيش» في الوقت الذي تطالعنا فيه الصحف كل يوم على بيع بعض اللوحات الفنية بأسعار غير معقولة.
· عزوف المجتمعات العربية عن الفن التشـكـيـــلي: يـرى البـعـض أن المجتمعـــات العـربية أكثــر ميــلًا إلى الثقافــة الســــمـعـيـــة والشفاهية، ولذلك اهتمت عبر القرون بالشعر والأدب واللغة بشكل عام كمنتجات ثقافية، لكنها أغفلت كل ما يتعلق بالثقافة البصرية، كالمسرح والفن التشكيلي وغيرهما؛ مما أدى إلى كساد الطلب على الأعمال الفنية التشكيلية، وتحولها إلى سلعة باهظة توجه للقادرين على دفع ثمنها فقط. ولكن بشكلٍ عام يمر المجتمع العالمي بأزمات متتالية أثقلت الوضع الاقتصادي بالكثير من الأعباء، والتي تسببت في تغير معطيات وأولويات ومتطلبات الأسر في ظل جائحة كورونا.
· أزمة تأريخ: وأخيرًا يرى عدد من الفنانين أن الأزمة تمتد إلى قلة الكتب التي تخصصت في تأريخ أو نقد الفنون التشكيلية العربية، حتى إن أغلب الكتب الموجودة مترجمة عن كتب غربية تفتقد بصمات الفن العربي، أو جاءت في شكل تسجيل انطباعات أكثر من كونها تسجيل آراء نقدية موضوعية. كما أن عددًا من كبار الكتاب والشعراء غير المتخصصين شاركوا بآرائهم في الحديث عن الفنون الجميلة.
الإبداع.. مفتاح الخروج من الأزمة
تغلب عدد كبير من الفنانين على أزمة كورونا بمزيد من الإبداع، فقدموا في العزل أعمالًا جديدة، وأطلقوا معارض افتراضية في مختلف الدول، إلا أن عددًا كبيرًا من الفنانين يرون أنها لا تصلح كبديل للمعارض الواقعية، لتميز الأخيرة بالمشاركة، وتحقيق معادلة العرض، والتناول والتفاعل مع الجمهور. إلا أن تجربة المعارض المصغرة على هذا النحو جعلت من كل شخص مُبدع فنانًا وشريكًا في المنتج الثقافي المحلي، بفضل توسع استخدام منصات شبكات التواصل الاجتماعي، فهذا الإبداع البشري هو «جوهر الصناعات الثقافية والإبداعية»، وفيما يلي مجموعة من المقترحات التي من شأنها تقليل حدة الأزمة في الوقت الراهن والقضاء عليها على المدى البعيد:
v استكمال مشروع رسم خرائط الاقتصاد الإبداعي في مصر، ورفع مستوى الوعي بأهمية الصناعات الإبداعية، وإنشاء بنك معلومات لدعم العاملين في مجالات الإبداع المصري.
v تدشين المناطق الإبداعية المتخصصة وإطلاق أكثر من مدينة / قرية إبداعية، تعبر عن هوية المكان (فنون النوبة - الواحات – سيناء - ..)، وتضم ورشًا ومنتديات ومعارض، كما تقدم دورات تدريبية لنقل المعرفة وتأهيل أجيال جديدة؛ بهدف الحفاظ على الهوية الثقافية لكل منطقة وحمايتها.
v تشجيع الاستثمار في الصناعات الإبداعية، ووضع خطط تسويقية للمنتجات الإبداعية؛ لتسهيل وصولها إلى الأسواق العالمية.
v نشر ثقافة الوعي بأهمية تطبيق وتفعيل حماية حقوق الملكية الفكرية والمشاركة في صياغة سياسات وطنية لها.
v إجراء مسوح ودراسات عن الفن التشكيلي في مصر، ودراسة أوضاع الفنانين والمشكلات التي تواجههم.
v استخدام الفن التشكيلي بصفة خاصة والإبداع بصفة عامة في تحقيق «الاندماج الاجتماعي» سواء للمجتمعات المحلية أو الفئات الاجتماعية المهمشة، كاستخدام جماعة من المشردين في تجديد الأحيــــــــاء. وذلك على غـــــرار تـجـربـــة «المملكة المتحدة» في دمج الفئات المعرضة لخطر الإقصاء الاجتماعي من خلال الاقتصاد الرقمي.
v إقامة معارض فنية داخل قصور الثقافة ومراكز الشباب لتشجيع الشباب على ممارسة هوياتهم من ناحية، وتقديم الدعم والوعي الثقافي بإقامة ورش فنية دائمة من ناحية أخرى، مع التأكيد على دور الإعلام في نشر تلك الثقافة.
v توفير بيئة حاضنة ومشجعة للمبدعين من خلال توفير الحدائق والمتنزهات والمتحف والمكتبات بأماكن مخصصة للرسم والإبداع.
v رفع ميزانيات دعم الفنون التشكيلية، وزيادة عدد قاعات العرض، وتنشيط القاعات الخاصة، فالفنان عندما تباع لوحاته، ويقبل عليها الجماهير فهذا أكبر دعم بالنسبة له.
v يجب ألا يقتصر العمل الإبداعي على الفنانين والحرفيين فقط، بل يجب على الجميع المشاركة حتى يشعروا بالرضا عن حياتهم، وهذا يتطلب ضرورة توفير نوعية حياة عالية الجودة؛ حتى يُتاح للجميع تطوير نشاطه الإبداعي الحر والتوسع فيه، ولكي نصل لتلك الحياة الفنية ينبغي ضمان الدخل الكافي واحترام وقت الفراغ.
v إعادة النظر في الطرق التي يتم إلحاق الطلاب بها إلى كليات الفنـون سنويًا تبعًا للمجموع في الثانوية العامة؛ وتغليب معيار نتائج اختبارات اللياقة وقياس القدرات التي يتم تجاهلها في حالة عدم حصول الطالب على المجموع الذي يحدده التنسيق مما ينتج عنه نموذجان؛ أحدهما: يتخرج في كليات الفنون حاملًا بذور الحرفة وليس ثمرات الفن، أما النموذج الثاني؛ فهو موهوب لم تسعفه الظروف للالتحاق بأيٍ من تلك الكليات، فينتسب إلى مجتمع الفنانين طوعًا مفتقدًا للعلم والإلمام بالقواعد الأساسية والمهنية.