مما لا شك فيه أن فشل بعض الحلفاء الغربيين في إقناع حكومة المستشار الألماني أولاف شولتس بتوريد دبابات ألمانية من طراز "ليوبارد ٢"، التي تعتبر ضمن أحدث الدبابات القتالية وأكثرها انتشاراً (تستخدمها جيوش ٢٠ دولة)، سيقابل بالبهجة في أروقة الكرملين.
لكن، وهذا رأيي الشخصي، أعتقد أن الألمان يناورون بكل ما أوتوا من مرونة لخلق ظروف تجنبهم تبعات اتخاذ قرار بشأن توريد دباباتهم أو حتى السماح لدولة تمتلك تلك الدبابات بنقلها إلى القوات الأوكرانية (لا
يُسمح لأي دولة تمتلك دبابات ليوبارد ٢ بنقلها أو بيعها إلى دولة ثالثة دون موافقة ألمانيا).
في انتظار هذه الظروف، فتح الألمان صندوق حيلهم السياسية بالكامل:
* استقالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستينه لامبريشت، قبل أيام قليلة من لقاء كان مقرراً بينها وبين نظيرها الأمريكي لويد أوستن، وقبيل فترة وجيزة من انعقاد مؤتمر مجموعة الاتصال الخاصة بأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) على أرض قاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا.
* تسربت أنباء عن تأجيل لامبريشت إجراء الجرد الرسمي لدبابات "ليوبارد ١" و"ليوبارد ٢" بحوزة الجيش الألماني (بوندسڤير)، وعن ضغط الوزير الجديد، بوريس بيستوريوس، من أجل إجراء هذا الجرد، الضروري لمعرفة ما يمكن إرساله لأوكرانيا، في حال قررت ألمانيا إرسال دبابات!
* بحسب مصادر مطلعة في الجيش الألماني، يمكن تسليم ١٥ دبابة من طراز "ليوبارد 2 A5" إلى أوكرانيا دون إجراء جرد، لأنها تستخدم لأغراض التدريب حصراً.
* سبب آخر - ومهم - للمماطلة الألمانية يتعلق بالهدف الأسمى لسياستها الخارجية: المصالح الاقتصادية. فالحكومة في برلين تسعى للخروج من مصيدة وضعها الأمريكيون: إذ يمكن لواشنطن أن تستغل إرسال عدد كبير من دبابات "ليوبارد ٢"، التي تعتبر المنافس الأهم لدبابة "أبرامز" الأمريكية، كي تقفز على الفرصة وتحاول الدفع بالدبابة الأمريكية في السوق الأوروبي لتعويض النقص، وهو هدف استراتيجي لطالما كان الأمريكيون يحاولون تحقيقه، لاسيما بعد نجاحهم في شق الصف الأوروبي وإقناع الألمان باقتناء ٣٥ مقاتلة "إف ٣٥" الأمريكية المتطورة، بدل استثمار المليارات الثمانية (قيمة الصفقة) في المشروع الأوروبي المشترك لتطوير مقاتلات من الجيلين الخامس والسادس (أو حتى شراء مقاتلات رافال أو تورنادو).
* أولاف شولتس، إذن، أمام معضلة حقيقية: المماطلة في عدم تسليم دبابات "ليوبارد ٢" إلى أوكرانيا والإضرار بسمعة بلاده وثقلها الدبلوماسي داخل الكتلة الغربية جراء الانتقادات المتزايدة، أو السماح بتسليم الدبابات الألمانية والمخاطرة - مستقبلاً - بأن يُذكر في كتب التاريخ كالمستشار الذي دمر أهم مصدر دخل (وثقل جيوسياسي هام) للصناعات العسكرية الألمانية.
* كان هنالك تلويح من وزير الخارجية البولندي، ماتيوش موراڤتسكي، بتسليم دبابات "ليوبارد ٢" تمتلكها بلاده إلى أوكرانيا دون انتظار موافقة الألمان، ما قد يجازف بأزمة دبلوماسية بين البلدين، ولكن ذلك قد يكون المخرج الذي تنتظره ألمانيا: أن تسلم دولة أو اثنتان دبابات إلى أوكرانيا دون موافقة برلين، ليعقبها أزمة دبلوماسية "مفتعلة" بين تلك الدول وألمانيا، مع ضمانات مبطنة بعدم تعويض الدبابات المرسلة إلى كييف بدبابات "أبرامز".
* تصريح وزيرة الخارجية الألمانية، آنالينا بيربوك، في مقابلة مع قناة LCI الفرنسية أمس، بأن برلين "لن تعارض" إرسال دول أخرى دبابات "ليوبارد ٢" إلى أوكرانيا، يدعم هذه الفرضية وهذا المخرج المحتمل من "المعضلة الأمريكية".
* أخيراً، لم يعد هنالك مجال للشك لدى الأصدقاء قبل الأعداء بأن الولايات المتحدة تمارس سياسة أنانية للغاية، بوضع دول يفترض أنها من أقرب حلفائها "في فوهة المدفع" حرفياً، وتطعنها في ظهرها بذات الوقت. هذا بات واضحاً للألمان وللفرنسيين، ولغيرهم من الدول، وعليهم مستقبلاً إيجاد طريقة لمواجهة هذا النهج الأمريكي، الذي لا يبدو أنه مقصور على إدارة الرئيس جو بايدن، وقد يستفحل مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وجبل الديون الأمريكي.
(الصورة لدبابة "ليوبارد ٢" تابعة للقوات الدنماركية أثناء تدريب عسكري. الحقوق: Defense Media Network).